الوفد: 19-11-1997
سيادة الرئيس كيف نقف اليوم بجوارك؟
بعد نجاة الرئيس من حادث أثيوبيا، كتبت مقالا فى الوفد بعنوان “سيادة الرئيس: كيف نحمد الله على سلامتك؟” قلت فيه بالحرف الواحد: “إن من يحب مصر أكثر هو الذى يستطيع أن يمسك بزمام عواطفه، وأن يحتفظ بسلامة منطقه، وأن يضيف من موقع مسئوليته ما يجعل فرحتنا يقظة لا حذرا، وما يجعلنا حمدنا تعقلا وتدبيرا، لا انفعالا وتهليلا، وما يجعل مستقبلنا حسابا وحضارة، لا مظاهرات وأغان”
وقد تذكرت هذه الكلمات وأنا أحاول أن أتماسك بعد حادث الأقصر، ثم وأنا أشاهد ألم الرئيس وبمبادرته هنا وهناك، ومع إفاقتى التدريجية، قلت أكمل مخاطبتى بما يترجم الحزن إلى مسئولية، ويترجم الغضب إلى تخطيط لعل وعسى، حتى أكاد أقول فى مقدمة موجزة ما يقابل قولى سابقا من أنه: ‘ إن من يحب مصر أكثر هو الذى يستطيع أن يمسك بزمام حزنه، فيجعل ألمه درسا لا تعجيزا، ويجعل مصيبته غضبا بناء لا صياحا لائما، ويجعل محنته وعيا فائقا لا نفاقا جديدا:
ثم أحاول أن أطبق هذه النصيحة على نفسي- لأنى أحب مصر أكثر، أو هكذا أتصور- فأقول:
المسألة يا سيادة الرئيس – أعمق من ذلك بكثير.
القضية – يا سيادة الرئيس – ليست قضية أمن فقط، ولا هى مجرد قضية فئة ضالة مضللة، ولا هى حتى قضية إجرام، شاذ، كما أنها ليست قضية مؤامرة خارجية ودمتم، ومن ثم فليس كل ما نحتاجه هو مزيد من الضبط والربط، أو مزيدا من التصريحات والتبريرات.
القضية – يا سيادة الرئيس – ليست قضية حسن الألفى أو عبد الحليم موسى أو زكى بدر أو أحمد رشدى أو حسن أبو باشا (أنا لا أعرف حتى الآن لمصلحة من ترك وزارة الداخلية؟؟) أو النبوى إسماعيل، هى ليست إحلال لواء محل آخر، مع أنى لا أشارك بعض أبناء شعبنا فى سخريته الانتحارية، إذ كلما فاض به الكيل – مثل ما حدث فى 1967- سخر من نفسه حتى الذبح المعنوى، وبالتالى فأنا لم أبتسم- مجرد الابتسام- وبعضهم يردد ‘شالوا ألدو جابوا شاهين” فالموقف لا يحتمل .
وقد أشفقت على سيادتكم تماما حين بادرتم شخصيا بالذهاب إلى هناك لاكتشاف ‘التهريج” الأمني…، مع أنه يمكن أن يستنج بواسطة أى عابر سبيل فى شوارع القاهرة، وبالتالى فقد قدرت زيارتكم هذه-كمواطن عادي- من حيث الفوائد الأخرى المباركة التى نتجت عنها. ومن ذلك:طمأنة السائحين، وإبلاغ العالم مدى يقظة أكبر رأس فى الدولة، وحرصه على المشاركة فى الألم، وتصحيح الأخطاء!!!
إلا أن ما شغلنى رافضا هو معنى هذا التكرار للنص (سكريبت) بتعيين لواء جديد محل لواء قديم، وكأن المسألة هى ‘حركة تنقلات” وليست حاجة ملحة إلى تغيير جذرى فى طريقة التعامل مع الموقف والأزمة .
ثم إن فزعى قد تفاقم -مع أن المفروض أن يخف-حين علمت تكليفكم للسيد/ رئيس الوزراء كمال الجنزورى برئاسة ‘لجنة لتأمين المناطق السياحية”، وأنا ليس عندى علم بعدد اللجان التى يرأسها سيادته، لكن يبدو أن هذا نص آخر (سكريبت) لا ينبغى التمادى فى تكراره، وهو أنه كلما أخطأ وزير أو خابت خطة (مثلما جرى الحال فى وزارة التعليم مؤخرا) شكلت لجنة برئاسة رئيس الوزراء حتى كاد سيادته أن يصبح رئيسا للجان بعدد الوزارات، و أكثر (إذا أضفنا إليه توشكى وأخواتها)، فقل لى بربك – يا سيادة الرئيس – ماذا يمكن أن يفهم الشخص العادى من كل هذا؟ كلما وقعنا فى مصيبة تقومون شخصيا – حفظكم الله وأطال عمركم- بالجهد اللازم، فالمبادرة فالتوجيهات تلو التوجيهات سواء كان عندكم الوقت للإحاطة بكل البيانات أم كان ذلك فى حدود حدس بشرى محدود بطبيعته، ثم يكلـف رئيس الوزارة برئاسة اللجان تلو اللجان لينفذ توجيهات سيادتكم من ناحية، ويصلح أخطاء الوزراء من ناحية أخري.
ولا أسمح لذاكرتى أن تستعيد ‘دويتو” جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، فالمقارنة صعبة، وقد تكون ظالمة، فقد كان مثل هذا النص يتكرر – لأسباب أخرى – حتى وصل الأمر إلى تولى المشير إدارة هيئة النقل العام !!(مع قيادة الجيش والإشراف على مسائل الحراسة وما شابه)، حتى جاء المرحوم السادات ورفع شعار ‘دولة المؤسسات” وبدا كأنه يتمنى أن يجعلها ‘دولة”بحق وحقيق، لكن:ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فلم يلبث السادات شخصيا أن قضى على المؤسسات الواحدة تلو الأخرى لصالح كبير العائلة وأخلاق القرية .
ثم إنى أذكر اجتماعا عقد فى نقابة الصحفيين بعد تولى سيادتكم الحكم، ولعل المتحدث كان كامل زهيرى، وكان التفاؤل سائدا أنه أخيرا أصبح لنا رئيس دولة، لا مجرد زعيم أمة، ولا كبير عائلة، والفرق الحضارى والسياسى والإدارى بين ما هو زعيم وما هو رئيس دولة ليس هينا,هكذا يقول التاريخ وهكذا تعلمنا السياسة.
لكننا رويدا رويدا – سامحنا الله – جعلناك زعيما لا يبارى، وطبعا سيادتكم لا تذكر – وربما لم تقرأ أصلا لكثرة إنشغالكم، كان الله فى العون – ما كتبه كاتب هذه السطور إليكم عقب نجاتكم من حادث أثيوبيا – ونشر فى ‘الوفد” فى حينه حيث قلت بالحرف الواحد ‘…. إن مخاوفى يا سيادة الرئيس هى عليك أنت، وعلينا نحن، عليك خوفا من أن تتصور لا قدر الله… أنك فريد لا تتكرر”… إلى أن قلت لك: ‘إنها فرصة أمانة مع النفس والتاريخ، فرصة تسمح لنا أن ننظر بوعى جديد فى أخطاء النظام القائم، لا بأن نلجأ إليكم وحدكم لتصححوها مثلما حدث فى موضوع قانون الصحافة، ولكن بأن نحدد تشريعا وتنفيذا الأسس التى تمنع مثل هذه الأخطاء..’.
لكننى – يا سيادة الرئيس – حين تابعت الموقف كمواطن عادى له حق الإنتخاب (قال يعني) وجدت أن الأمور تسير عكس ما كنت أتمنى تماما، أخذ دورك الفردى يتنامى ويزداد، وأشهد-كمواطن مشارك وصاحب مصلحة- أن أداءك قد تحسن جدا جدا بكل مقياس، ولكن ذلك راح يتم جنبا إلى جنب مع تضاؤل دور المؤسسات عامة حتى كادت منظومة ما هو ‘دولة” تختفى تماما أمام بهر أدائك المتميز، وأكرر أن هذا ليس مسئوليتك مباشرة، بل ربما هو لا يتفق وطبعك حسب ما بلغنى يوم توليك بعد مقتل ‘المرحوم السادات”، حين كنت تقول أن ‘تلك الولاية” لم تكن أبدا من بين طموحاتك ولا هى خطرت أصلا على بالك، إلا أن الزمن وطبعنا قد فرضا عليك زعامة مرهقة وخطيرة، راحت تكبر وتتعملق حتى حلت محل الدولة بشكل أو بآخر، وبعكس الحكم الشمولى الصريح التى تنمو فيه سلطة الدولة جنبا إلى جنب مع صورة الزعيم وقدراته الفائقة، فإن الذى حدث عندنا هو أن الأمر سار فى إتجاه واحد: أنت تنمو، والدولة تتضاءل، ثم انتقل الأمر بعد ذلك إلى ضعف منظومة الدولة داخل نفوسنا، أكرر: داخل نفوسنا، أفرادا وجماعات.
نرجع مرجوعنا إلى كارثة الأقصر، وهى فرصة أخرى وامتحان آخر ليس أمامنا إلا أن ننجح فيه، فلا يخفى على أحد أن المسألة ليست مسألة جماعات ضالة أو فلول شاردة، أو قضية كفاءة إجراءات وسلامة تنفيذ، ولا هى طبعا، تقصير مسئول، واستبداله بآخر، ولا هى تبادل التعازى وزيادة جهود تسويق السياحة، إن المسألة أخطر وأعمق، فمثل هذا الحادث (تلو الآخر) سوف يؤثر على ثمن الرغيف وثمن تذكرة الأتوبيس، وإيجار الشقق,…إلخ، ولنترك كل هذا مما يعرفه الجميع لنصل إلى جذور المصيبة، وهو اختفاء منظومة ‘ما هو دولة” خارجنا ومن ثم:داخلنا!! وكيف أن هذا -من وجهة النظر التى أطرحها هنا-هو السبب الحقيقى لما حدث.
ذلك أن الدولة حين تضاءل دورها خارجنا، لم يتكون ما يقابلها فى داخلنا أصلا، فلم تعد تردعنا ذات والدية تملأ وعينا الداخلى فى اليقظة والنوم، فى السر والعلن، فلما اختفى هذا الوالد الداخلي(الدولة) سهل علينا ألا نهاب ما هو دولة فى الخارج، ومن ثم تمادت الاستهانات بالقوانين، كما تمادى التطاول على السلطة بكل الأشكال.
وقد آن الأوان لأطرح عدة أسئلة قد تفيد فى إثارة إجابات تصلح للمقارنة الموضحة للإشكال، مع التنبيه -كما صرحت سيادتكم – أن مثل هذا الحادث جائز فى أى مكان فى العالم، ومع ذلك فالأسئلة ملحة، والإجابات اجتهادية: تصح أو لا تصح، .
1- لماذا لا يحدث مثل هذا الذى حدث فى مصر، فى سوريا الشقيقة ؟
لأن فى سوريا زعيم ودولة معا، بغض النظر عن نوع الدولة، وبالتالى، ومع وجود الأخوان والتدين والحجاب فى كل أنحاء الشقيقة سوريا، فإن السياحة مزدهرة والفنادق مفتوحة، بلا حاجة إلى إجراءات أمن استثنائية، وما حدث أثناء أزمة الشمال (فى حماة وحلب خاصة) مع الإخوان قد انتهى لا بمجرد القضاء على الإسلاميين بمعنى السحق ، وإنما بتدعيم حضور وتأكيد دور الدولة خارج الناس وفى عمق نفوسهم معا.
2- لماذا لا تقتل القبائل اليمنية من يختطفونهم من السائحين، بل إنهم يقومون بالترويح عنهم، وتفريجهم على المناطق السياحية فى المنطقة التى خطفوا فيها، كما يسمحون بمشاركتهم رقصاتهم الشعبية، حتى كاد أن يصبح الاختطاف جزءا من برنامج الرحلة السياحية إلى اليمن؟ لماذا؟
لأن فى اليمن – المتهمة بالتخلف – دويلات صغيرة (هى القبائل) لها تقاليدها العميقة داخل كل فرد من أفرادها، وهذه الدول القابعة داخل النفوس هى التى تمنع إيذاء الضيف، وتسمح بهذه المداعبات الإختطافية.
3- لماذا لا يحدث مثل الذى يحدث فى مصر فى زوار ‘البتراء” فى الأردن، وهناك عدد كبير من السائحين الإسرائيليين، ثم إن إجراءات الأمن لا تقارن بمثلها مما يحدث فى القاهرة على الأقل؟
لأن فى الأردن دولة، وعشائر، واجتهاد محدود لتطبيق ديمقراطية ما، فيها من المناورة بقدر ما فيها من المحاولة، ولأن الموقف النفعى الذى يحذقه الأردنيون والفلطسينيون المتأردنون يجعلهم يعقدون صفقة لا شعورية مع ‘دولة قائمة، فيتجنب الجميع الخسارة أفرادا ودولة وجماعات.
4- لماذا لا يحدث مثل هذا الذى يحدث عندنا فى السائحين الذين يزورون دولة إسرائيل؟ مع أنه لابد أن حرص ‘حماس” على خراب خزانة إسرائيل أكبر من حرص جماعاتنا الإسلامية على خراب بيوتنا؟
- لأن إسرائيل ‘دولة” جمعت بين أكبر مظاهر ديمقراطية كاذبة (بما فى ذلك السماح بالمظاهرات وما يشبه الإنتخاب) جمعت ذلك إلى أكبر إحكام للإجراءات الأمنية طول الوقت.
5- لماذا لا يحدث حادث كحادث الأقصر فى سائحى فرنسا، مع أن فرنسا مليئة بالأغراب من شمال أفريقيا، ومن أفريقيا السوداء، كما أنها مليئة بالأقليات المضطهده، وبالجماعات اليسارية الشديدة التطرف.
- لأن الدولة – بمؤسساتها الديمقراطية قد تغلغلت فى نفوس الأفراد فردا فردا، وأصبحت تقاليد تداول السلطة وإمكانية التغيير، ظاهرة لكل أعمى، وليس فقط لكل ذى عينين.
إذن ماذا؟ وما هو الحال عندنا؟
الأمر- يا سيادة الرئيس – لا يحتاج منك أن تنتقل إلى الأقصر لتعاين بنفسك – بعد الكارثة- مدى التهاون الأمنى، ولا يحتاج منك – كان الله فى عونك – أن تضيع وقتك تحتضن هذه الطفلة السائحة البريئة وتربت على كتف هذا العجوز الأجنبى الطيب، لا يحتاج اللأمر كل ذلك حتى تعرف – سيادة الرئيس – إن كانت هناك ‘دولة” تسير أمورنا أم أن ثمة تهريج يصم آذاننا ويهدد حياتنا؟ إن أهم ما فى زيارتك هى الرسالة الإنسانية التى وصلت إلى العالم، أما التحقق من وجود هيبة الدولة فلها سبل أيسر وأقصر، إسمح لى سيادتكم أن أضع بعضها بين يديكم بأن أقترح أن ترسل من تثق فى نظره ورأيه- توفيرا لوقت سيادتكم -ليختبر هذا الفرض الذى أطرحه هنا إجابة على السؤال ‘ هل يوجد فى مصر دولة أم لا ‘، على ألا تكون مهمته التفتيش أو العقاب، وإنما مجرد التحقق من الفرض المطروح، وذلك كمايلي:
1- أن ينزل ويجلس بجوار إشارة مرور واحدة فى القاهرة، وسوف يري: هل جندى المرور هذا (وبجواره أمين الشرطة وحتى الضابط العظيم) يمثل هيبتكم كرئيس لهذه الدولة؟ وهل الدولة تتمثل فى إشارة المرور الحمراء، أم فى ذراع الشرطى المتردد والخائف والمهزوز ؟
(يمكن مقارنة ذلك بما يحدث فى أى إشارة مرور فى جدة فى السعودية فى منتصف الليل، أو فى باريس فى أى وقت ليلا أو نهارا ! رغم اختلاف النظامين، فى كل دولة).
2- أن يخطف رجله إلى أقرب شهر عقارى، وليس مهما أن يدخل إلى داخل المبنى ليشاهد عمل الموظفين المرهقين، وإنما كل ما عليه هو أن يجلس ربع ساعة خارج مبنى الشهر العقارى وسيعرف، ويعرف سيادتكم – دون الذهاب إلى الأقصر – أن الدولة أصبحت تدار من الباطن على الرصيف.
3- أن يتطلع إلى لافتات المحلات المكتوبة اسماؤها بحروف عربية وفى نفس الوقت هى أسماء أجنبية، وبما أنكم رئيس لدولة لها قانون، فإن القانون يمنع ذلك ولا يطبق، فأين الدولة ؟ ثم دعنى أذكر سيادتكم بمحاولة السادات – الفاشلة – لإغلاق المحلات فى ساعة معينة من المساء، وقد تذكرتها وأنا أزور بيروت مؤخرا وهى مازالت مثخنة بآثار الحرب ومع ذلك لم أجد محلا واحدا يفتح أبوابه بعد السابعة مساء تطبيقا للقانون، رغم أن حضور الدولة مازال يحبو فى لبنان وهى تعيد تنظيم إدارتها.
4- أن يقوم بزيارة أى مدرسة حكومية – أو حتى خاصة- ويبحث هناك عن المنهج المشترك، والموقف المشترك، والرداء الموحد، والنشيد الوطنى الذى يشعر أى طالب وذويه بالانتماء لدولة واحدة. فإذا جاءت زيارته يوم امتحان، فسوف يرى يعينى رأسه أن الغش أصبح قيمة مشروعة يتبناها ممثلوا الدولة على أوسع نطاق.
وأعود فأعتذر لسيادتكم فأنا لم أقصد أن أضيع وقتكم فى مثل ذلك، ولكنى أحاول أن أوفر عليكم مشقة السفر إلى الأقصر أو إلى شرم الشيخ، فإشارة مرور واحدة، ولفته إلى عناوين المحلات ومواعيد إغلاقها كافية لكى لا تكتفى سيادتكم بإقالة الوزراء المقصريين، ولكن باقالة جميع أفراد الحزب الوطني.. وإجراءات أخرى (ولهذا حديث آخر، عذرا).
فإذا تأكدت سيادتكم من احتمال صحة ما ذهبت إليه فى الفرض الذى أطرحه بين يديكم، وهو ‘إن حضور الدولة خارجنا حاليا أصبح فى أضعف صوره عبر تاريخ مصر المحروسة منذ الفراعنة”، فلتسمح لى أن انتقل خطوة أخرى إلى شرح تأثير ذلك على تكويننا النفسى، وبالتالى ربطه بحادث الأقصر وبمستقبلنا.
وأخلص من كل ذلك إلى القول:
إن حضور منظومة الدولة كمنظمة محكمة قائمة خارجنا هو أمر أساسى لتنظيم الشعوب وحكمها، إلا أن دور مؤسسات الدولة ككيانات خارجية لا يقتصر على ضبط وربط السلوك الظاهر وإنما هو يمتد إلى حضور هذا التنظيم داخلنا باعتباره تنظيما نفسيا لازما لنمو الإنسان، وتشكيل وعيه، وضبط خطاه، وحين أعلى هيجل من قيمة دور الدولة حتى اتهم بأنه مـهد للنازية، كان يؤكد على دور الدولة داخلنا فى نمو الوعى أكثر من تأكيده على دورها الظاهر خارجنا .
وحين حلم كارل ماركس باختفاء الدولة لم يكن عدميا، وإنما كان مثاليا يتصور أن الدولة سوف تتكون داخل النا س وتنضج حتى يستغنون عن وجودها فى الخارج، ومع تجنب التمادى فى هذه الإشارات الدالة، أكرر أنه بغير هذا التنظيم الداخلي- الدولة داخل كل واحد منا-، فإن هيبة الدولة فى الخارج تسقط، ومن ثم تهتز صورة ممثليها ويفقدون هويتهم وتأثيرهم حتى يمد جندى المرور يده ليتسول، ويخاف الخفير النظامى من عابر سبيل، إلى آخره.
ولا ينفع أن تعوض أجهزة الدولة ما آلت إليه من ضعف وتهافت باندفاع نحو قسوة غاشمة، أو اختباء وراء قانون الطوارئ، أو قتل الناس دون محاكمة، أو تحفظ على أبرياء، دون جريمة، بل إن كل مثل هذه الإجراءات قد تزيد من ضعف كيان الدولة وتدل عليه.
بل إن أجهزة الدولة اقتصرت على هذا النوع من القهر الطوارئى، والسادية العشوائية، وتركت كل ما يؤكد حضورها لميلشيات خاصة، سواء تحت إسم الحراسة الخاصة، أو تحت إسم البلطجة الحزبية، وإنى أؤكد لسيادتكم أن ما حدث فى الأقصر له علاقة مباشرة بما حدث من نواب الحزب الوطنى خاصة فى الانتخابات، بل إنى أذهب أكثر من ذلك فأقول: إن عدم تنفيذ أحكام محكمة النقض تحت أى دعوى (حتى أنى أخجل من استعمال التعبير الفكه ‘سيد قراره)، هو سبب غير مباشر لحادث الأقصر، لأنه إذا كان مجلس الشعب بكل ما يعنى تاريخا وحاضرا يستهين بأحكام محكمة النقض، فكيف لا يستهين شباب أعمى بحياة سائحين يتصورون أنهم يمثلون الفسوق والإباحية، كما أن نقودهم تساعد السلطة على مزيد من الطغيان والغطرسة .
وختاما أقول:
إن التفسير الذى أطرحه لما حدث فى الأقصر، وفى ميدان التحرير، وفى غير ذلك من مظاهر وأماكن، إنما يذهب أبعد من كل أسباب التقصير الأمنى، فهو يمتد إلى الدعوة إلى ضروة فهم أسباب موت الدولة خارجنا، ثم داخلنا، بدءآ من اختفاء الزى الموحد فى المدارس عامة، إلى قضاء بعض الشباب، الذين هم، مدة تجنيدهم منتسبين !!
وأوجز كل ذلك فيما يلي:
أولا: نحن نرقص على السلم بين ديمقراطية معلنة، وبوليسية مهزوزة، وفى نفس الوقت مندفعة وقاسية.
ثانيا: إن منظومة الدولة قد تضاءلت حتى اختفت داخلنا، داخلنا أفرادا:فردا فردا، ثم أسرة أسرة، ثم جماعات صغيرة، ثم من المجتمع بأكمله.
والعودة إلى إعادة تشكيل وعى الناس حتى يكون لمنظومة الدولة داخلنا فاعلية أخلاقية أو أمنية أو حضارية لن يتم بزيادة إجراءات الأمن عشوائيا، ولا بتغيير مسئول، ولا بنقل عشرين لواء إلى مصلحة السجون وإدارة المجارى، ولا بإرهاقكم – سيادة الرئيس – بكل هذا المجهود والترحال، وإنما يتم بإعادة تشكيل الدولة خارجنا، ومن ثم داخلنا، وذلك بالتأكيد على وضوح القيم -أيا كانت-، وعمومية الانتماء، وحتم العدل، وكل ذلك يحتاج إلى نظام حقيقى، تكون قواعده معلنة وثابتة، نظام يسمح بإعادة هيبة الدولة، وبالتالى بإعادة تشكيل الناس بما يشمل حضور الوعى الوالدى المسئول المتحضر داخل كل منا.
ومع شعورى بضرورة التوقف، أجدنى مضطرا أن أقترح اقتراحات بسيطة -فى نظري- بصفتى مواطن متألم مشارك فى هم مقيم، ولتغفر لى – سيادة الرئيس- بساطة فكرى أو حتى سطحيته، لأن ما سوف أقترحه هو أبعد ما يكون عن الإجراءآت السيادية المعقدة، أو الحلول الوزارية المركبة، ذلك أننى أتصور -بكل عجزي- أننا أحوج ما نكون إلى بداية سريعة ومنظمة، فى مساحة صغيرة وأساسية، فإذا نجحنا فيها بإصرار لا ينتهى، انتقلنا إلى مساحات أخرى بعد تعديل مسارنا من واقع نتائج محاولاتنا الأولى، وأطرح على سيادتكم وعلى كل من يهمه الأمر. بعض الاقتراحات الساذجة، بعضها يخص الحادث، وبعضها يمتد بعده ويتجاوزه، إلا أنه – فى تقديري- شديد الارتباط به. ومن هذه الاقتراحات:
1- عدم التسليم للتفسير التآمرى للحادث، إذ أنه حتى لو صح، فالضحية مسئولة عما يحدث لها بشكل أو بآخر (وهذا بعض بديهيات علم جديد يسمى علم الضحايا Victomology)
2- عدم التمادى فى تصور أن تسليم بضعة عشرات من الإرهابين المقيمين بالخارج هو الحل الأسعد,:
أولا لأن هذه الدول تحكمها قوانينها -حتى لو كانت خطأ، فإن تعديلها يحتاج إلى عقود كثيرة وحوار كثير -، وثانيا لأن إنجلترا مثلا تحوى مئات من المنشقين عن نظمهم فى مائة بلد فى كل العالم، فلماذا تختص مصر بهذا الذى يجرى، ويكون الحل خارجنا ؟
3- ألا نقنع بالتفسير الاقتصادى السطحى للأحداث، فثمة بلاد أفقر منا لا تتعرض لمثل ما نتعرض له، ثم إن اهتزاز القيم عندنا، مثل عدم توقير الكبير، وعدم احترام الدولة، وعدم اتباع العرف، والتمادى فى الغش (التجارى والدراسى والبحث العلمي) كل ذلك يحدث على كل المستويات الاقتصادية، وليس فقط على مستوى الفقراء، والمصيبة التى حدثت قد حدثت نتيجة لخراب داخلنا أساسا، وهذا الخراب الداخلى كما حاولت أن أوضح طول المقال إنما يعلن بشكل أو بآخر خراب النظام السياسى والسيادى السائد.
4-العمل فورا على تعيين نائب لرئيس الجمهورية (حتى لو أقيل أو استبدل بعد شهرين) لأن ذلك يعنى تجاوز أوهام الخلود (عند الناس وليس طبعا عند الرئيس).
ولمزيد من السذاجة أقترح إصدار تشريع يساعد سيادتكم فى هذه المهمة، فيسمح بفتح باب الترشيح لمن يجد نفسه أهلا لذلك، بعيدا عن الأحزاب القائمة إن أمكن (لتكن البداية جديدة) ثم تختارون سيادتكم نائبكم من بين أعلى ثلاثة حصلوا على أغلبية أصوات الشعب!!!
5- (إقتراح أكثر سذاجة): وضع ‘حد أقصي” لتمثيل أى حزب فى المجالس النيابية أكرر حد أقصى لا يزيد عن 65% مثلا، فما زلت أذكر خجل مسز تاتشر من حصولها على نسبة قريبة من هذه النسبة، لاحتمال اختفاء الممارسة الديمقراطية نتيجة لذلك (وقد استلهمت هذه الفكرة من أيام تطبيق الحد الأدنى فى الانتخاب بالقائمة، ورغم إدراكى لسذاجة الاقتراح، إلا أننى أخجل كلما قرأت ‘مانشتا يقول: المعارضة فى مجلس الشعب تقول كذا أو كيت، ثم أنتبه إلى أن المعارضة لا تزيد عن بضعة عشر صوتا من أربعمائة، وأكثر ).
6- البدء فى التركيز على أى إجراء عملى يومى بسيط يستشعر المواطن من خلاله أنه يعيش فى ظل نظام قادر، خذ مثلا: مسألة المرور، نبدأ بالحسم المطلق، وخاصة فى مواجهة سلوك لعربات الفارهة، ذات الأرقام الصغيرة، وذلك بعد مضاعفة رواتب ومكافآت القائمين على المرور عشرة أضعاف، ومضاعفة وتنفيذ العقوبات فورا على كل الناس، كل الوقت، بما ذلك سحب الرخص، ثم سحب أرقام العربة، ثم مصادرة العربة وبيعها بالمزاد (مزيد من السذاجة: يمكن أن نعهد بالمرور لشركة خاصة تمول من تنفيذ قانون حاسم للمخالفات والمصادرات، تحت إشراف الدولة جدا-لست أدرى كيف ؟-لكن ألمى يسمح لى بمثل هذا الشطح)
7- حماية السياحة بواسطة فرق الصاعقة، ولتكن صاعقة بوليسية، أو قوات خاصة، أو جهاز أمنى جديد مستقل، مثل الحرس الوطنى فى السعودية (المنفصل عن كل من الجيش والبوليس)، على أن يتعلم هذا الجهاز احترام البشر واحترام القانون، بقدر ما يتدرب على ذروة اليقظة وسرعة المبادرة والتعامل مع المفاجآت.
8- توحيد زى المدارس الخاصة والعامة، وتوحيد المناهج الأساسية خاصة وعامة، وتجريم الغش فى المدارس حتى السجن، والإلزام بترديد نشيد قومى قصير بهيج، يوميا فى كل تجمعات طفلية وشبابية.ورياضية، قبل كل مباراة، وبعد كل صلاة
مازلت متألما أشد الألم يا سيادة الرئيس، فسامحنى، و تقبل إعتذارى، فأنا مواطن مجروح مثلك، خائف على بلدى، حريص على إبداء رأيى، مقدر لاحتمال خطئى .
وفقكم الله. أرسلت فى القاهرة فى 11/26/ 1997 ونشرت فى ؟ ؟1997/11