نشرت فى الدستور
20-9-2006
سيناريو بنى مزار ..، والخروج عن النص!
أتعلم الطب النفسى –أكثر- من خارج الطب النفسى، من الأدب، ومن التاريخ، ومن الناس بما فيهم رجال القانون والبوليس والمتهمين والمجرمين والأبرياء جميعا.
المشهد الأول :
المكان : قسم بوليس فى كفر الدوار، الوقت: منذ أكثر من ربع قرن المناسبة: خاصة جدا. الموقف: أنا جالس على “دكة” أنتظر دورى فى نفس حجرة حضرة الضابط النوبتجى، شاب ملازم، سمْح، مصرى، قوى، طيب، كان ينهى مهمته مع امرأة مصرية مثله، وزوجها، مصرى أيضا، مصرى جدا، (أستعمل كلمة مصرى هنا ليس بمعنى المواطنة !!)، يقوم الشاب الملازم بمحاولة إصلاح ذات البين مع الرجل وزوجته وينتهى الأمر بأن يقبّل الرجل رأس زوجته، وينصرفان وهما يدعوان للشاب بالسعادة المصرية والإفادة (ربنا يسعدك، ويصلح ما بين يديدك).
انتهت اللقطة الأولى، وجاء دورى، ولم أكن معروفا آنذاك بنفس الدرجة الخانقة التى أعانى منها الآن، أنهى الشاب الضابط مهمتى تماما مثل المواطنين اللذين سبقانى، وكان بنفس الرقة والأدب والحب والكرم. أثناء عودتى راضيا شاكرا، رحت أتعجب كيف يقوم هذا الشاب بهذا الدور الإنسانى الرائع دون مقابل، (إلا مرتبه التافه)، وهو الدور الذى أقوم به فى عيادتى مقابل الشىء الفلانى، وبكفاءة أقل (عادة)؟
المشهد الثانى:
المكان: مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، المفحوص متهم فى جريمة قتل والده المريض بالمعاش، بتحطيم رأسه بيد الهون أثناء جلوسه يتشمس فى الشرفة صباح يوم مشرق لشتاء حزين، المطلوب تقدير مدى مسئولية المتهم عن ارتكاب الجريمة التى بدت للمحققين بغير سبب ظاهر، علما بأن الإبن المتهم كان يعالج بغير انتظام عند زميل بالصعيد. رحت اقرأ تفاصيل ملف الجريمة، وإذا بى أفاجأ بكلام عن الجماعات، وانتماء هذا الشاب إليها، وحرصه على تكفير والده، وكلام كثير مما كان شائعا أيامها نقرأه فى الصحف ليل نهار، سألت الشاب الأسئلة الطبية التقليدية، ثم عرجت على ما جاء فى الملف، فإذا به لا يعرف حرفا مما جاء به، ولم يسمع أصلا عن شىء اسمه الجماعات، وربما لا يعرف اتجاه القبلة، وليس ذلك بسبب مرضه، ولكن لظروف عدم تدينه أصلا دون عصيان مقصود. راجعته وقلت له إن توقيعه موجود على هذا الكلام الذى أناقشه فيه، فأجاب بأنه وقع لأن الضابط قال له وقع هنا، وخلاص.
رجحت أن الضابط لم يكن يقصد إيذاء الشاب أو تحويله إلى إرهابى، الجريمة غامضة، لم يكن ثم شجار أو خلاف بين الأبن والوالد، ما الذى أدخل الجماعات فى الموضوع؟ المهم فحصت الشاب وكتبت التقريرالعلمى الموضوعى دون التعليق تفصيلا على ما جاء بأوراق التحقيق فهو لا يتصل بمهمتى تحديداً.
المشهد الحالى:
الجريمة (بنى مزار) غامضة جدا جدا، نعم جدا جدا جدا، ثم يظهر شاب فى خلفية المنظر بالصدفة، ويتبين أنه كان يتردد على عيادة نفسية، وهو يمكن أن يعترف بارتكاب الجريمة بضمان أنه سيصنف مجنونا غير مسئول، وبالتالى سوف ينال البراءة تحت كل الظروف، هذا ليس تلفيقا مع سبق الاصرار، هذا إجراء قد يتم حتى لا شعوريا، وبحسن نية تحقيقية، لزوم أشياء رسمية، فلا بأس من كذا وكيت وعندنا شهود الإثبات طيبين جاهزين مكلومين أو غير مكلومين، وكل هذا لن يضر هذا الشاب المسكين ما دام الحكم بالبراءة مضمون بسبب جنونه بالسلامة
الخروج عن النص:
تقرير لجنة الفحص الطبى أن الشاب، لم يكن مجنونا، وبالتالى فهو مسئول عن فعلته إن كان فعلها.
المفاجأة:
يا خبر أسود ومنيل، ما العمل؟ راح الولد فى ستين داهية دون قصد مسبق من رجال البوليس.
مفاجأة تصحيحية : حكمت المحكمة : براءة
إذن ماذا؟ ؟
بدلا من انتهازها فرصة وحمد الله على إنقاذ هذا البرىء الذى كان سيهلك دون جريمة، يركب المسئولون الطيبون وغير الطيبين رؤوسهم، حتى يكادوا يصدقون أنفسهم، وهات يا تأكيد أن أدلتهم صحيحة 100%: وكأن المحكمة لم تصدر حكمها بالبراءة أصلا.
الجريمة التى يمكن أن تترتب على هذا الموقف العنيد الأخير، وعلى هذه التصريحات الخطيرة ضد حكم المحكمة هى: إعدام هذا الشاب البرىء ليس بحكم المحكمة، وإنما باستثارة ضحايا “مجرمين” آخرين يثقون فى “الحكومة” أكثر من ثقتهم فى “المحكمة”!!
الخاتمة:
على كل من يتق الله فى أرواح البشر أن يحمد الله على إحقاق الحق، وأن يكف عن إثارة أهل الضحايا، وأن يسارع بفتح الملف من جديد، بحثا عن الجناة؟ مهما كانت المسألة صعبة اتقاءً لجريمة أخرى تدبر فى العلن أو الخفاء.
لهفى على الجميع بما فيهم صغار الضباط (وبعض كبارهم) لو أن هذا الشاب هلك – بحسبةً غير مقصودة . كيف يعيشون بعده وضمائرهم مستريحة ؟ وماذا عن أهل البرىء؟ يا رب سترك.