يوميا: “الإنسان والتطور”
9 / 9 /2007
زكى نجيب محمود – و”الشرق الفنان” (1)
كانت ندوتنا الثقافية الشهرية أمس (7/9/2007) عن كتاب (كتيِّب – رسالة) الراحل زكى نجيب محمود “الشرق الفنان”، ولم أكن أعرف أن ذكرى رحيله هى فى 9 سبتمبر إلا من مقال د. عاطف العراقى اليوم فى الأهرام: “فى ذكراه : زكى نجيب محمود والرؤية التنويرية”
أول ما قرات للأستاذ الدكتور عاطف العراقى كان فى مجلة فصول أيام كان المرحوم عز الدين اسماعيل يرأس تحريرها، وقد احترمت جرأته ومنطقه وتماسك كتابته، ثم سمعت عنه كلاما طيبا، وعرفانا كريما، من الابن البار والصديق د.زكى سالم وقد أشرف الأستاذ الدكتور العراقى على رسالتيه فى الماجستير (عن الغزالى ) وفى الدكتوراة (عن ابن عربى )، ثم تفضل الدكتور زكى فأحضره زائراً مرتين أو ثلاثا فى جلسة الحرافيش ذات خميس فخميس مع شيخنا نجيب محفوظ، وأذكر أننى سألت الدكتور العراقى نفس السؤال الذى بدأت به تقديم الندوة أمس: هل يوجد عندنا فلاسفة مصريون؟ (أو عرب أو مسلمون؟) معاصرون وعلى قدر ما أذكر، كانت الإجابة بالنفى بصفة عامة. هكذا تأكدت من الفرض الذى شغلنى وهو: إن السبب هو أن المساحة المتاحة للفكر لا تسمح بظهور أى فيلسوف عندنا فى أى اتجاه أصلاً، بما فى ذلك اتجاه الإبداع الدينى . سألته أيضا ألا يمكن إعتبار بعض المتصوفة المسلمين فلاسفة (وكنت أعنى تحديداً التصوف الإبداعى – حيث أقسم التصّوف إلى التصوف الإبداعى، والتصوف الشعبى، والتصوف الدفاعى (الهروبى)-، لا أذكر أننى حددت له هذه التقسيمة، وأذكر أنه تردد فى الإجابة أيضا رغم أن تلميذه الصديق د. زكى سالم فرح بهذا الإحتمال، (أن نعتبر بعض المتصوفة فلاسفة) وتصورت آنذاك أن كلاً من الفلسفة والتصوف الإبداعى يحتاجان إلى إعادة تعريف (أو تعرُّفّ ) حتى يمكن الربط بينهما، ولم لا ؟ لقد وصلت المناهج الأحدث إلى ربط الفيزياء الحديثة بالتصوف الشرقى (الشرق الأقصى)، ونحن نعلم إلى أى مدى يجرى التداخل بين الفلسفة والفيزياء الحديثة؟ الربط بين الفلسفة والفيزياء الحديثة أقرب وأكثر قبولاً، وهو جارٍ على قدم وساق (بفضل جهد المبدعين الغربيين أساساً، وربما تماماً)، فما أجدر احتمال الربط بين التصوف والفلسفة.
سوف أتناول بعض مقال الدكتور العراقى كخلفية لتناول كتاب الندوة “الشرق الفنان” وذلك بأسلوب “مقتطف وموقف” (وقد كان بابا مستمرا فى مجلة الإنسان والتطور).
المقتطف
” إن خير احتفال بذكراه سواء بمصر التى ولد بها، أو سائر بلدان العالم العربى من مشرقه إلى مغربه، هو أن نتذكر الدروس التى تعلمناها من أفكار مفكرنا العملاق واتجاهات رائدنا الكبير”
ثم يردف سيادته
“ويقينى أننا سنجد فيها الخير كل الخير. وستكون كالبوصلة التى تحدد اتجاهنا، ولم لا، وهى تركز بالدرجة الأولى على الرؤية المستقبلية ، التى تحاول أن يكون مستقبلنا أفضل من حاضرنا وحاضرنا أفضل من ماضينا “
الموقف:
هذا كلام طيب، وصادق، يصدر من أستاذ كريم، لرائد عظيم. موقفنا المبدئى من مثل هذا الكلام هو القبول والإحترام من حيث المبدأ ثم بعد ذلك نقول:
ما الجديد فى هذا الكلام؟ وإلى متى يظل احتفالنا بالراحلين هو تعداد مناقبهم؟ ثم : كيف نتذكر الدروس التى تعلمناها عن الراحل العظيم؟ بأن نسمّع ألفاظها ونرددها؟، أم بأن نحفظها وننفذها؟ أم بأن نقبل منها ونضيف إليها أو حتى نرفضها أو نطورها؟ كلما دعيتُ إلى الحديث عن الراحل (الذى لم يرحل) شيخى نجيب محفوظ، أعدت التوصية بإصدار الدورية النقدية المختصة بأعماله (كان آخر ذلك منذ أسبوعين وتفضلت “جريدة القاهرة” بنشر اقتراحى مجددا، وهو موجود بالموقع). لن يرتفع شأن نجيب محفوظ، ولا زكى نجيب محمود ولا أى راحل مهما تلألأت عبقريته بطول الحديث عن مناقبه وأفضاله وعبقريته، دون نقده وإعادة نقده باستمرار .
الدروس التى نتعلمها من عطاء من رحل لا ينبغى أن تقتصر باستمرار على المديح، ولا على ضرورة أن نجد فيها “.. الخير كل الخير” بل هى لا تكون دروسا وإضافة إلا بالنقد، والنقد هو النقد. والراحل الكريم زكى نجيب محمود لا ينقصه مديح أو تصفيق، وإنما الأرجح أن ما كان يتمناه فى حياته، وما هو علينا أن نوفيه حقه منه بعد رحيله: هو النقد الموضوعى الحقيقى الذى لا يتوقف، حتى لو لم نجد فيه “الخير كل الخير”، بل قد نجد فيه عكس ذلك، فيتخلق الخير (كل الخير) من عكسه
بعض هذا الموقف الأخير ما أثارته الندوة عندى، بل إنى أدركت أنه قد يكون فى هذا تكريم له من نوع أعمق، لأنه يدل على أننا أخذنا ما ترك من تراث مأخذ الجد، وهذا ما يتمناه أى مفكر أو ومبدع.
المقتطف
ثم يقول دكتور العراقى فى مقاله
“… أن هذا الخير كل الخير سيكون.. كالبوصلة التى تحدد اتجاهنا ولم لا..؟
الموقف:
وقد رضيت ووافقت وفرحت أول ما قرأت كلمة البوصلة لأنى أعلم أن البوصلة لا تقول لك ” إلى أين أنت ذاهب، هى لا تقول لك إلى أين تتوجه شمالا أو جنوبا أو شرقا أو غربا. البوصلة تحدد الجهات الأربعة، وعليك أنت الباقى: تحدد توجهك اهتداء بالبوصلة.
المقتطف
لكن الكاتب يلحق قوله هذا مباشرة بـ :
“ولم لا..، وهى تركز بالدرجة الأولى على الرؤية المستقبلية، الرؤية التى تحاول أن يكون مستقبلنا أفضل من حاضرنا، وحاضرنا أفضل من ماضينا “
الموقف:
أى جديد فى هذا يمكن أن نكرم الراحل به؟ حتى الذين يفرضون علينا خنّاق التراث الجامد، يدعون –ضمناً- أنهم يركزون على الرؤية المستقبلية، بل إنهم قد يبررون تمسكهم بالتراث بهذا الشكل الجامد أنهم أكثر رؤية مستقبلية من زكى نجيب محمود، ومن عاطف العراقى، ومن كاتب هذه السطور، لأن رؤيتهم تمتد إلى الآخرة والخلود ربما دوننا (فى رأيهم) رؤية زكى نجيب محمود وأمثاله –الحالية والمستقبلية- تركز على الحياة الجارية أساسا ومستقبلها وتوجهاتها،
أرجو ألا يبدو كلامى هذا رفضا لهذا العرفان وهذا التكريم الضرورى الذى يقدمه أستاذ بار (د.العراقى)، لأستاذ كريم رحل عنا (أ.د. زكى نجيب محمود)، لكننى أدعوا إلى خطوة بعد ذلك –ربما ليس مكانها الأهرام – خطوة تبين كيف أن علينا أن نشير إلى ما أضاف الراحل تحديدا مما تميز به عن غيره، حتى لو يكن قد أضاف – فعلينا تكريما له أن نضيف نحن استلهاما مما ترك، مثلا: كان الراحل – فى رأيى – قد مال إلى التسوية والتسكين والحلول التوفيقية التعادلية طول الوقت، فإذا قمنا نحن بتعرية ذلك وربما رفضه، فإن انطلاقنا من هذا إلى ما بعده، يظل يرجح فيه بالفضل إليه، ولو جزئيا.
ثم أنتقل إلى ما يؤكد ما ذهبت إليه من غلبة الجانب الأخلاقى والانفعالى الطيب على ذكرى الراحل فى مقال الأستاذ الدكتور عاطف العراقى فأشير إلى ما اختتم به مقاله قائلا:
المقتطف
“غير مجد فى ملتى واعتقادى إهمال فكر زكى نجيب، لقد قال بما قال به من منطق رؤية تنويرية مستقبلية تريد لمصر التقدم، وتريد للعرب أن يصبروا إلى حالة أفضل…إلخ.
ثم استشهد بقولٍ للراحل فى مقال له بالأهرام قال فيه:
“وأن العبرة بالتكنولوجيا وليس بالكلامولوجيا” .. (هذا تعبير الراحل).
الموقف:
ابتداءً: لى تحفظ على صيغة النفى المستعملة بهذه الصورة: نحن لا ننفى إلا المقولات المحتملة الإثبات، فحين يكون هناك احتمال أن نكتفى “بنوحً باكٍ أوترنم شادى” يحق للشاعر أن يستعمل التعبير “غير مجدٍ فى ملتى واعتقادى.. نوح باك ولا ترنم شادى”، ولكن ماذا ينفى الكاتب هنا؟ ينفى أن يكون الإهمال وارد كاحتمال مقبول مع أنه (الإهمال) غير كافٍ، وبالتالى فعلينا أن ننفيه بأن غّير مُجْدٍ؟ ربما يقصد الكاتب أن الاكتفاء بذكر مناقب الراحل غير مجد بما يؤدى إلى اهمال فكره دون نقده!ّ!
أسف، هذا استطراد زائد، لكننى أحب الكاتب الدكتور عاطف العراقى وأظن أن شطر الشعر استهواه.
أما فرحته لتعبير “.. بالتكنولوجيا وليس بالكلامولوجيا”، واقتطافه للعبارة من مقال للراحل فى الأهرام فأرى أنها: عبارة تبدو طريفة للقارئ العادى (الأهرام) لكنها حين تصدر من أستاذ فلسفة، عن أستاذ فلسفة فهى قد تحتاج إلى وقفة نتحمل مسئوليتها، لأن العبرة لم تعد بالتكنولوجيا، ولا بالكلامولوجيا، العبرة كانت وستظل، بأمور أخرى كثيرة كثيرة، خدعة التكنولوجيا والحذر من ألاعيبها وسوء استعمالها الآن تكاد تربو على إغراءاتها بل على فوائدها، كما أن “الكلام” لا يكون “كلامولوجيا” إلا حين يكون غثاء ورطانا، ولنتذكر أن الكلام هو وسيلة الفلاسفة بالذات إذا لم يسمحوا للتصوف والفن أن ينطوى تحت جناح الفلسفة.
آسف: لم نتطرق للكتاب بعد، لعل ذلك يكون غداً.