الأهرام : الثلاثاء: 17 يناير 2017
د. يحيى الرخاوى يتحدث عن أديب نوبل وشخصياته
كل شخصيات روايات نجيب محفوظ تحمل بعضا من سماته الشخصية
د. عماد عبد الراضى
صورة معبرة تجمع الدكتور يحيى الرخاوى ونجيب محفوظ
فى الجزء الأول من حلقتى ذكرى ميلاد أديبنا العالمى نجيب محفوظ، تناولنا بعض جوانب أدبه التى ربما لا يعرفها من انتقدوه، وهى الأدب المسرحى وأدب المقاومة وكتابة السيناريو وأدبه فى مواجهة الإرهاب، واليوم، فى الجزء الثانى، نطرق بابا فريدا، وهو باب “الطب النفسى” مع د. يحيى الرخاوى أستاذ الأمراض النفسية بكلية طب قصر العينى – جامعة القاهرة، لنعرض رؤيته لسيكلوجية إبداع محفوظ لشخصياته، وهى رؤية خبير نفسى ومتذوق للأدب ودارس لروايات محفوظ وصديق شخصى له.. كل هذا فى آن واحد، مما يجعل لهذه الرؤية أهمية كبيرة.
هل وضع نجيب محفوظ سماته الشخصية فى إحدى شخصياته؟
نجيب محفوظ وضع سماته الشخصية فى كل شخصيات رواياته بلا استثناء، وهذا ما يميز المبدع الحقيقى، فلا يمكن لمبدع أن يخط حرفا إلا إذا احتوى الشخصية التى يكتب عنها بكامل وعيه الإبداعى، وهذا هو رأيه شخصيا فى هذه القضية كما أثبته فى حديث له معى نشرته فى كتابى الإلكترونى “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”، فذات مرة قلت له: “يبدو أن المبدع لا يبدع إلا ذاته” فقال لى: هذا صحيح تقريبا، لكنه لا يكون صحيحا فعلا إلا إذا تذكرنا أن المبدع لا يعرف ذلك ولا يقصده تماما، فهو يكتشف ذلك بنفسه، ويكشف عنه من خلال إبداعه، أى أنه لا يرصد ذاته أو يصورها بل يتعرف عليها وهى تنطلق منه”، ثم أشار إلى أن الذى يصور نفسه تماما لا يبدع وإنما “يحكى” شخصه، ومثل هذا الشخص لا يكتب إلا عملا واحدا، لأنه شخص واحد، وقد يكون هذا العمل صادقا تماما، وقد يكون جميلا وأصيلا، لكنه لا يستطيع أن يكتبه مرتين، لأنه لا يستطيع أن يكتب غيره.
هل هناك شخصية تعمد محفوظ أن يسبغ عليها صفاته الشخصية؟
ليس تماما.. ومع ذلك فلابد أن توجد شخصية هنا أو هناك تحمل ملامح أكثر للكاتب، ولو فى فترة من فترات حياته، وما زلت أذكر تبادل الملاحظات بينه وبين إحسان عبد القدوس – وقد ظهر هذا النقاش الطريف فى الصحف منذ عشرات السنين- وإحسان يرجح أن شخصية كمال أحمد عبد الجواد فى الثلاثية كانت تعبر عن فترة من فترات حياة نجيب محفوظ، وعلى ما أذكر فإن محفوظ لم يقر ذلك على إطلاقه، وإن لم يرفضه أيضا، على أن نجيب محفوظ قد اعترف لى شخصيا حين عرضت عليه بعض نقدى لأصداء السيرة الذاتية وأعلنت له تحفظى على حجم ظهور “الشيخ عبد ربه التائه” فى النصف الأخير من الأصداء، فقد اعتبرت أن شخصيته أقرب إلى شخصية الراوى منها إلى أية شخصية قائمة بذاتها ولها ملامحها المميزة، وكل ما وصلنى من هذا الشيخ عبد ربه التائه هو أصداء لحكمته وآرائه، التى أغلبها بعض أصداء حركية وعى محفوظ نفسه، وقد أقرنى الأستاذ على بعض ذلك.
وماذا عما يتردد عن تلميح محفوظ لنفسه فى رواية الكرنك؟
لمحت إشارات محدودة، وأحيانا صريحة من أكثر من صديق من أصدقاء محفوظ الأصغر سنا أنه هو أحد شخصيات هذه الرواية، وهو لم يوافق أيا منهم على رأيه، ولا رفضه، فتعجبتُ واحترمتُ واستبعدتُ.
هل كان محفوظ يستمد شخصياته من الحياة الواقعية بشكل كامل؟
طبعا كان يستمد شخصياته من الحياة الواقعية ولكن ليس بشكل كامل، فالمبدع، وخاصة محفوظ، يتمتع بحاسة التقاط إدراكية شديدة الحساسية وهى جزء لا يتجزأ من مقومات إبداعه، فهو ليس مصوِّرا فوتوغرافيا يصور شخصياته ليعرضها كما هى، وإلا فأين الإبداع؟ وقد شرُفتُ ذات حوار بشرحه لمثل ذلك، وأنه كان يلمَحُ أحيانا ملمَحا مميزا لجانب من جوانب شخصٍ ما، أو ينتقى جملة أو حدثا سمعه أو قرأه فى الصحف (وقد حدد “اللص والكلاب” مثالا لذلك) ثم ينسج من هذا الملمح بقية الشخصية والأحداث بما يبدعه، وقد سمعت أيضا منه وأنا أناقشه فى مراجعتى لما نشرته من نقدى لروايته الشحاذ “الأهرام سنة 1970″، وكان قد أبدى إعجابه بهذا النقد لأحد أصدقائه، لكنى، حين تعرفت عليه، أبلغته أنى عدلت عن منهج النقد الوصفى النفسى، وقمت بما أسميته “نقد النقد”، وكان نقدا ذاتيا رفضتُ فيه ما ذهبت إليه فى النقد السابق حيث أدركت أنه ليس من النقد الجيد أن نقوم بوضع اسم مرض نفسى معين لشخص فى رواية، وكنت قد ألمحت فى هذا النقد أننى أشفقت على الكاتب أن يكون قد مر بهذا المرض، وكان الأستاذ توفيق صالح، رحمه الله، حاضرا هذا الحوار، فألمح أن شخصية عمر الحمزاوى في “الشحاذ” كانت أقرب إلى فلان “صديق لهما”، لكن محفوظ تحفظ على تصريح الأستاذ توفيق، وراح يشرح لنا كيف أنه لا يمكن أن تكون الرواية مجرد حكى عما سمع أو جرى.
هل هناك روايات حيرتك شخصياتها؟
الذى راعنى وتعجبت له ومنه, حتى سألته أستوثق من طريقة كتابته, هو حضور كل هذه الشخصيات فى عمله المعجزة “حديث الصباح والمساء”، وقد أكد لى أن الترتيب الأبجدى للشخصيات كان كذلك منذ البداية، مع أننى لم أستطع أن أقوم بنقد هذا العمل إلا بعد أن أعدت ترتيب الشخصيات تاريخيا، وبرغم التسلسل الأبجدى استطاع أن يرتب الأحداث التى مرت بها مصر، لفترة عقود طويلة بكل دقة وإبداع.
ماذا عن رؤيتك لرواية “أولاد حارتنا”؟
بدأت قراءتى لأولاد حارتنا حين كانت تنشر مسلسلة فى الأهرام، ولم يصلنى منها إلا حبكة الصنعة وجمال الصياغة، ثم إننى حين تعرفت عليه شخصيا بعد كتابة هذا العمل بسنوات وسنوات أتيحت لى الفرصة لأقول له رأيى مباشرة فيها، وأنها ليست أحسن أعماله، برغم ما بها من روعة إعادة صياغة التاريخ بجمال عصرى فائق، وهذا هو ما يرجَى منه طبعا، لكننى شعرت أنه كاد يختنق فى خندق الالتزام التاريخى والتحفظ الدينى، ثم تطورت المحاولة ونضجت فى ملحمة الحرافيش فاعتبرتها التطوير التجاوزى لأولاد حارتنا، وقد وصلتنى من محفوظ موافقة جزئية على ذلك.
رفض د. يحيى الرخاوى مصطلح “التحليل النفسى لشخصيات روايات نجيب محفوظ”، ورد بقوله: “أنا لا أقوم بتحليل الشخصيات حتى فى الواقع، وإنما أقرأ ناقدا لأستلهم النص بما تيسر”، ومع “اختلاف المصطلحات”، فإننا نعرض هنا رؤية د. الرخاوى لبعض من أهم شخصيات روايات محفوظ.
السيد أحمد عبد الجواد “سى السيد”
يختلف تماما عن محفوظ
شاع بين العامة أن هذا “السيد” يمثل الأب المصرى الشديد فى بيته، المنطلق حرا خارجه… إلخ، كما قيل إن به بعض ملامح موقف نجيب محفوظ فى بيته، وهذا مخالف تماما لما عاصرته شخصيا معه، فأنا لم أر أبا بحنان هذا الرجل، ولا بعدله بين أفراد أسرته، ولا برعايته لابنتيه وحنوه عليهما، ورقته معهما، تمتد هذه الملاحظة إلى السيدة زوجته ــ رحمها الله ــ وتشبيه بعض من لا يعرفونها بأمينة زوجة سى السيد خطأ بحت أيضا، هذا علما بأننى لم أقم بنقد الثلاثية بالذات.
الجبلاوى وعاشور الناجى
محفوظ كان أقرب إلى عاشور من الجبلاوى
العلاقة بين عاشور الناجى فى الحرافيش وبين الجبلاوى فى أولاد حارتنا علاقة تغرى بالمقارنة، فعاشور الناجى اختفى، ولم يُعلَن موته صراحة، وظل أهل الحارة ينتظرون عودته أو ظهوره باستمرار، كما ظلوا ينادونه فى غيبته، ويبتهلون بركاته حتى نهاية الرواية، لكن وجوده كان فى وعى ناسه وجودا بشريا مُنتظرا، وهذا يختلف عن حضور الجبلاوى فى أولاد حارتنا، فقد كان حضورا غامضا، وفى رأيى أن محفوظ شخصيا كان أقرب إلى عاشور من الجبلاوى.
عثمان بيومى فى “حضرة المحترم”
خلود مختلف عن خلود الحرافيش
خلود الحرافيش يختلف تماما عن موقف وأحلام عثمان بيومى فى “حضرة المحترم” التى نشرت قبل الحرافيش بسنتين، وقد قمت بدراسة نقدية مقارنة بين هذين النوعين بعنوان “ضلال الخلود بين جلال (صاحب الجلالة) وعثمان بيومى”، بيّنتُ فيها أنه من البداية نلاحظ أن الثقافة التى أفرزت ضلال جلال صاحب الجلالة فى الحرافيش تختلف عن الثقافة التى ترعرعت فيها “لا نهائية” عثمان بيومى، ثقافة أجيال ملحمة (الحرافيش) تبدو فيها ثقافة القوة والفتوة (والفتونة) والتجارة والأعيان، وربما تحددت قوانين البقاء فيها بأن “البقاء للأذكى” و”الأقوى” و”الأسرع” بغض النظر عن محتوى أدائه، أما ثقافة مجتمع عثمان بيومى فهى ثقافة البؤس والخوف والظلم بما تتضمنه من حفز البعض إلى الكدح والصبر، كل ذلك منضبط بنظام حكومى صارم، ليس عادلا أصلا.
وقد تسربت فكرة الخلود لـ “عثمان بيومى” حين تجسد له موت أمه وكأنه بمثابة القتل بالإهمال، فانكب على ذاته متحسرا متألما صابرا مثابرا متحديا بما زرعته ثقافة ناسه فيه، ولم تحضره أمه بعد ذلك أبدا، ولم تبارك نجاحه الذى لو عاشت كانت ستدعمه، ولم يذكرها فى أوقات توفيقه كلما صعد درجة على سلم المجد المكتبى الإدارى، ولا فى أوقات وحدته وجوعه إلى أنيس أو شريك.
سعيد مهران
حلم قبل فترة النقاهة
لعل أحدا لا يذكر أن توظيف محفوظ للحلم فى سياق رواية “اللص والكلاب” كان سابقا فى أعماله قبل “رأيت فيما يرى النائم” وطبعا قبل أحلام فترة النقاهة، وقد عثرت على حلم ورد فى اللص والكلاب ألهمنى دراسة “نشرتُها فى مجلة سطور عدد مارس 2006” تتناول ذلك الحلم الذى كان فى دار الشيخ على الجنيدى، وكان سعيد مهران قد أغفى عنده قرب الفجر، فقد رأى أنه يُجلد فى السجن رغم حسن سلوكه، وصرخ بلا كبرياء ولا مقاومة، ورأى سعيد سناء “ابنته”، وفى السيارة برز له رؤوف علوان فجأة من الراديو، فقبض على معصمه قبل أن يتمكن من قتله، وقال له الشيخ إن كل مايتعرض له من متاعب تم بناء على اقتراح للأستاذ رؤوف علوان المرشح لوظيفة شيخ المشايخ، “فعجب سعيد وقال إن رؤوف خائن ولا يفكر إلا فى الجريمة، فقال الشيخ إنه لذلك رُشح للوظيفة الخطيرة، ووعد بتقديم تفسير جديد للقرآن الكريم يتضمن كافة الاحتمالات التى يستفيد منها أى شخص فى الدنيا تبعا لقدرته الشرائية”.
وفى هذا الحلم يوجز محفوظ موقفه من الحكومة، والجريمة والعقاب والدين الحقيقى والدين الفاسد فى جرعة واحدة، الأمر الذى تطور حتى عاد إليه فى آخر أعماله “أحلام فترة النقاهة” وهى من أدل أعماله على شخصيته وإيمانه وانتمائه لناسه.