الوفد
25-01-2012
وما زال نجيب محفوظ يعلمنا؟؟ (6)
شىء من الفوضى، وإفاقة من الذهول، وإلا ضاع الحلم
أولا:
الفقرة (86) “حوار الأصيل” (من الأصداء)
إنه جارنا فنعم الجيرة ونعم الجار. عند الأصيل يتربع على أريكة امام الباب متلفعا بعباءته، بذلك يتم للميدان جلاله وللأشجار جمالها، وعندما تودع السماء أخر حدأة يرجع أبناؤه الثلاثة من أعمالهم. وعشية السفر إلى الحج نظر فى وجوههم وسألهم: “ماذا تقولون بعد هذا الذى كان؟” فأجاب الأكبر: “لا أمل بغير القانون” “وأجاب الأوسط”. “لا حياة بغير الحب”. “وأجاب الأصغر”. “العدل أساس القانون والحب”. فابتسم الأب وقال: “لابد من شيء من الفوضى كى يفيق الغافل من غفلته”. “فتبادل الاخوة النظر مليا ثم قالوا فى نفس واحد: “الحق دائما معك”؟.
النقد الباكر ( أصداء الأصداء :1996)
قصيدة أخرى يتمم فيها محفوظ الحضور الحيوى لهذا الأب الحكيم الجالس فى جلال الميدان أمام جمال الأشجار، ثم نجد أنفسنا فى مواجهة الأسئلة “غير المستعصية” (قارن فقرة 82 حيث تمت الإجابة عن الأسئلة “المستعصية” بالصمت اليقين) أسئلة تبدو سهلة، وإجابات تبدو بديهية، إلا أن المسألة ليست هكذا تماما، إذ مهما كانت الإجابات محددة، حتى بموافقة الحكيم المزمِـع على الرحيل (عشية السفر للحج، وأيضا الوقت عند الأصيل) فإنه يستحيل الاطمئنان إلى مجرد تحديدها “هكذا” لا بالقانون، ولا بالحب، ولا بالعدل أساس كل من القانون والحب، وقد شعرت أن هذه الإجابات هى أشبه بالشعار منها إلى الإجابة، وكأننا نقول: الحب هو الحل، أو العدل هو الحل، شيء أشبه بقولنا “الإسلام هو الحل”، أو “الديمقراطية هى الحل”! لا شك أنها قيم جيدة لكنها كلمات رنانة محكمة فى ظاهرها فحسب، أما الأهم من الرد الحاسم والوضوح الجاهز فهو الاعتراف بأن ثمة مساحة رحبة تقع وسطها كل هذه القيم، مساحة تمتليء بقيمة أخرى مجهولة، لكنها فاعلة وحقيقية وضرورية، ولأنها مجهولة، فهى لايمكن أن تصاغ فى قانون، أو تعريف، أو شعار يتداخل مع هذه الردود، وفى نفس الوقت هى حاضرة وحتمية كما ذكرنا، هذه القيمة أسماها الأب “الفوضى”، والأهم فى حدس محفوظ هنا أنه لم يجعل هذه المساحة ملاذا بعيدا عن القانون، أو مهربا من القيم المحددة، بل جعلها وسيلة إفاقة من الغفلة، حتى لايستريح الناس إلى ما يتصورون أنه مريح جاهز، شىء أقرب إلى التوصية المباشرة بالقانون الداخلى الذى يؤكد” أن الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره” وهذا الحدس أيضا يتداخل بشكل أو بآخر مع الإنجازات الأحدث لعلم الشواش والتركيبة، الذى أصبح يحترم الفوضى ويتعامل معها بقوانين تـُفيق من الغفلة فعلا، وتقلل من غلواء تقديس التحديد الخادع.
****
التحديث (يناير 2012)
لا أبالغ فأقول إن ورود كلمة الميدان هنا لها دلالة خاصة أو أن لها أدنى علاقة بميدان التحرير، ومع ذلك فلا أريد أن أخفى، وأنا الفلاح، أن التربع على الباب من أب طيب مثل هذا، لا يكون عادة فى قريتنا فى ميدان، وإنما على مصطبة أمام باب الدار فى حارة أو شارع، أو فى حوش الدار المتسع الرحيب، ومع ذلك ذكر محفوظ أنه: “ بذلك يتم للميدان جلاله وللأشجار جمالها”، ولعلها مصادفة تستلفت النظر، لكنـنى أظل مصرا على رفض ما خطر لى، وإنما ذكرته ليقبله من شاء على مسئوليته.
النقلة بعد ذلك جاءت سريعة، حيث كان الأب الطيب أكثر وعيا بحتم النهاية، فانتقل الوقت إلى عشية السفر للحج، إذن فهو الحكيم الذى يعرف أن لكل شىء نهاية، وليس الكبير الذاهل فى وهم الخلود، وبالتالى يحاول هذا الحكيم أن ينبه الشباب إلى مسئوليتهم بعد غيابه وتوقعه أن ما كان ويكون به من الرسائل ما يعينهم على حمل الأمانة ” بعد أن ينتقل إلى الحج أو إلى ربه “وعشية السفر إلى الحج نظر فى وجوههم وسألهم: “ماذا تقولون بعد هذا الذى كان؟” وهو لا يحدد “”الذى كان”، فيقول الشباب كلاما مفيدا مباشرا سهلا صحيحا، لكنه كلام، ويبدو أن الجار أو الأب الحكيم يخشى عليهم من قلة الخبرة، والتوقف عند هذه الإجابات المباشرة السهلة، دون معرفة ما يلزمها من مخاطرة التفكك المرحلى الضرورى لتحقيق التشكيل الجديد الذى هو قادر أن يحيل ما أعلنوه من شعارات إلى ثورة مبدعة يتوقف تحقيقها على النجاح فى المرور بمرحلة الفوضى التى خففها الحكيم بقوله “شىء من الفوضى”، وأحسب أن هذا التعبير هو الأكثر تناسبا مع الفوضى التى هى مرحلة هامة من مراحل الإبداع ، وأحسب أنه تعبير أكثر واقعية من تعبير كونداليزا رايس عن “الفوضى الخلاقة”، فالفوضى فى ذاتها ليست خلاقة، لكنها تكون كذلك إذا تطورت إلى تشكيل إبداع جديد، كما جاء فى النقد الباكر، وتعبير “شىء من الفوضى” لا يخفف من رعب المخاطرة، لكنه ينبه إلى سوء مآل التمادى فى مرحلة الفوضى بما يؤدى إلى التفسخ العصىّ على أى تشكيل أو حتى على الرجوع إلى الوضع القديم.
ثانيا: الفقرة (83) “الذكرى” (من الأصداء 1994)
فى يوم السوق بحارتنا اخترقت الجموع امرأة عارية تتهادى، تسير فى ترفع وتذيب مفاتنها الصخور، كف الناس عن البيع والشراء ووقفوا ينظرون بأعين ذاهلة. كذلك مضت حتى غيّبها المنعطف الأخير، وأفاق الناس من ذهولهم فركبتهم حال جنون واندفعوا نحو المنعطف، فتشوا فى كل مكان ولكنهم لم يعثروا لها على أثر.
كلما خطر ذكرها على القلوب أكلتها الحسرة.
*****
النقد الباكر (أصداء الأصداء : 1996)
يحذق محفوظ – كما ذكرنا كثيرا- لعبة تقديم الفرص الواعدة ثم الإسراع بإخفائها، بنفس القدر الذى يتوقف به عند اللحظات العابرة الدالة والملوّحة، وهذه المرة يقدمها لنا فى صورة امرأة مترفعة فاتنه، وعارية أيضا، هل هى الحقيقة البسيطة المجردة المليئة بالوعد والتكامل؟
النظرة الأولى المترفعة التى لا تحتاج إلى ستر أو ادعاء تقول إنها فاتنة فى ترفع خليق بقيمتها، ولم ينقص العرى من هذه الفتنة المتعالية، بل زادها جمالا؟ وهى بهذه الصورة، تلوح لتذكـّر، تظهر لتختفى، تذكرنا أنها موجودة لنواصل السعى نحوها، لا لنصل إليها، وقد تأتى لحظات أو فترات إبداع أو نبوة أو كشف، فتمكث معنا أطول قليلا، لكنها سرعان ما تختفى فى المنعطف الأخير، تختفى لا تمـحى، ولا يبقى علينا إلا أن نواصل السعى طالما أننا رأيناها رأى العين هكذا: فاتنة مترفعة واعدة رائعة.
التحديث (يناير 2012)
فى النقد الباكر كان التركيز عٍلى تلك الفاتنة المترفعة العارية، باعتبارها “الحقيقة” التى ننجذب جميعا نحوها بشغف المعرفة وبهجة الوعد، ولم يخطر ببالى أنها قد تكون أمل الجماهير، أو حلم “الثورة”، لكننى وأنا أتابع ما لاح لنا فى الأيام الأولى من الثورة خيل إلىّ كأن الحلم تحقق بسحر خفى، فرحنا نندفع وراء شبابنا الذين ظهروا وكأنهم فتحوا لنا أبواب الجنة، فكأنا ذهلنا من البهجة والمفاجأة معا، حتى توقف السعى الضرورى لمواصلة الحياة “كف الناس عن البيع والشراء“، وكأنهم وصلوا إلى غاية المراد، فلماذا الجهد، ولماذا السعى وها هى الجميلة تذيب الصخور بمجرد مرورها بخيالنا الذى أصبح واقعا، فهو الذهول، فتتسرب منا الجميلة بنفس سرعة ظهورها، ونظل نحن فى ذهولنا نكرر نفس الدور “السكريبت” دون نقلة واقعية تفيقنا من ذهولنا حتى نعود لالتزاماتنا المرموز لها بالبيع والشراء، ونظل نبحث ذاهلين عن الحلم المختفى.
أتوقف لأدعو الله ألا يكون حدس محفوظ قد تنبأ بنهاية نحاول جميعا أن نتجنبها الآن حتى لا تختفى الجميلة “الثورة” فى منعطف مجهول، فنتصوّر أنها كانت وهما، أو حلما، أو اختبارا، أو مؤامرة؟ ولا يبقى إلا أن نواصل البحث بأعين ذاهلة “ولا نعثر لها على أثر”.
لا يا عم محفوظ، حنانيك، جميلتنا هذه كلما خطر ذكرها على القلوب سعت إليها لتعيدها من المنعطف إلى الميدان، تفرح بنا ونحن نعاود البيع والشراء.
ولم لا وأنت تثق فينا بكل عناد التفاؤل وألمه وبهجته؟