الأهرام: 16/10/1986
شباب مصر أين يقف من التيارات الفكرية اليوم
التطرف والجمود: ضد الدين وضد اليسار
ما هو مفهوم التطرف، وقد شاع – هكذا- بين الشباب، بما يعد ظاهرة مهددة لأمل الناس وحركة المستقبل؟
أحب- أولاً- أن أدافع عن كلمة التطرف (وليس عن مفهوم التطرف كما شاع حديثا)، فالتطرف كلمة لها أصل دقيق، و ”وجه آخر” لا ننتبه اليه عادة وقد سبق ان ميزت على هذه الصفحة بين التطرف والتعصب، حيث نبهت انه لا ينبغى ان يكون هجومنا على التطرف لمجرد انه يمثل موقفا قصيا على طرف القضية، وانما يجدر بنا ان نحذر من الجمود والتوقف عند ذاك الطرف، الجمود بمعنى التمسك بالموقف الطرفى دون حوار أو احتمال حركة، وهذا هو التعصب.
س- هل معنى ذلك انك تدافع عن التطرف؟
ليس تماما،وانما انا اميز بين مفهوم سييء شاع، وبين حماس منتظر من الشباب، ومطلوب من الناس، ذاك انه اذا كان التطرف هو نقطة قصوى فى حركة مستمرة، فهو بذلك ضرورة حتمية فى حركة الحوار، اما اذا كان نهاية المطاف، ومهربا يختبيء فيه الشاب (والانسان عامة) من مسئولية وجوده مختلفا مع ‘آخر’ فانه التعصب والجمود بكل ما يحمل من صمت الموت وخطر الانفجار .
س- فأنت تريد ان تميز اساسا بين الحركة والسكون، أو بين التطور والجمود، وكان الجمود والسكون هما الخطر من التطرف وليس التطرف ذاته؟
اعتقد ان هذه هى قضيتنا الحقيقية مع الشباب وغير الشباب لأننا نحتاج ان نتطرف فى موقفنا مع الحق، مع الناس، مع العدل .نحتاج ان تكون معالمنا واضحة تجاه المبادىء، والأنتماء،والقيمة، وهذا يجعلنا نقف بعيدا عن ميوعة الوسط وخبث التسويات النصفية، لكن هذا الوضوح بالنسبة للأهداف والمباديء لا ينبغى ان يبرر الجمود بالنسبة للوسائل، والمرونة اللازمة للمسيرة الواقعية نحو اهدافنا هى ضد التطرف حتما، وليس معنى ان اكون انا الممثل الأول، أو الأوحد، لما هو الحق ‘كما أراه شخصيا.. ودائما ” بل لابد من حوار وسماح، وانصات، وإعادة نظر طوال الوقت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما معناه”.والله لو واضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على ان اترك هذا الامر أو اهلك دونه، ما تركته … وقال” … ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن ..” اذن قد يكون من الشرف والفخر ان اتطرف ومن الجبن والغرور أن اتعصب.
س- اذن فما الذى يقلب هذا التطرف الواضح الحركة، إلى ذلك التعصب الجمود الانغلاق (مما يمكن ان يسمح لنا بتسميته: الوجه السييء للتطرف، أو التطرف الجمود)؟
أعتقد أنها عوامل كثيرة ذات تاريخ طويل، وما يهمنا الان هو ان نعلنها صريحة ومباشرة هكذا : إن المشكلة ليست مشكلة شبابا متدين خائف منسحب مندفع معا، ولا هى مشكلة شباب متحجج رافض حالم – ايديولوجيا !- بالمساواة المستحيلة والعدل الرومانسي، وانما هى مشكلة مجتمع بأسرة، افتقد الحوار الحقيقى حتى انتهى الأمر بفصائله إلى الرؤية الواحدة، فالرأى الواحد، والموقف الواحد، على طرف واحد، قصي، بلا حراك.
س- ولكن كيف ذلك ونحن نعيش فى ظل ديمقراطية تسمح بالجدل واجتلاف الآراء وتعدد الأحزاب فى ظل حماية القانون؟
انا لا أنكر القدر المتوضع من الحرية التى تظلنا، لكننا مازالنا فى بداية الطريق، فلا يكفى السماح الخارجى لنقول: حرية، ولكن لابد ان يمتد هذا السماح إلى داخلى بما يسمح بحوار أساسى مع نفسي، حوار حقيقى فيه كل احتمالات المراجعة والتراجع أو التغير فى اى اتجاه أفضل، وهذا أمر يحتاج إلى وقت طويل وممارسة وقيم راسخة ونضج كاف، واسمح لى ان أقول لك إن الحوار بلا فاعلية حقيقية،ذلك أننا قد نتبادل الكلمات، وقد نتراشق المقالات، وقد نتصايح المباديء وقد نتحزب السياسة، أنما يتم وقد تجمع كل فريق فى جزيرته المنعزلة، ينصب على كثبانها مكبرات الصوت وأشرطة التصفيق، وهات ياصياح الفخر والهجاء والكر والفر، والاتهام والدفاع (وكاننا نتحاور) فتتباعد جزر وجودنا عن بعضناالبعض أكثر فأكثر نتيجة لتنافر الشحنات وصمم التلقي،فتنقلب الأصوات العالية إلى مفرقعات مدوية تسرى فى ظلام العمى والصمم، فتصيب الجميع بما لم يحسبوا
أجيب ان هذا الأمر يحتاج إلى مزيد من الأيضاح، وخاصة ان الشباب يعتبر ان مجرد اعلانه اختلافه هو دليل على قوة احتجاجه وهو يعلن رفضه مسبقا ومؤكدا وهو يحسب انه بذلك يمارس حرية الحوار، فهلا أوضحت لنا – ولهم – كيف يكون حقيقيا، وما هى طبيعة الحوار الجارى الآن ؟
أولا: إننا نتحاور ليثبت الواحد منا للآخر انه (الواحد) على صواب تماما (100%) وان الآخر مخطيء تماما (100%) لدرجة لو صدقناها لحسبنا أن واحدا من المتحاورين هو أينشتين وأن الثانى متخلف عقليا (وبالعكس) .
ثانيا: اننا نتحاور لنتخلص من وجود الآخر، لا لنستلهم منه ما غاب عنا.
ثالثا: نحن نبدأ حوارنا عادة بمسلمات نفرضها فرضا كان نستشهد بقول مأثور، أو سلفية مقدسة، أو ايديولوجية براقة، ثم نرتب على ذلك ما يليه من دفاع وهجوم ونفى وإثبات، ومع ان مثل هذه البديهات والمسلمات الأولية هى أولى الأمور بالمناقشة وإعادة النظر.
رابعا: إن حوارنا عادة ينتهى بانتهاء ‘تبادل الكلام ‘ سواء كان ذلك مصحوبا بغصة العجز عن اثبات وجاهة الرأي، مع استمرار التمسك به، وهذا وذاك لا يضيف إلى المنتصر أو المنهزم أيه اضافة، وانما يكون الحوار حوارا اذا لا حقنى بعد انصرافى من المواجهة لا حقنى وهو يلح على عقلى ووجداني، فى يقظتى وأحلامى مما يضطرنى إلى اعادة النظر ومغامرة التغير.
س- ولكنك بهذا تضع القضية وكانها قضية فكرية، بل دعنى اقل فلسفية، فاين البعد الاجتماعي، والبعد الاقتصادى والبعد النفسى ؟
-اسمح لى أولاً أن أنيه على أن استعمال كلمة فلسفة بعيدا عن دورها الفعال فى الممارسة اليومية هو انتقاص من شرف حركة عقولنا، فالفلسفة هى ممارسة العقل الفعلى – لا المجرد – لتحريك وتغيير واقع الحياة وطبيعة الوجود، واذا كنا نتحدث عن التطرف والجمود، فالفلسفة المعاشة بالحركة والمراجعة، ثم دعنى انتقل بعد ذلك إلى التنبيه على خطورة الانسياق وراء التفسيرات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية استسهالا، بمعنى أنه لا يمكن القول أن الشباب الأكثر فقرا هو الأكثر تطرفا مثلا (حتى لو قالت الاحصاءات ذلك) لأن الشباب الأكثر ثراء هو متطرف أيضا وإن كان تطرفه سلبيا، بمعنى أنه يقبع ساكنا مجمدا على طرف القضية، ولكن على الناحية الأخرى أمام الفيديو، وفى صالات الديسكو، وهو لا يراجع موقفه، ولا يحاور ما يستورده من عادات، ولا ما يلقى اليه من أفلام وخيالات، فهو متطرف ساكن مقابل المتطرف المندفع من موقع تجمد متفجر معا.
س- فماذا عن البعد النفسى والاجتماعى؟
- بصراحة، وبالرغم من تخصصي، فأنا لا أحب أن أقحم التفسير النفسى هكذا فى كل شيء ومع ذلك فدعنى أقل لك أن التطرف والجمود هو موقف دفاعى ضد ميوعة الوسط، وضد غموض القدوة وتذبذبها وضد الانسياق وراء كلمات وشعارات تغرى بما لا تستطيع، وتعد بما لا تفعل، فالشباب فى هذه الأحوال لا يطبق الصبر على الحلول الوسطي، والوعود السرابية، فيضطرأن يتحوصل فى أقصى أحد لاأطراف، محتميا بفكرة الخاص الذى يعده بحسم أوضح، وحل أسرع، ومصير أضمن، وبالنسبة للموقف الاجتماعي، فان مجتمعنا قد عاش لمدة ثلث قرن بالتمام ‘ينبغى أن يفكر به، حتى سادت قيمة ‘الجماع’ فى كل المجالات (حتى البعيدة عن السياسة والدين ك مثل مجالس الأقسام أو الكليات أو حتى تقييم البحث العلمي) مع أن الاجماع هو الاعلان عن أضعف الحوار،وكل هذا انما يعلن أننا نعيش مجتمع القبيلة – فكريا – حيث الأقلية (ورأى الأقلية) منبوذة وعاقة حتما.
س- ولكن المسألة بالنسبة للشباب اتخذت شكلا محددا فى صورة التطرف الديني، ،وفى المقابل التطرف الأيديولوجى اليسارى ، فما تفسير ذلك وهل الدين ذو التقدمية يدعوان لمثل ذلك؟
أفهم أن الموقف الايمانى – وسيلته الأولى هى الدين، والتدين – هو حركة فى اتجاه التناغم الأعلي، كدحا إلى وجه الله، ابتغاء مرضاته، وهو الفطرة النامية فى سبيلها إلى التصالح مع أصلها، وبهذه الصورة فالدين نقيض الجمود والتطرف حتما، وأرى أن المسئول عن تشويه الدين بصورته الشائعة بين الشباب هو التناول الطسحى لدور الدين الحضارى والتطوري، فهذه الدعاية للدين بقشور العلم، وهذه الرشاوى المطمئنة والمعفية من التفكير، تقدم الدين باعتباره مظلة جيدة، بها أزرار جاهزة، تمطر أجوبة مصقولة وكاملة لكل من يضغط عليها من الشباب (غير الشباب) – وبالتالى فإن الفكر يتوقف معتمدا على التلقى الذى لا يؤدى إلا إلى مزيد من السكون فالجمود، فالتطرف الخطر، وحتى نحاور هؤلاء الشباب – فى مسلسلات التليفزيون مثلا – لا نحاورهم لتحريك فكرهم، وتقريبهم من الوعى ببقية البشر من أديان ومواقف أخرى، وانما نحن نواجه سكونا بسكون أرسخ، والنتيجة أنهم يخرجون أكثر اطمئنانا إلى سكونهم الدينى (قطاع خاص) من السكون الدينى الرسمى، والأولى بنا أن نواجه السكون لدينى بالحركة اليمانية، وأن نحاور الجمود التعصبى بالابداع المغامر الذى يرينا وجه الله فى أنفسنا وفى الافاق دون استعارة معلومات علم ضعيف، أو خطابة معادة.
س- فماذا عن التطرف إلى اليسار وأصحابه يقولون بالتقدمية والتطور كما تشير؟
- التطرف إلى اليسار هو ضد اليسار أيضا، وترادف كلمة اليسار مع التقدمية هو خطأ شائع لأن اليسار موقف فى ناحية، والتقدمية حركة فى اتجاه، والمطروح على الوعى البشرى هو الحركة ضد السكون، وليس اليسار ضد اليمين، وما يعيب شبابنا اليسارى هو أنه يعيش يسار العشرينيات حتى الأربعينيات، ثم إن مسألة شكل التطرف يسارا تعتمد على درجة تطور الشعب عامة، وقارن بين حوار سلطة اليمن الجنوبية بالسلاح والاعدام، وحوار بولندا بالاحتواء والتدرج (وكلاهما يسار شديد).