الخميس 13-3-2014
“شىء من الفوضى يفيق الغافل” (نجيب محفوظ)
مقدمة
“وَأَنْتَ اليومَ أَوْعَظُ مِنْكَ حَيَّـا”، حضرنى اليوم شطر هذا البيت من الشعر، وكان قد وصلنى مما كتبه شيخى نجيب محفوظ فى تدريباته التى أواصل استلهامها منذ أكثر من سنتين، (الصفحة رقم (53) الكراسة الكراسة الأولى23/3/1995) وهو من بيت شعر لأبى العتاهية.
وكنت دائمًا حين أقلّب فى ما كتبته نقدا فى “أصداء السيرة” ونشره لى المجلس الأعلى للثقافة فى كتاب “أصداء الأصداء”، أجد أن شيخنا مازال يعلمنا حتى بعد أن قيل أنه رحل عنا، فاخترت هذه الفقرة فى هذه الأيام لعلنا نتعلم منها معنى أكثر عمقا، وأعمق مسئولية، من التعبير الخبيث: “الفوضى الخلاقة”، هذا التعبير الذى استعمله محفوظ: “شىء من الفوضى”، يحدد الجرعة اللازمة لكى نفيق من غفلتنا، ولا نكتفى بتكرار شعارات محكمة، حتى لو كانت حسنة السمعة، براقة الوعد: مثل “القانون”، و”الحب” و”العدل”، وهو ما أعلنه الأبناء قبل أن ينبههم والدهم (الجار الطيب) إلى ضرورة الإفاقة ولو بشىء من الفوضى، (لا أكثر)، ليتحقق ما يرجون من واقع فعل إعادة التشكيل، وليس مجرد الإعلان، هذا التعبير “شىء من الفوضى” أكد لى المعنى الذى أكتب معظم ما أكتبه للناس لأحرّكهم تحت عنوان، “تعتعة” فهو العنوان الذى أكتب تحته من عشرات السنين.
شىء من الفوضى يحرك الساكن، ويوقظ الغافل، ليعيد التشكيل فيتحقق العدل ويسود الحب ويسود القانون، أما أن تستمر الفوضى حتى تحت مسمى حركى خادع وهو “الفوضى الخلاقة” ، فلن يتحقق على أرض الواقع أى مما أعلنه الأبناء لأبيهم بحسن نية قبل أن تصلهم الرسالة، فيتراجعون إلى ضبط جرعة الحركة وهم يقولون لأبيهم الذى لم يرفض حسن نيتهم، فقط حاول ضبط الجرعة ، يقولون فى نفس واحد “الحق دائما معك”.
الفقرة:86 : (نجيب محفوظ من أصداء السيرة)
عنوان الفقرة : حوار الأصيل:
إنه جارنا فنعم الجيرة ونعم الجار. عند الأصيل يتربع على أريكة أمام الباب متلفعا بعباءته، بذلك يتم للميدان جلاله وللأشجار جمالها. وعندما تودع السماء آخر حدأة يرجع أبناؤه الثلاثة من أعمالهم. وعشية السفر إلى الحج نظر فى وجوههم وسألهم: “ماذا تقولون بعد هذا الذى كان؟” فأجاب الأكبر: “لا أمل بغير القانون” “وأجاب الأوسط”. “لا حياة بغير الحب”. “وأجاب الأصغر”. “العدل أساس القانون والحب”. فابتسم الأب وقال: “لابد من شىء من الفوضى كى يفيق الغافل من غفلته”. “فتبادل الإخوة النظر مليا ثم قالوا فى نفس واحد” “الحق دائمًا معك”؟.
القراءة (النقد: كتاب أصداء الأصداء، للكاتب، مع تحديث طفيف):
قصيدة أخرى يتجلى فيها هذا الحضور الحيوى لهذا الجار الحكيم، “يحيط بنا جلال الميدان وجمال الأشجار”، ثم نجد أنفسنا فى مواجهة الأسئلة “غير المستعصية” (قارن فقرة 82 حيث تمت الإجابة عن الأسئلة “المستعصية” بالصمت اليقين) أسئلة تبدو سهلة، وإجابات تبدو بديهية، …أسئلة تستطلع مدى الإفادة من الأحداث ” ماذا تقولون بعد كل ما حدث”، وإذا بالإجابات تأتى براقة جميلة بلا معالم موضوعية فوصلتنى وهى أشبه بالشعار منها إلى الإجابة، وكأننا نقول: الحب هو الحل، أو العدل هو الحل، شيء أشبه بقولنا الإسلام هو الحل، شعارا، هكذا نرى أن هذه قيم محكمة براقة، ربما فى ظاهرها فحسب.
لم يرفض الأب الحكيم الشعارات، لكنه بهدوء، حاول أن يبلغهم أن ثمة مساحة رحبة من الحركة التلقائية تقع وسط كل هذه القيم، مساحة تمتلئ بقيمة أخرى مجهولة، لكنها فاعلة وحقيقية وضرورية، ولأنها مجهولة، فهى لا يمكن أن تصاغ فى قانون، أو تعريف، أو شعار وفى نفس الوقت هى حاضرة وحتمية كما ذكرنا، فلنسمها الفوضى المسئولة”، والأهم فى حدس محفوظ هنا أنه لم يجعل هذه المساحة ملاذا بعيدا عن القانون، أو مهربا من القيم المحددة، بل جعلها وسيلة إفاقة من الغفلة، حتى لا يستريح الناس إلى ما يتصورون أنه مريح بمجرد إعلانه، شىء أقرب إلى التوصية المباشرة بالقانون الداخلى الذى يؤكد” أن الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره” وهذا الحدس أيضًا يتداخل بشكل أو بآخر مع الإنجازات الأحدث لعلم الشواش والتركيبية، الذى أصبح يحترم الفوضى ويتعامل معها بقوانين تفيق من الغفلة فعلا، وتقلل من غلواء تقديس التحديد الخادع .
وبعد
شكرا يا شيخنا
“وَ أَنْتَ اليومَ أَوْعَظُ مِنْكَ حَيَّـا”.