جريدة الأسبوع
10-9-2012
د. يحيي الرخاوي فى حوار خاص لـ الأسبوع
المصريون قادرون على صنع الفرعون
وقادرون على إنهاء خدمته
أجرى الحوار : سلوى علوان
استحواذ الأخوان على السلطة يحملهم وحدهم نتيجة أى فشل
سوف يختبر الناس من يزعمون أنهم يمثلون الدين فإن أبعدوهم عن الدين الحقيقى فسوف يلفظونهم آجلاً أو عاجلا
قتل، وعنف، وفوضى عمت الشارع المصرى فى الآونة الأخيرة، أخبار مؤسفة وحوادث عنيفة وصراعات ومشاجرات وتحرش، نفاق ورياء سياسى ومخاوف من فرض التيارات الإسلامية سطوتها على مقاليد السلطة.
كثيرةٌ هى المشاهد السياسية والاجتماعية التى نصبح ونمسى عليها.. حكايات جديدة مؤلمة نعيشها كل يوم, خوف فى كل بيت جراء حالة الانفلات الأمنى التى نعيشها منذ أكثر من عام ونصف العام, خوف من المستقبل القادم ومن سيطرة التيارات الإسلامية على مقاليد الحكم فى مصر.. خوف من أحداث تفاجئنا كل يوم لم يكن المجتمع المصرى يتوقع معظمها..
حول هذا الوضع المضطرب, وهذا العنف المتصاعد, حول المشهد السياسى والحالة النفسية للمصريين, والتخوين وقسوة انتقاد الآخر وهدم الرمز الوطنية, حول هذا وأكثر دار هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى-أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة وأحد أشهر أساتذة الطب النفسى على مستوى العالم العربى..
* تسود المجتمع حالة من الانفلات الواضحة حيث تزايدت نسبة الجرائم وشراستها سواء على مستوى الشارع أو داخل البيوت فأصبحنا نسمع عن أب يقتل أولاده جميعهم، وابن يقتل أمه، وآخر يقتل أبيه وزوجة تقتل زوجها وتقطعه، وزوجاً يحرق زوجته، فضلا عن تزايد أعداد المنتحرين بسبب الفقر أو المشاكل الزوجية أو مشاكل العمل.. فما تحليلكم لتلك الحوادث.
** كل احترامى لما ينشر فى كل وسائل الإعلام، ومع كل تصديقى لما يصلنى من أهلى ومرضاى، ومعارفى، وتلاميذى فإنى أتحفظ كثيرا أمام هذا التعميم العشوائى، لا أميل إلى التصديق على أقوال مرسلة لا تستند إلى إحصائيات منهجية على عينات ممثلة لمن هو الشعب المصرى أو الشارع المصرى، أنا مازلت أميل إلى أن الإعلام بهذه الطريقة المثيرة إنما يساهم بوعى أو بدون وعى فى إثارة الذعر وأيضا هو مسئول جزئيا عن استثارة الانفلات من حيث أن تكرار تصوير وعرض وتجسيم كل هذه الاعتداءات والانتهاكات تتم بكل هذه البشاعة ليل نهار يحرك فى المتلقى بدائيته بشكل أو بآخر، ليس معنى ذلك أننى أدعو للتستر على ما يجرى، وإنما أريد أن أحمل المسئولين فى الإعلام إحكام ضبط الجرعة، وتحديد الدور الذى ينبغى أن تقوم به بعد الإشارة، دور يتجاوز النصح والإرشاد، أو مجرد اتهام تقصير الدولة التى لم تسترجع قوتها وسطوتها بعد.
إن أى ثورة ناجحة لها ضحاياها ومضاعفاتها عبر التاريخ فما بالك بمشروع ثورة يراد له النجاح فى الوقت الذى يتربص به القُناصة والقراصنة من كل جانب، بل ويساء توجيهه ممن نعرف وممن لا نعرف،على الإعلام أن يقلل من غلوائه فالشعب المصرى هو الشعب المصرى على مر التاريخ الراسخ، وهو صاحب الجذور الغائرة فى أعماق الأرض، الممتدة إلى آفاق الحضارة، وهو لا يمكن أن يخاصم الحياة مهما ظهرت على سطحه مضاعفات متوقعة فى مثل هذه النقلات الصعبة إلى حين تتكون دولة حقيقية.
* ولكن تصاعدت حدة جرائم القتل والبلطجة فى الشارع المصرى، بل إن ارتكابها اقترن بالتعذيب والتلذذ به، فما تحليلكم وتفسيركم لتلك المشاعر العدوانية التى صارت تجتاح الشارع المصرى؟
** مع موافقتى على ما ينشر، أيضا أريد أرقاما، قبل أن أحكم هذا الحكم العام، أما حكاية التعذيب فهو وارد، لكن ما هو المقياس الذى يقيس به ناشر الخبر أو حتى المحقق قبل أن يصلك وصف “التلذذ به” هذا وقد تكرر فى السؤال الأول والسؤال الثانى لفظ “تحليلكم”، وأريد أن أنتهزها فرصة لأنبه أننى لا أحلل الأحداث العامة وأترجمها إلى لغة نفسية بهذه السهولة التى تلوح لأبنائى وبناتى المشتغلين بالإعلام، لأنه لا يمكن تقديم التفسير العلمى الذى يفضلون نعته بالتحليل فى حين أنه ليس لدينا إلا هذا القدر القليل من المعلومات التفصيلية، ثم أن هذه ليست وظيفة الطبيب النفسى ولا حتى المحلل النفسى، لابد من الحصول على المعلومات أولا ومن مصادر متعددة، وبالنسبة لكل حالة على حدة، ثم بعد ذلك علينا تحديد المطلوب قبل أن يفتى المختص النفسى مهما بلغت مهاراته بهذا الوصف أو ذاك ويسميه تحليلا نفسيا سواء للأفراد أو لعموم الشعب، هذا تجاوز ضار مهما بدا جاذبا.
* لماذا يشعر كثير من المصريين بفقدان الثقة بأنفسهم وبالآخرين حولهم؟
** من قال إن المصرى فقد ثقته بنفسه وبالآخرين؟ مازال الفلاح يذهب لأرضه ويزرعها ومعظم المصانع التى لم تخربها الفوضى تعمل بطاقة مناسبة، والناس تذهب للعمرة، وهم يكبرون فى العيد، ويتصافحون ويدعون لبعضهم البعض بالسلامة، ويبحثون عن عمل، ويهاجرون سعيا للرزق حتى لو ضحوا بحياتهم، كل هذا ونصفهم بهذا التعميم بأنهم لا يثقون بأنفسهم، لماذا؟
ثم إن الإدارة وأجهزة الدولة، لم تتكون بعد بالقدر الذى يسمح للمواطن أن يثق بها، كآليه تحميه وتؤمنه، من ثم يستعيد ثقته بنفسه وبها وبالناس، أما عدم ثقته فى الأفكار المستوردة والشعارات الجاهزة فأرى أن عنده حق فى ألا يثق فيها لأن أغلبها ملوث بأغراض من يصدرونها إلينا ليستعملوها لأغراضهم ولمصالحهم هم, وهم يزعمون أنهم يعلمونا الحرية ويدربونا على الكرامة الإنسانية حتى نكون بشرا مثلهم.
* ما سبب حالة التخوين والاتهام بالعمالة لكل من يختلف عنى فى الرأى، وهذه ظاهرة تفتت المجتمع من الداخل حيث يتم التشكيك فى كل الرموز والوطنيين والثوار وحتى من فى البيوت ممن يطلق عليهم “حزب الكنبة”؟
** أنا أحترم تعبير “حزب الكنبة” فهو تعبير مصرى ذكى، ولكنه ليس بالضرورة تعبير موضوعى على طول الخط، لأنه يطلق عادة على من اعتبروه أنه اختار أن يحتفظ بموقع المتفرج حتى تستبين الأمور، فالجالس أمام التليفزيون على الكنبة قد لا يكون مجرد متفرج سلبى، بل لعله يكون فى وضع استعداد مؤجل “ستاند باى” وقد يكون أكثر وعيا وهمًّا وعزما من المندفعين إلى الميادين والشوارع “عمال على بطال” طالبين التغيير السريع المفتخر وكأنهم يستبدلون أربطة العنق.
أما حكاية التخوين والاتهام بالعمالة فهو أمر وارد خاصة وقد اعترفت جهات متعددة بالقيام بدور مشبوه فى التدريب والإثارة والتحريض والتمويل ليس بالضرورة لوجه الثورة ولا لوجه الله، هذا ما ظهر، أما ما خفى فهو أعظم.
ومادام أى فريق قد سمح لنفسه بتخوين الآخر فعليه أن يتحمل بدوره أن يُتهم بالخيانة هو أيضا بمثل ذلك، لكننى أصر أنها ليست ظاهرة عامة.
* لماذا أصبح أى خلاف عادى بين مسلم وقبطى معرضاً لأن يتحول إلى خلاف طائفى يترتب عليه الاعتداء على دور العبادة أو التهجير للأسر القبطية من ديارهم وهو ما لم تعرفه مصر عبر تاريخها؟
** السؤال أيضا فيه تعميم خطير، فمازالت العلاقة التاريخية والإيمانية تجمع بين المصريين المختلفين دينيا، إلا أن علينا أن نخطو خطوة أبعد بعد الاطمئنان إلى الطبيعة المصرية الطيبة لأفراد الفريقين، علينا ألا نكتفى بالأحضان والقبلات، وادعاء التسامح ونحن نعلم أطفالنا فى المدارس ضد ذلك، ناهيك عن المساجد والكنائس، نحن نعلم الطفل من صغره أن زميله الجالس بجواره على نفس الدرج فى المدرسة هو وأهله سيذهبون إلى النار حتما ما لم يؤمنوا بدينه ودين أهله هو لأنه الأحسن والأصح، نحن نتجاهل هذا الذى يجرى طول الوقت منذ الصغر، وعلى الأزهر أن يغامر بإصدار فتوى تؤكد أن هذا أمر متروك لعدل الله سبحانه أولا وأخيرا مهما كانت الفتاوى الصادرة قبل ذلك غير ذلك، وعلى الكنيسة أن تفعل نفس الشىء بكل صراحة وقوة، وإلا فالنفاق الجارى لن يحل المشكلة، وادعاء التسامح لن ينقذ من فى حضن المتسامح له من حاضنه من سعير جنهم الصادر حتما فى فتاوى صريحة متلاحقة مؤكدة طول الوقت.
* ما تفسيرك للعدوانية فى الانتقاد أو الاختلاف فى الرأى كالطريقة التى هاجم بها الدكتور عبد الله بدر- مثلاً- الفنانة إلهام شاهين حيث وصفها بالفجور والزنى لأنها دافعت عن الفن وأبدت خوفها من سيطرة الإسلاميين؟
** أنا لم أتابع هذا الحدث وما دار حوله بالتفصيل، لكن ما أعلمه عن دينى أن قذف المحصنات بغير شهود عدول، هو جريمة تعادل جريمة الفجور والزنى نفسها، وأعتقد أن هذا الذى جرى إن كان كما جاء بنص السؤال هو إهانة للإسلام نفسه وآدابه أكثر منه إهانة للفنانة أو للفن، ولابد لرجال الدين وللقانون أن يكون له موقف حاسم ورادع وسريع أمام هذه التجاوزات حتى لا يتمادى هؤلاء فى مثل ذلك.
* أشارت أحدث إحصائية أجراها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء عام 2011 إلى أنه من بين كل 100 حالة زواج تتم فى القاهرة ينتهى 33 منها بالطلاق، بما يعنى أن 90 ألف أسرة تتفكك سنوياً بسبب الطلاق، وأن مصر تسجل أعلى معدلات الطلاق فى الدول العربية, فما هو تفسيرك لانتشار ظاهرة الطلاق والتى يترتب عليها المزيد من التفكك الأسرى وأطفال الشوارع والجرائم والأمراض النفسية؟
** الطلاق هو حق مكفول يدل على حركية العلاقة بشكل ما، وقد أعطى قانون الخلع للمرأة مساحة أكبر تتحرك فيها بتلقائية أسوة بالرجل إذ هى لم تتحمل ظلما أو لم تطق قربا مفروضا، لكن يظل الطلاق أبغض الحلال، وكثرة حالات الطلاق هى تنبيه يشير أن بناء الأسرة بالصورة الشكلية التلفيقية الجارية هو بناء هش، وأن علينا أن نعلم أبناءنا ومنذ الصغر أن الزواج حتى عن حب هو “عملية مستمرة”، وأنها بداية مسار، وليست نهاية مطاف، وأنها عملية فيها إعادة اختيار متكرر يتطلب جهدا ليس فقط من الطرفين، بل من جميع الأطراف شاملة الأسرتين الكبيرتين والمجتمع، وفى نفس الوقت فإن استمرار الحياة الأسرية على أساس خاطىء أو ظالم ليس هو النموذج الأمثل للأسرة السليمة.
* أيهما أخطر على المجتمع: الفساد – الجهل – الفقر، وبأيهما يبدأ الحل لمشكلاتنا؟
** الفقر، ثم الجهل، ثم الفساد، وكل منها يغذى بعضه بعضا بغض النظر من أين نبدأ، والحل فى رأيى قد يبدأ بهذا الترتيب ولكن ليس بشكل استبعادى للعامل التالى، إذ ينبغى أن تبدأ الحرب على كل الجهات.
* ما هو تفسيركم لظاهرة فقد الشعور بالانتماء للوطن ورغبة الكثير من المصريين فى السفر أو الهجرة للخارج.. إذا كان ذلك نوع من البحث عن الرزق فما تفسيركم لحالة الفخر التى تنتاب المصريين من أصحاب الجنسيات المزدوجة بجنسيته غير المصرية؟
** الهجرة عموما هى دليل على اتساع مساحة الحركة، وتنشيط الأمل، وهى ليست كلها سلبا، بل إن الهجرة للعمل تمثل مصدرا هاما داعما لاقتصاد الوطن.
أما حكاية الفخر بالجنسية المزدوجة فهذا إعلان لهشاشة هذا المهزوز من ناحية، ولضعف التنشئة التى لا تعتنى بتربية النشء بتوثيق علاقته بالأرض، وبمن عليها من أهل وناس، على أن التواصل المتناهى الآن عبر العالم وخاصة الشباب، قد جعلهم ينتمون إلى الوعى الشامل الممتد بشكل قد يعوضهم المغالاة فى الشوفينية والتعصب، وهو وعى عام جديد وليس مرادفا للعولمة المصنوعة من أعلى لصالح الإمبراطوريات الأحدث.
* وما تفسيركم لتراجع قضايا القومية العربية لدى العالم العربى، فالمجازر والأحداث التى تمر بها عدد من الدول العربية الشقيقة مثل سوريا وليبيا واليمن والسودان وغيرها لم يعد يهتم لها المصريون كما كان الحال فى السابق ؟
** لا يوجد حاليا ما يربط العالم العربى حقيقة وفعلا إلا اللغة العربية العبقرية العظيمة، وهى شرف تاريخى، ودليل حضارى على عراقة وحدة هذه الأمة وأنا أتعجب من هذا التفكك والتنافر حتى التناحر مع أن هذه القوة القومية تمتلك من مقومات التكامل الاقتصادي والانتاجى والإبداعى ما يمكن أن ننافس به أمريكا أو الصين أو أوروبا، لقد انتهى عهد القومية العربية الخطابية التهييجية والمؤامراتية بعد أن ثبت أنها فقاقيع لا عمر لها.
ثم إنى لا أعتقد أن إنسانا عربيا أو حتى غير عربى يمكن أن يرضى عن المجازر المذكورة فى السؤال تحت أى صفة، لكن المصيبة أن الاعتماد على مصادر إعلامية مشبوهة يجعل الأمور أكثر غموضا حين يتمادى التركيز على الإثارة والتحزب ولىّ المعلومات حتى تضييع الحقائق، والأرجح عندى أن كل الناس دون استثناء يتمنون أن تتوقف هذه المآسى بأسرع ما يمكن.
* ما نراه اليوم من نفاق ورياء يذكرنا بما كان يجرى أيام مبارك, فهل يمكن أن يخلق المصريون فرعون جديد بعد كل ما عانيناه؟
** المصريون لا يصنعون الفرعون بهذه البساطة، هم واثقون من عمق تاريخهم أنهم كما يصنعونه يستطيعون أن يفككوا نظامه دون ان تنهار دولتهم أو تهتز حضارتهم الأعمق، ثم أنهم لا ينقلبون علي الدكتاتور ولكنهم ينهون خدمته إذ يبدو أنهم يحددون له عمره الافتراضي مسبقا، حتي إذا حان الحين سقط مثل الفاكهة العفنة بهزة من ساق الشجرة، وإذا كانت الهزة قوية فقد تسقط معها كل الفاكهة الفاسدة فتكون ثورة.
* لماذا ينسى الكثير من المصريين أنهم أصحاب حضارة امتدت لآلاف السنين ولم يعد أحدهم يفخر بها كما كنا نفعل بالأمس؟
** من الذى قال أن المصريين قد نسوا أنهم أصحاب حضارة؟ وبأى مقياس نقيس الحضارة؟ أنا لا أقيس حضارة المصريين بالهرم الأكبر، وإنما بعمق علاقة وعى الفلاح المصرى بالأرض والزرع والمستقبل، ومن ثم التاريخ، ثم إن علينا أن نعرف أن الحضارة غير المدنية وأن الثقافة ليست قاصرة على وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة، وأن المصرى هو الأرض والطين والتراحم والإيمان الشعبى البسيط، وكل ذلك مازال فاعلا يربط بين المصريين مهما بدا السطح معتما أحيانا.
* لماذا لا يشعر المصريون بالفخر تجاه نجاحاتهم الكبرى, حتى أن هناك من يشككون أحيانا فى إنجازات حرب أكتوبر 73 وهناك أيضاً من أصبح ناقما على ثورة يناير 2010, تلك الحرب وهذه الثورة اللتان أبهرتا العالم كله لمصر والمصريين ؟
** انبهار العالم لا يلزمنا أن ننبهر بما انبهروا به، علينا أن نعد مقاييسنا على مدى زمنى أطول، وحرب أكتوبر هى حرب أكتوبر لا ينتقص منها ما يثار من شكوك حولها، وحتى لو صح بعضها فالذين حاربوا هم جنودنا وضباطنا وهم الذين انتصروا.
أما التشكيك فى ثورة يناير والربيع العربى فهو ليس تشكيكا فى أمانة أو وطنية من قاموا بها وإنما هو تنبيه إلى ضرورة الانتباه إلى الأيدى الخفية التى قد تكون قد ساهمت، وتساهم فى التحريض والإثارة، مما يجعلنا أكثر حرصا فى مواجهتهم حتى تحول دفة النتائج لصالحنا باستمرار أولا بأول ونحن نحول دون الانحراف فنفوّت حتى على هذه الأيدى أغراضها لو صح أن لها دور.
* لماذا يتنامى الشعور بالاغتراب داخل الوطن، ليصبح كل فرد منغلقاً على ذاته متجاهلاً لمشاكل الآخرين رغم أننا اعتقدنا أنه بعد اللحمة وحالة التوحد التى عاشها المصريون أثناء ثورة يناير بأننا سنكون جسداً واحداً وأن همنا صار واحداً مشتركاً ؟
** الجسد الواحد مكون من عدة أعضاء يختلف بعضها عن بعض تمام الاختلاف، لكنه فى النهاية جسد واحد والمسألة ليست فى التوحد والإجماع، وإنما فى كيفية التدريب، كيفية ممارسة الاختلاف مع استمرار العمل والتكافل طول الوقت،
أما أن الهم واحد فهو واحد وسيظل واحدا إذا اشتكى عضو واحد تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
* ما تأثير غياب الأعمال الأدبية والفنية الهادفة التى تركز على القضايا الوطنية والقومية على الشعور بالانتماء خاصة لدى الأجيال الجديدة؟
** الأعمال الأدبية والفنية لم تنته، والأعمال الإبداعية الحقيقية تحتاج فترة من الزمن حتى تستوعب الأحداث، أما الأعمال السريعة المباشرة فهى عادة تكون أعمالا انفعالية أو تحريضية أو شوفينية، أنا مازلت اعتقد أن الإبداع مستمر، وأن الألم الذى يعيشه المبدعون يصهرهم صهرا، أما متى يفرز هذا الألم ما يخرج إلينا فيما يسمى إبداعا فهذا أمر موقوت بظروف قد تؤخر ظهوره لكنها لا تنفى وجوده.
* هل ترى فرق بين سلوك المصريين قبل ثورة يناير وما بعدها؟
** لا يمكن التحدث عن الفروق بهذه البساطة اللهم إلا فيما يتعلق بما يظهر على السطح هنا وهناك، لأن أى تغيير يحتاج إلى وقت لرصده ثم لاختباره وتحديد معالمه، ثم إن علينا أن نتذكر صعوبة المقارنة ونحذر التعميم طول الوقت نظر لعدم تجانس الفئات التى تتغير، وبالتالى اختلاف توجهات التغير، وهذا وذاك يعتمد على الاختلاف الشائع بين الثقافات الفرعية لفئات الشعب المصرى المتباينة بالطول والعرض “التاريخ والجغرافيا “
* ما الذى نحتاجه لإعادة حياتنا لطبيعتها وبناء وطننا من جديد؟
** نحن نحتاج إلي أبسط ما تحتاجه أمة من الأمم، بدءا بوجود دولة مهمتها تطبيق القانون، كل القانون، فورا وكاملا، نحتاج أن نملأ ساعات العمل بالعمل، كل في موقعه، وأن نؤجل المطالب الفردية والفئوية ولو ستة أشهر، وأن تتوقف المظاهرات حتي السلمية نهائيا، وأن يتحمل الإعلام مسئوليته فينتقل من الإثارة والتهييج “والتهريج أحيانا” إلي الإنارة والتوجيه وشحذ الوعي، ليس بالنصح والإرشاد، وإنما بتحديد قيم ورؤى ومناهج يمكن للمواطن أن يغير بها سلوكه، وطريقة تفكيره، مقارنة بما كان عليه مما أدي به إلي أن يحتقروه ويهمشوه، دعك من شعارات ضرورة تحقيق الثورة أهدافها، أهداف الثورة تتجدد باستمرار وما يتحقق منها يولد غيره وهكذا.
* كيف تفسر انتقاد كثير من الناس لتدخل التيارات الإسلامية وإقحام الدين في السياسة وعلي الرغم من ذلك فقد حصل الإسلاميون على غالبية أصوات الناخبين سواء فى مجلس الشعب أو فى انتخابات الرئاسة ؟
** الشعب المصري شعب متدين بطبعه، وبمجرد التلويح له بكلمة الإسلام أو ربنا أو حتي الجنة، فإنه يميل بعواطفه بغض النظر عن مجال إطلاقها في السياسة أو التجارة أو الحب أو الدين يميل إلي من ينجح في التلويح بها، وقد بدأت خبرة الناس الجديدة بتصديق احتمال أخذ رأيهم مأخذ الجد في الاستفتاء علي تعديلات الدستور، وإن كان الجو العام قد ركز علي إشاعة حول المادة الثانية التي لا يعرف أغلب من ذهبوا للاستفتاء معظم نصها حرفيا، فجاءت موافقة الأغلبية علي التعديلات لهذه المادة كما أشيع عنها وليس للتعديلات التي لا يكاد يعرفها أحد.
فلما جاءت انتخابات مجلس الشعب استمر التدافع في نفس الاتجاه بالقصور الذاتي، وحين تبين للناس أن المسألة ليست كذلك من خلال الأداء السييء الذي قام به من تصوروا أنهم سوف يمثلون إسلام هذا الشعب وتدينه تراجع الشعب عن اندفاعه نحو الخدعة وتراجعت الأصوات.
* هل ترى أن سيطرة الأخوان على السلطة أمر صحى للحكم, أم أن هذا سيطيح بالكثير من فرص المشاركة المجتمعية؟
** إن علي من يأخذ بمقاليد السلطة أن يتحمل حمل كل الحقائب، لنحاسبه علي كل التصرفات في كل المجالات، فإذا نجح فهذا خير لنا وله، وإذا فشل تحمل وحده وبالاستحواذ نتيجة فشل الاستحواذ، نخلعه ليستحوذ غيره علي السلطة لنختبره وهكذا، لا ينبغي الكلام عن الائتلاف إلا إذا احتاج الأمر جمع فريقين متقاربين للحصول علي أغلبية مريحة وفاعلة، إن هذه التقسيمة بتوزيع الحقائب والمسئوليات بين الفرقاء، تعفي الرئيس المسئول من تحمل كل الأمانة إذ يمكن أن يحيل فشل كل قطاع إلي من أخذ قطعة التورتة الفلانية، وكأنه يؤجر الوزارات مفروشة!! يتصرف فيها ساكنها حسب طلباته.
* كيف ترى مستقبل التيارات الإسلامية فى مصر؟
** لابد أن نفرق بين الإسلام الشعبي، والإسلام الرسمي، والإسلام الإيماني، والإسلام الحضاري، والإسلام الإبداعي، ونمو كل هذه التيارات وتفاعلاتها مع بعضها البعض وارد ولن يبقي منها في المدي الطويل إلا ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
ومستقبل الحركة الإسلامية هو مثل مستقبل أي حركة سياسية جماهيرية أو حتي أيديولوجية حزبية، فالأمر يعتمد علي تطورها وعلي مدي مرونتها وحركية وإبداع من يقوم بتنفيذها علي أرض الواقع، وعلي مدي مسئوليتها عن نفع الناس وحفظ كرامتهم وأمنهم، وإتاحة الفرص المتكافئة، وسوف يختبر الناس من يزعمون أنهم يمثلون الإسلام، وقد يفوتون لهم بعض الوقت، لكنهم إذا أضروهم أو عوقوا مسيرة تقدمهم أو أبعدوهم عن دينهم الحقيقي فسوف يلفظونهم إن عاجلا أو آجلا بالصناديق أو بثورة أخري.
* استطاع الثوار أن يضربوا نموذجاً للتفرد والتميز والتوحد خلال الـ 18 يوم الأولى للثورة, إلا أننا فوجئنا بعدها بحالة من الفوضى والتشرذم والتشتت, فبماذا تفسر ذلك؟
** لا أقبل تقسيم أهل بلدي إلي ثوار وفلول، ولا إلي علمانيين وسلفيين، هذه كلها صفات مؤقتة قفزت إلي السطح، وكان ينبغي أن ننتبه إلي عدم التمادي في تقسيم الناس هكذا، أنا أفخر بأن هذا الشباب الذي لم يذق طعم الحرية الحقيقية في حياته، فالشباب الذي أهين وأهمل وهمش منذ ولادته، هو نفسه الذى استطاع بتلقائية ومثابرة أن يتقن الأدوات الحديثة للتواصل، وأن يطلق صرخته بمجرد أن أتيحت له الفرصة، حتي لو كانت بفعل فاعل، فقد انتبه أغلبهم إلي أنه آن الأوان أن يعملوا ما يرد لهم إنسانيتهم وحقوقهم وحقوقنا، وأن عليهم أن يمسكوا بعجلة القيادة، لكنهم حين لم ينتبهوا إلي الطابور الخامس، والمؤامرات المحلية والعالمية، وهم مبتدئون في مدرسة السياسة الملغزة، اختلط الحابل بالنابل وتراجع ما نفخر به من نبل وطهارة وفروسية ليحل محلهما هو ضده من انعدام المسئولية ومواصلة التخريب الذي قد يصل إلي حد الخيانة.
* كيف ترى المستقبل فى مصر؟
رغم كل شيء أنا متفائل, نحن نريد العدل اجتماعيا ودينيا وابداعاً وحركة، وسوف نحققه وعلينا أن ندفع ثمنه، العدل هو الذي يحقق أهداف الثورة وكرامة البشر عن طريق دولة متحضرة مؤمنة مبدعة، ونحن أهل لذلك.
*مع كل هذه الإحباطات وما تلاها من عنف عانى منه المصريون, هل أصابتنا أمراض نفسية وصرنا بحاجة للعلاج النفسى ؟
** أنا أرفض هذا التعبير وأحذر منه طول الوقت فالشعب ليس مريضا والطب النفسى ليس علاجه, الشعب متألم مظلوم، والحل فى العدل والإنتاج.