نشرت فى الدستور
1 – 3 – 2006
شهادة وفاة: تحتاج لتوقيع الميت
كنا نحسب أن شعب مصر قد مات، وأنه لم يعد يحتاج إلا لشهادة وفاة لإتمام إجراءات دفنه، ثم جاءت هيجة الشباب حول كأس الأمم الإفريقية، ثم رعب الجميع من أنفلونزا الطيور بما فى ذلك شائعة تلوث المياه، لتقول إن هذا الشعب حى من حقه أن يعيش، حتى لو كانوا قد أعدوا العدة “لدفنه سرا”. وأنا أكتب هذا التعبير (دفنهِ سرّا) ، تذكرت قصيدة كتبتُها سنة 1980 ونشرت فى ديوان مجهول اسمه “البيت الزجاجى والثعبان” سنة 1983، هذا نصها :
ونَعََى الناعى: أن الإنسانَ الميتَ ماتْ، من زمنٍ ماتْ، والدفنةُ سرَّا، من خلف ظهور القتلهْ (لا يحملُ نعشَ الميِّتِ قاتـلُهُ). الميت ماتْ، لكن شهادة دفنِهْ، لم تُختمْ بعدْ، يلزمُها التوقيع بخطَّ الميت، لكنَّ الميت يأبى، يرفض أن يُعلن موته. يختلف الورثةْ، [هـُمْ ذاتُ القتلة]، أبناءُ سفاحِ المرحومْ: مع فكرٍ أملسْ، مع كلِّ الكلماتٍ اللزِجَهْ، مع آلةِ تفكيك المعنى، مع جمْعِ زُناة الخمارة: الساسةِ ، مرتزقة فكر السوقِ، وفتواتِ الحارةْ.
وبرغم الفحص وتأكيد المشرحةِ الثلاّجةْ – غُرفةِ نوم العذراءِ المومسْ، يملأُ وجهَ الميَّتِ أحشاءَ الحارهْ، يعلنُ وسْط الجمعِ الحاشدْ: لن أتركها إلا حيا!!
كأنى كتبت الفصيدة الآن، لن نتركها لهم أبدا، هذه حياتنا كامنة تنتظر فرحة نصر، أو تهديد بقاء، لتنتفض تعلن أن المارد كامن وليس ميتا، وأنه يمكن أن تدب فيه الحياة فى أى وقت.
وبرغم ذلك، لم أملك إلا أن أتعجب كيف نخاف كل هذا الخوف على حياتنا من موقع تهديد الفناء الجسدى، مثلنا مثل أىَّ حى أدنى، ولا نفزع لتهديد نوعنا بشرا؟ الحرص على الحياة لا يحتاج إلى تفسير، ولا إلى ذكاء، أومبررات. كل الأحياء تحرص على الحياة من أول الذبابة التى تتابعها مِذبّة وهى على زجاج النافذة، حتى الطيور المهاجرة . كل الأحياء تفزع فـُرادى وجماعات إذا هدَّدها الفناء، فبماذا يتميز الإنسان عن سائر الأحياء؟ لماذا فزع المصريون كل هذا الفزع حتى بدا أنهم أحرص الناس على حياة؟ أيا كانت؟ هل نحن نحيا كبشر متميزين؟ أم أننا مجرد أحياء مثل الباقى؟ هل نحن أحياء لمجرد أننا نتنفس ونأكل ونشرب ونٌخرج ونتناسل ونتكاثر من فرط الفراغ، ولنغيظ الحكومة بكثرتنا، وخلاص؟ حين يزداد عدد نوع من الأحياء عن احتمالات موارد البيئة، تنشأ ميكانزمات تخفض التكاثر حرصا على النوع، فهل يوجد مثل ذلك عند البشر ممثلا فى الحروب والكوارث المرضية والأوبئة، والشذوذ الجنسى؟
هل يكون حِرصنا هكذا على مبدأ الحياة هو إعلان لإصرارنا على أن الخطوة التالية هى أن نستعيد نوعيتنا بشرا متميزا؟ حفظ النوع مزروع ومُبَرْمَجٌ فى كل الأحياء، لكن حفظ النوعية هو شىءٌ آخر. يقول صلاح عبد الصبور فى ليلى والمجنون” رعب أكبرُ من هذا سوف يجىء، لن ينجيكم أن تعتصموامنه بأعالى جبال الصمت ..إلخ”, نعم رعب أكبر من هذا واجبُ حين نكتشف أنهم كانوا يدبرونها ليدفنوننا أحياء. لعلهم تصوروا أنهم نجحوا فى ذلك حتى فوجئوا بشبابنا يُخرج لهم ألسنتهم مع أعلامنا من قمقم كامن، ثم ها هو الرعب من أنفلونزا الطيور وتلوُّث المياه يعلن به الميّت المزعوم أنه ليس شريكا فى الجريمة، فهو يرفض توقيع شهادة وفاته، حتى”لا يحمل نعشَ الميت قاتلُه”.
فى نفس الديوان (البيت الزجاجى 1983) عثرت على قصيدة بعنوان “الأغنية الثكلى”، لعلها تصلح لتفسير أن إشاعة تلوث المياة كانت لعبة بيزنس التجارة بمخاوف وأحلام الناس، تقول القصيدة:
يا باعة أوهام السعد (القولٍ الضدْ، بحلولٍ الغدْ، الوعدِ الوغدْ ، بنزولٍ العدَّ) : سِـلعتكمْ فسدتْ، والعنقُ المقطوعة مـُدّتْ، طأطأتِ الرأسُ استخذاءَا، غمزتْ عينٌ يُسرى قبل طلوع الروحْ….
يا سادهْ: يا أسرع من هربَ بسردابِ الكلمهْ، يا أجبن من أعطى الجوعانَ اللقمهْْ: مسمومهْ ، مسمومهْ، مسمومهْ . بِِعـتمْ للأطفالٍ العزَّلِ وهْمَ الحرية، وهمو سمكٌ قد ترك الماءَ بحسنِ النيَّة، وتقـلَّب فوق الرمل الساخنْ، فاحت رائحةُ شِواءْ، !!!!
عَبثتْ إصبعُ زانٍ فى اوتارِ العانهْ، وانغمس السيفُ الخشبىُّ المـُشهرُ داخلَ غِمد الظـُّلمهْ، فانطلقتْ حشرجةُ الأغنية الثكلى: ”ليس بجوف الناسِ عصارهْ، أغلقت الخمارة. . .”
انتهت القصيدة، لكن هاهى الأيام تثبت أن عصارة الحياة فينا كانت كامنة قادرة على أن تنبض: بفرحة نصر عابر، وأيضا برعب من فناء مهدّد، تمهيدا لفرحة إبداع الحياة الحقيقية “بنا معا”، وأيضا قادرة على أن تنبض برعب آخر، رعب من تهديد “إنسانيتنا” بالضمور نتيجة عدم الاستعمال !!!