نشرت فى مجلة سطور
عدد نوفمبر – 1999
روعة النقص البشرى
أصول المسألة:
على مدى التاريخ الحيوى ظل الكائن الحى يندفع إلى الهرب فى مواجهة الخطر، وحين أصيب الانسان بمحنة الوعى من ناحية، وبالوجود المتعدد التركيب من ناحية أخري، لم يعد الهرب مجرد سلوك دفاعى معلن، وإنما صار الوعى به، والاستعداد له، وتحسـب ظهوره من أهم ما يميز الوجدان البشري، وهذا هو ما يسمى الخوف.
وقد زاد الأمر تعقيدا كما يلي:
أولا: أصبح مصدر الخطر غير قاصر على الخارج، بل امتد إلى داخل الذات.
ثانيا: أصبح توقع الخطر يمثل نفس التهديد الذى يحدثه مثول الخطر فى اللحظة الراهنة.
ثالثا: تعدى الوعى بالخطر، والوعى بضرورة الهرب، حجم الخطر الموضوعي، ليصل أحيانا إلى درجة معوقة، أو مؤلمة، أو مفسخة، بما لا يتناسب مع مصدر وحجم الخطر داخلا وخارجا.
وهكذا يمكن تعريف الخوف بأنه: تفاعل وجدانى يعلن الوعى بالعجز، أو احتمال العجز، أو ترجيح العجز، فى مواجهة خطر ما.
ويرجع ذلك عادة إلى إدراك ترجيح عدم التناسب بين القدرة (الحقيقية أو المتخلية) وبين متطلبات مواجهة الخطر أو التهديد به. كما يمكن أن يرجع ـ مؤخرا، إلى الوعى بعدم التناسب بين كم المعلومات الحاضرة أو المتاحة، وبين القدرة على الإحاطة بها والتمكن من استعمالها لدرء الخطر.
ويختلف الخوف حسب ما يتعلق به: فثمة خوف “من”، وثمة خوف “علي”، وأيضا ثمة خوف “أن”: وأخيرا ثمة خوف فقط: تختلط فيه “مـن” “وعـلـي” و ”أن”، وغير ذلك.
ولا يمكن فصل الخوف بذاته لذاته عن مشاعر أخرى متداخله ومتفاعله مثل مشاعر القلق (الذى هو نوع من الخوف فى النهاية) أو الربكة أو الحيرة أو فرط الدهشة المزعجة أحيانا.
وأيضا لا يمكن إنكار الخوف الكامن تحت ما ينفيه أو يخفيه مثل ظاهر التبلد أو الإقدام المندفع فى نزوة غير محسوبة، حيث يبدو التصرف عكس الهرب، وبلا خوف ظاهر، مع أنه هو هو.
لكل هنا الاتساع فسوف نقصر الحديث على “الوعى بالخطر غير المتناسب مع تقييم القدرة الذاتية”، (مرة أخري: الحقيقية، أو المتخيلة).
من هذا المنطلق يمكن القول إن الخوف هو حقيقة إنسانية لا مفر من الاعتراف بها، وهو مظهر من مظاهر روعة النقص البشرى فى مواجهة اتساع آفاق الغيب، وتعدد تشكيلات المجهول، فضلا عن ترامى وتزايد كم المعلومات باضطراد غير مسبوق.
فهل يليق ـ والوضع كذلك ـ بالطب النفسى خاصة، وعلم النفس ضمنا ـ أن يروج للدعوة إلى تجنبه أبدا، وحتما، وفورا وبأقصى سرعة؟
وحتى لا نظلم الطب النفسى (وعلم النفس) فإن أيا منهما لم يعتبر الخوف مرضا إلا إذا شقى صاحبه به، أو أعاقة عن أداء مهام حياته، هذا من حيث المبدأ، أما من حيث الواقع وكيف يتناول الأطباء المعالجون، وكذلك وسائل الإعلام والدراما مسألة الخوف، فهذا أمر آخر.
جذور وعمومية الخوف:
لا أحد يمكن أن يزعم أن الحياة كانت سكونا فى يوم من الأيام، حتى ما قبل الحياة ـ إن وجد ـ فهو حركة دائبة بقوانين أخري، ثم إن النقلة المفترضة من اللاحياة إلى الحياة بدءا من تحرك أصل بللورات “الدنا” DNA إلى ما يشبه الفيروس إنما ترجعنا إلى ربط الحركة بالحياة كأساس للتطور الحيوي، وحين تنامى التطور حتى ظهور الوعى البشرى أصبح مجرد الوعى بالحركة نحو المجهول (الخطوة التالية) هو المهدد الأعظم المصاحب للتقدم نموا أو إبداعا، ومن ثم ظهر الخوف فى صورته البشرية، دون أن يتخلى عن جذوره البيولوجية التاريخية، وحين يبلغ الخوف من الحركة أقصى مداه يصبح الدفاع الجاهز هو أن يتجمد الوجود الحيوي، وهذا ما كانت تلجأ إليه الفريسة أمام الحيوان المفترس فى الغابة، حيث يصبح التجمد والسكون وكذا تغير اللون لتتشابه الفريسة مع ما حولها يصبح هذا وذاك هما الوسيلة للحماية من المهاجم المفترس.
وبتأمل هذا التجمد الساكن والتماثل مع الطبيعة المحيطة فى مواجهة الخطر ندرك أنه فى مثل هذه اللحظة تصبح مجرد الحركة هى الخطر الأكبر الذى يمكن أن يعرض الكائن للهلاك، وقد نجد مثل هذا التفاعل فى الإنسان فى أحوال الرعب المجمد (لدرجة التصلب الكاتاتونى فى الأحوال المرضية)، وقد وصل تقمصى لأحد المرضى فى هذا الموقف أن وصفت حالة الخوف الذى جمدتـه كما يلي:
أخاف أن تموج الأحشاء، من دورة الدماء،
من كثره الأجنة،
أخاف همس الطير
أخاف من نسائم الصباح
من خيط فجر كاذب، أو صادق
من زحف ليل صامت، أو صاخب
ومن حفيف ثوبـى الخشن
ويصل الخوف إلى مداه حين يتعمق إلى الخوف حتى من حركة ما قبل الحياة
أخاف من تناثر الذرات فى مدارها
أخاف من سكونها
وحين يصل الخوف من الحركة إلى الخوف من السكون، يكون “الوعى بالسكون” قد وصل إلى اعتبار أنه حركة كامنة على وشك الانطلاق، فالوعى بتبادل الحركة والسكون يلغى الأمان الكاذب الذى يلوح به السكون.
وبالنسبة للوعى البشرى لا يكون الخوف من مجرد إغارة “الآخر” المفترس مثلما هو الحال فى قانون الغابة، ولكن تتخذ الإغارة أشكالا متعددة، مثل الإهانة، والإغفال، والإنكار، والنفي، وكل ذلك يقابـل بالانسحاب المتجمد، ثم بالخوف من فك هذا التجمد خشية أن تعود الإهانة والإغفال، ويصبح التجمد كأنه موت اختياري، يلغى المشاعر فى مواجهة الإهانة والإهمال.
أخاف لاحراك،
موت تمطى فى تجلط الدماء ، فى مأتم الإباء
والشائع عن الخوف من الموت يقابله وهم أن الحل هو نفى الموت، بأحلام الخلود، وهذا الوهم ـ وهم الخلود ـ هو الذى ضربه نجيب محفوظ بلا هوادة فى ملحمة الحرافيش بوجه خاص، وحين يحتد الوعى البشرى فى مواجهة خطر الموت ينفى الحياة أصلا قبل أن ينفيها الموت، وحتى حين يحلم الإنسان بوهم الخلود فإنه يدرك فى مستوى أعمق من الوعي، أن الخلود سكون ممل، هو بالعدم أشبه.
أخاف أن أموت إن حييت
أخاف إن حييت لا أموت
وهكذا يتساوى الخوف من الموت ومن الحياة ليصبح هو العدم الدفاعي، الذى يلغى الوعى بكليهما، ويتجلى العدم فى حياتنا المعاصرة فى كل مظاهر الاغتراب والوجود الزائف.
رحلات الداخل والخارج، وإسقاط الخوف:
ذكرنا فيما سبق أن ظهور الخوف ارتبط بظهور الوعي، فأصبح الكائن الحى الواعى يتحرك من النظر إلى الداخل المجهول المهدد، إلى النظر إلى الخارج المزدحم الملاحق، ومع أن الداخل يكون أخطر عادة باعتباره مجهولا من جهه، ودائم الحضور من جهة أخري، إلا أن الكائن البشرى يفضل توجيه هذا الشعور (الخوف) إلى ما يظهر له فى الخارج بديلا عن مواجهة خطر الداخل، ويبدو ذلك فى مظاهر “الإسقاط” و”الإبدال” و”الإزاحة” التى تصل فى حدتها المرضية إلى ما يسمى الـرهابPhobia الذى تتعدد أنواعه مثل رهاب الانفراد (المشى وحيدا) أو رهاب التشتت (الخوف من الأماكن غير المحدودة، مثل الميادين) أو رهاب الازدحام والخوف من الناس، أو رهاب الأماكن المغلقة، أو رهاب الأماكن المرتفعة، كل ذلك يعلن مظهرا من مظاهر إسقاط الخوف من الداخل وتحويله إلى الشعور بالخطر الخارجى الذى يعتبر قابلا للتعامل ولو بإعلان الخوف منه، وحتى لا أطيل فى هذا الاستطراد أكتفى بعرض تقمص آخر لبعض مرضاى تعبيرا عن هذا التنوع الدفاعى فى تشكيلات إسقاط الخوف (عصابيا) إلى الخارج.
فى الداخل كهف الظلمـة، والمجهول وتفتيت الذره
والخارج خطر داهم،
يبدو أن الرعب من الخارج أرحم،
شيء ألمسه بيدي،
يلهينى عن هول الحق العاري، عن رؤية ذاتي،
أفليس الخارج أقرب، والخوف عليـه، أو منه، يبدو أعقل، هو ذاك:
أخشى أن أمشى وحدي
حتى لا تخطف رأسى الحدأة.
أما بين الناس: فالرعب الأكبر: أن تسحقنى أجسادهم المنبعجة، اللزجة والممتزجة.
أخشى أن يـغـلـق خلفى الباب ، أو أن يفتح:
فالباب المقفول هو القبر أو الرحم أو السجن
والباب المفتوح يذيع السر،
أخشى أن أنظر من حالق، أو أن يأكل جسمى المرض الأسود،
أو أن أقضـى فجأة، أو أتناثر
لكن الأمر لا ينتهى عند هذا الحد، فكل هذه الدفاعات (الميكانزمات) الإسقاطية هى حل جزئى فى مواجهة الخوف من الداخل الذى هو أكبر ما يتميز به الإنسان فى هذه القضية، فحين تعجز هذه الحيل (الدفاعات ـ الميكانزمات) أن تحافظ على التوازن (ولو كان توازنا مرضيا)، ينتقل الخوف إلى ما هو أرعب: إلى مواجهة الداخل عاريا بكل غموضة، وقوانينه الخاصة، وتهديداته، وهذا ما شرحه المقطع التالى امتدادا فى التقمص.
لم يعد الرعب من الخارج يكفى أن ينسينى الداخل، فاقتربت نفسى منها حتى كدت أراها: الظلمة والمجهول وتفتيت الذرة، والسرداب المسحور وما قبل الفكرة، والطفل المقسوم إلى نصفين ينتظر سليمان وعدله.
ويصل الرعب من مواجهة الداخل واحتمال التناثر مبلغا يتجلى فى مظاهر تسليم وتفكيك “ذهاني” لا مجال لتفصيله فى هذه العجالة.
الخوف من الآخر، الخوف من الحب:
وفى حالة الكائن البشرى لا يقتصر مصدر الخطر على كيان مهاجم مفترس فحسب، وإنما يمتد إلى أشكال أعقد وأعمق سوف نكتفى بعرض نموذج محدد منها، وأعني: إشكالة الخوف من الآخر، والخوف من الحب، والخوف من الأخذ.
فبقدر ما أصبح الوعى البشرى تحديا يعلن مواكبة المعرفة بالفعل، أصبحت العلاقة بالآخر تحديا فى حالة اختبار متصل، ولم يعد يكفى أن تقول إن الآخر هو الجحيم (من ناحية) أو أنه لاغنى عنه حتى الذوبان فيه (من ناحية أخري). ذلك أنه لمـا وصل وعى الانسان إلى أنه لا مفر من المخاطرة بالاعتراف بالخروج من الرحم، راح يحن إلى العودة إليه (إلى الرحم)، وفى نفس الوقت إلى الحرص على الحفاظ على نفسه خارجه، وذلك بإرساء علاقة موضوعية مع كيان بشرى “آخر” يعايش نفس التحدى، من هنا بدأت تجليات إشكالة الوعى بالآخر وما يصاحبها من إقدام وإحجام وخوف نوعى مختلف.
وخطر “الآخر” يكمن فى الاستسلام لأمان غير مضمون من ناحية، وفى التهديد بالالتهام أو الاستعمال، ومن ثم المحو من ناحية أخري، وعلى عكس ما يتصور الناس فإن إرساء علاقة بالآخر من موقع العطاء (والإيثار والمساعدة معا) لهو أخف وآمن من إرساء علاقة حقيقية تحتمل الأخذ والعطاء، فالخوف من الأخذ، أو بتعبير أدق الخوف من “الوعى بالأخذ” يمثل جانبا من أهم ما يحول دون جدل العلاقة بالآخر بشكل يسمح بتنامى مسيرة النمو، وسوف اكتفى هنا بالإشارة إلى الخوف من الاقتراب، ومن ثم من الوعى بالضعف أثناء فعل الأخذ، فى مقابل ذلك: الخوف من الابتعاد خشية لا نقع فى هوة الوحدة.
ويتناسب الخوف من الاقتراب مع الخوف من التسليم بالأمان، وكلما زاد احتمال الطمأنينة إلى حق الاعتماد المصاحـب باحتمال التخلـي، تحفز الخوف دافعا للابتعاد والحذر، كما يبدو من هذا النص الآخر:
يا من تغرينى بحنان صادق، فلتحذر:
فبقدر شعورى بحنانك سوف يكون دفاعى عن حقى فى الغوص إلى جوف الكهف.
وبقدر شعورى بحنانك، سوف يكون هجومى لأشوه كل الحب وكل الصدق.
فلتحذر، إذ فى الداخل، وحش سلبى متحفز، فى صورة طفل جوعان.
وفى نفس الوقت، فإن الوعى البشرى على يقين من أن دوام تجنب “خطر الآخر” (متضمنا خطر الحب)، لا يحل الإشكال، بل يكاد ينفى ما يتميز به الإنسان من كونه “كيان مع…”، بل إنه ينفى الحياة ذاتها.
لكن ماذا يغرينى فى جوف الكهف؟
وصقيع الوحدة يعنى الموت؟
وهذا ما يشير إلى الخوف من الإنكار ـ والترك (التخلي) لو عـرض الفرد نفسه لعمل علاقة بالآخر، فهى الوحدة.
ومع كل هذا فالإنسان لا يقبل فى عمق إنسانيته بعدمية الوحدة وهو يساويها بالموت فلا يستسلم لها، بل تظل رحلة “الذهاب والعودة” بعيدا عن الآخر وإليه بلا توقف، فإذا ما رفض الوعى البشرى صقيع الوحدة ليتقدم نحو الآخر طلبا للدفء والمحبة، يقفز إليه خوف مضاد يحـذر من خطر الترك أو الإغفال.
ألبس جلدى بالمقلوب فلينزف إذ تقتربوا، ولتنزعجوا، لأواصل هربى فى سرداب الظلمة (156)، نحو القوقعة المسحورة…، لكن بالله عليكم:
ماذا يغرينى فى جوف الكهف، وصقيع الوحدة يعنى الموت؟
لكن الموت الواحد:… أمر حتمى ومقدر، أما فى بستان الحب، فالخطر الأكبر أن تنسونى فى الظل، ألا يغمرنى دفء الشمس، أو يأكل برعم روحى دود الخوف. فتموت الوردة فى الكفن الأخضر، لم تتفتح، والشمس تعانق من حولى كل الأزهار، هذا موت أبشع، لا… لا تقتربوا أكثر، جلدى بالمقلوب، والقوقعة المسحورة تحمينى منكم.
وهكذا تستمر رحلة الوعى البشرى من خوف إلى خوف:
خوف من الوحدة، وخوف من الآخر،
خوف من الابتعاد حتى لا يـنسي، وخوف من الاقتراب حتى لا يـلتهم،
خوف من الأمان حتى لا يـخدع، وخوف من اللاأمان حتى لا يتجمد رعبا. إلا أن كل هذا ليس سلبيا بحال، بل إنه عمق الطبيعة البشرية التى لا يتم مسار النمو إلا من خلال الجدل معها واستمرار محاولة التوليف الأعلى من خلال كل ذلك.
وتشمل هذه المسيرة تفاصيل أخرى حول الخوف من مصادر لا مجال لعرضها فى هذه العجالة مثل الخوف من الإيمان، والخوف من الحرية، فهذا كله يحتاج إلى عودة أشمل وتناول أرحب.
تعقيب ودعوة لاقتحام الخوف:
إذا كان الخوف يمتد بجذوره إلى كل هذا العمق، وتظهر تجلياته بكل هذا التنوع، فعلينا أن نراجع أنفسنا أمام مزاعم معاصرة تبالغ فى تصوير أن الخوف يندرج غالبا تحت ما هو “اضطراب” أو “مرض”، تحت أى عنوان مثل “القلق” “والرهاب” “ونوبات الهلع”، وما إلى ذلك، ذلك أنه لا ينبغى علينا أن ننفى الخوف ابتداء خشية أن يمتد حتى يصل إلى ما يسمى المرض النفسي، بل إن علينا أن نحترمه لنستوعبه بل نقتحمه لنكون به إلى ما هو طبيعتنا البشرية.
وأعتقد أن هذا سوف ينبهنا إلى ضرورة مراجعة مقولات سائدة مثل: “دع القلق وابدأ الحياة”، ليحل محلها، مثلا: ” افتح القلق لتستمر فى الحياة”
وبالقياس يمكن أن نضحك من كتاب عنوانه: “لا تخف”، لنؤلف بدلا منه كتابا بعنوان: “كيف نخاف”؟
وهكذا
ولنتذكر أن الوعى الشعبى ظل ينبهنا إلى مثل ذلك فى قوله: مثلا أنه “من خاف سلم”، أو حتي: “قالوا نام لما ادبحك، قال دى حاجة تطير النوم من العين”