نشرت فى الدستور
17-1-2007
… سيد العاقلين!!!
(1)
يمد الرجل يده ليطفئ السيجارة الحادية عشرة فى المطفأة فتكاد تحرق سبابته، ينتبه ويحسن إطفاءها، تتباطأ هزات الكرسى الهزاز حتى تكاد تتوقف. البحيرة تمتد أمامه فيتذكر كيف فتحوا البحر عليها، يتذكر كيف استقبلت البحيرة أمواج البحر الغامرة قلقة مترددة، ثم يرى الآن كيف استكانت فى حضنه، أو لعله هو الذى استكان فى حضنها، كيف غسل وجهها فاحتوت ثورته.
(2)
تُهاجمه الأرقام فتطمس الصورة كلها فينسى حتى أين هو، يمّحى الفرق بين مكتبه فى الدور السابع عشر على كورنيش النيل وبين جلسته الآن أمام البحيرة/البحر فى مارينا، لا يعرف كيف استحال النيل إلى ذلك الثعبان الميت، كما تتحول هذه البحيرة الآن إلى بقايا تلك الضفدعة المفلطحة المشلولة، تحيط بها جثة ذلك الدينصور العملاق الأسطورى.
(3)
ينتبه الرجل إلى البنت وهو تجلس بجواره صامتة تتأمل الشمس وهى تقترب بهدوء من سطح البحر تلثم وجهه قبل أن يحتويها فى عباءته الدافئة، لتشرق شمسا أخرى فى اليوم التالى، التفتت إلى والدها، بدا لها بعيدا بعيدا، سألته فجأة: “ماذا تحسب يا أبى؟”، قال لها: “ومن أدراكِ أننى أحسب؟” قالت: آسفة، خيل إلى ذلك، لكن يا أبى بالله عليك: ماذا بعد كل هذا؟” قال الرجل فى سماح مستغرب: “هذا ماذا يا حبيبتى؟ ” قالت البنت “نحن لن نستطيع أن نصرف كل ما عندنا قبل أن نموت.”، قال الأب فى انزعاج متوقع: “قبل ماذا!!؟!” قالت “..حتى لو حضرتك عشت ألف سنة”، فلن تصرف نصف هذا قبل أن تموت”، زاد انزعاج الرجل، وعلا صوته غير مصدق: “من ذا الذى يموت؟” قالت البنت دون تفكير: “حضرتك”، لكنها استدركت بسرعة “أعنى حضرتك أوّلا، أليس الأكبر يموت أولا؟ “قال الأب: “ليس دائما”، قالت البنت: “هو حضرتك إن شاء الله حين تموت، أنا سأرث كم؟”.
(4)
تذكر الأب صورة أزعجته رسمها صلاح جاهين بها نفس المعنى، تصور أنها هى التى أوحت له بهذا الكاريكاتير مع أنه مات قبل مولدها غالبا. سألها “متى عيد ميلادك يا جميلتى؟ قالت البنت: هل أنا جميلتك يا أبى، أم جميلة فقط، ولماذا أشعر أننى لست جميلة؟ قال أبوها: أنت مثل القمر يا حبيبتى، قالت: لكن القمر مظلم من داخله، ثم استمرت: “لماذا أنا لست مثل الناس؟ قال لها: أنت أحسن منهم ألف مرة، قالت: “لهذا أنا لست مثلهم، أنا لست ناسا”، لماذا ربّيتنى هكذا يا أبى؟”
(5)
قالت فجأة بعد أن عادت فجأة: “هل أنت تكره الناس يا أبى؟”. انزعج حتى كاد ينتفض: ما هذا الذى تقولينه، أنا كل حياتى للناس”، قالت دون أن تفكر: “أنا لا أصدقك”، فاض به وهمّ أن يصفعها لكنه تراجع: “لا تصدقينى؟ هل أنا كذاب؟ أنا كل حياتى وأموالى وعرقى وجهدى للناس””، لم تقل له “لا يا شيخ”؟؟ لكنها قالت: “أنا لم أقل هذا، أنا التى لا أصدق حضرتك، أنا غبية يا أبى، كل ما أعرفه هو أننا لن نستطيع أن نصرف ما عندنا قبل أن نموت؟ قال: نحن نصرفه على الناس، قالت بحدّة غريبة: “هل تصدق نفسك يا أبى؟” لم يتردد، أن يقول: “جدا جدا”، ثم أضاف: “جدا”. قالت البنت “ربما”: قال: “ربما ماذا؟” قالت ربما عرفتُ كيف أصرف ميراثى حين تموت حضرتك إن شاء الله”، قفز قلب الرجل وهو يصيح: “تقولينها ثانية!!؟ ثم هدأ ليضيف وكأنه يمزح :”هل تريدين موتى عاجلا لتعرفى؟” قالت البنت على الفور “بعيد الشر، إذا كنتُ لا أعرف كيف أصرف مصروفى الشهرى الآن، فكيف أتصرف بعد موت حضرتك إن شاء الله؟ ربنا يخليك يا والدى”، قال الرجل وكأنه لم يسمع إلا الدعوة الأخيرة، “ويخليك لى يا حبيبتى”، قالت: “يخلينى أعمل ماذا وأنا هكذا؟” قال: “هكذا ماذا، أنت فل الفل” قالت: “يا ليتنى أَجَـن يا أبى لأرتاح”، فزع الرجل ولم يصدق، فأكمل وكأنه لم يسمع: ” ما كل هذا ؟ ما كل هذا؟ ماذا يا حبيبتى؟” قالت “ربما حين أُجَنّ أستطيع أن أجمع ما لا أستطيع أن أصرفه، ثم أدعى أنه للناس، أو أفرقه عليهم أولا بأول فيقولون مجنونة، ويعذروننى”
قال الرجل يكاد يصيح لعله يكتم ما تحرك بداخله : أنت تمزحين، أنت لا تفهمين معنى ما تقولين، لا تشغلى بالك يا حبيبتى، حين تكبرين سوف تعرفين كيف تفعلينها دون أن تُـجنى ولا يحزنون، ألا ترى أن أباك سيد العاقلين؟
قالت:
جدا، جدا