نشرت فى الدستور
20-12-2006
سوهاج، وأدباء مصر، والعلماء البروليتاريا
بتشريف طيب، حظيت بالمشاركة فى مؤتمر أدباء مصر فى سوهاج، (12 الجارى) ولظروف قاهرة لم أكمل لليوم الأخير، الرسالة التى وصلتنى من معظم مداخلات المؤتمر كانت بنفس قوة ودلالة الرسالة التى وصلتنى من زيارتى لمنازل بعض أصدقائى من العاملين معى بالقاهرة فى دورهم المتواضعة جدا، الجميلة – بهم- جدا، فى “كوم يعقوب” مركز أبو طشت.
الصعيد هو الصعيد، لا أحد يعرفه إلا إذا اختبر مذاقه مثل مذاق الويكة (البامية المهروسة المشططة)، وصلتنى حركية الناس “بلا لوحات حكومية” مثل حركية التُّك تُـك، كما بدت لى بهلواينة السيارات على الطريق الزراعى كموتيسكلات تجرى رأسيا على جدار دائرى أملس فى سيرك أسطورى ملك “أولاد الحاج أبيدوس”، من المؤتمر والناس تضاعفتْ آلام تفاؤلى المزمن، حتى قلت للمحافظ اللواء محسن النعمانى، وللدكتور أحمد نوار: “الله يسامحكم، هل أنا ناقص؟ سأعود لأبدأ من جديد، بأمل جديد، وألم جديد، برغم كل شىء”. ردّا ردا طيبا نبّهنى إلى بعض ما أحاوله هنا وهناك. الدكتور أحمد مجاهد لا يهمد، والشاعر مسعود شومان لا ينطفئ، والجميع فرحون بشىء ما، شىء طيب قادم لامحالة، لعله هو ما لاح لنا فى فيلم سيرة محمد عفيفى الذى عرض ذات مساء، لتؤكده أمسية سيد حجاب الشعرية الحيوية المزَلْزٍلةْ.
المؤتمر كان عن “مراجعة الدور المصرى فى معظم المجالات” (أو كل المجالات) وليس فقط فى مجال الأدب، تساءلت: هل هذا من حق الأدباء؟ أجبت نفسى : نعم، بل هو واجبهم. استقبلت العنوان باعتبار أن المقصود هو:” مراجعة دور “الإنسان المصرى”، وليس بالضرورة “دور مصر “الوطن، أو مصر الدولة”.لم يعد الإنسان المصرى مثله مثل كل إنسان الآن عبر العالم يعمل لنفسه فقط، ولا حتى لبلده، هو يعمل بالأصالة عن نفسه والنيابة عن كل الناس. إنقاذ البشرية أصبح “فرض عين” على كل فرد حيثما كان، إذا قام به البعض لا يسقط عن الباقى. الأديب المصرى المبدع الحقيقى هو ممثل شرعى للإنسان، بدءا بالإنسان المصرى حين يستوعب وعى ناسه بلحمه ودمه، ليس للزيف فيه نصيب، ليفرزه إبداعا قابلا للتواصل العالمى، بعد أن أتيحت الفرصة بثورة المشتبكات المتلاحمة أمميا دون حدود أو وصاية أو رقابة، الرقم الذى أعلنه الدكتور مصطفى الضبع فى المؤتمر عن عدد “مواقع” الإنترنت الخاصة عبر العالم والذى يربو عن ثلاثين مليونا موقعا أدهشنى بقدر ما أسعدنى، كما فرحت حتى الخجل من تقصيرى حين سمعت الأرقام التى أعلنها د. أحمد نوار عن نشاط قصور الثقافة ومساحة حركية قوافلها خلال عام وبعض عام. أليس من الطبيعى أن أنوء تفاؤلا مؤلما وأنا أستلهم روح الكفاح اليومى لأهل كوم يعقوب مركز أبو طشت ، جنبا إلى جنب مع حيوية المحافظ الذى شعرت بطزاجة دهشته المتجددة وهى لا تقل بهرا عن مسئولية الإدارة وحفاوة الكرم اللذان عشناهما فى ضيافته، ليصلنى كل ذلك وسط دفق معلومات نشاط د. نوار ومعاونيه؟
من موقعى المهنى والأكاديمى تأكد لى ما آل إليه حال أغلب العلماء فى علاقتهم بشركات الدواء كعينة لما يجرى فى مجالات أخرى، العلم “باهظ التكلفة” لم يعد تقدر عليه إلا الشركات العابرة بالغة العملقة، التى تدير العالم لحسابها بواسطة الحكومات الذاهلة أو الشريكة، هذه الشركات لا تستطيع أن تشترى أديبا أو شاعرا ولا بجائزة نوبل، لكنها تشترى العلماء (دون وعى منهم غالبا). قلت فى كلمتى:
لقد أصبح العلم المؤسسى كنيسة فى خدمة كهنة السيطرة وباباوات التحكم فى مصائر البشر لصالح الشركات العملاقة المتحالفة مع المافيا والأصوليين عبر العالم، لم يعد الخطر يقتصر على الخوف من سوء استعمال ناتج العلم للتدمير والإبادة، دون التعمير والتقدم، وإنما تمادى إلى الخوف من الاستمرار فى تسخير العلماء لخدمة المال، دون البشر، حتى وصل الأمر إلى استخدام العلم والمعلومات والعلماء لبرمجة الناس لصالح الاستهلاك لا الإبداع، وإلهاء الكافة عن أولويات ما يحفظ بقاءهم ويحفز تطورهم”
العلماء أصبحوا بروليتاريا العصر الحديث، تستغلهم الشركات العملاقة بطرق أبشع وأخبث.
العلماء يستنقذون بكم معشر الأدباء والشعراء والتشكيليين وسائر المبدعين الأحرار والنقاد”.
قرب الختام قلت:
“الإبداع فى كل مجال، دون استثناء هو الحل: انطلاقا من تعديل مناهج التعليم (دون تجاوز تثوير المعلم) وحتى التضفُّـر والجدل البنّاء بين كل منظومات المعرفة.
إن نقد المؤسسة العلمية الاحتكارية لا يقل إبداعا وضرورة عن نقد المؤسسة الدينية التقليدية الفوقية، كما أن نقد المؤسسة التعليمية الرخوة القشرية الآسنة، لا بد أن يتواكب مع نقد المؤسسة الثقافية الأعلى.