13-06-2012
تعتعة الوفد
ديمقراطية “مصرية” معدّلة: الإعادة بين أربعة !!
كتبت كثيرا عن الفرق بين “الرأى العام” و”الوعى العام”، وحاولت أن أنبه أن ديمقراطية الصناديق تقيس الرأى الظاهر لصاحبه (على أحسن الفروض) ولكنها لا تسبر غور الوعى البشرى الأهم فى حفظ النوع واستمرار الحياة، فسألنى كثير من الأصدقاء عن معنى الوعى الذى أقصده، وما هو الفرق بينه وبين “الرأى” و”الفكر” و”العقل”، ولم أنجح فى الإجابة، لكننى ظلت محتفظا بالأمل أن أنجح يوما ما.
منذ عام تقريبا كتبت هنا بتاريخ 1-6-2011 تعتعة بعنوان: “أنواع العقول والديمقراطية المضروبة!”، قلت فيه: والآن: هل يعرف هذا السر – أن للبشر مستويات وعى كثيرة – أولئك الذين يملكون أدوات اللعب بعقولنا كلها ؟ وهل هم يرسمون سياساتهم نحونا من خلال ذلك؟ وهل كل هذا له علاقة بالحوار الوطنى الجارى، وبالانتخابات، وبمآل ما يجرى حاليا: إما إلى ثورة وطنية، قومية علينا أن نتحمل مسئوليتها لتكون ثورة بالإبداع والبناء كما وعدتْ بدايتها، وإما إلى فوضى وخراب يضطرنا إلى تبعية مـُـذِلـَّة ممتدة أو جديدة؟”
وخلصتُ فى نهاية المقال إلى قولى:
اننا إذْ نضطر إلى تعاطى جرعة ضرورية من هذه الديمقراطية المعروضة، فذلك لا ينبغى أن يكون الفصل الختامى فى مسئوليتنا عن حمل أمانة الوعى والحرية، وعلينا أن نتجرع مرارتها وأن نتحمل مضاعفات غشها وتلوّثها بوعى كافٍ لعل ذلك يحفزنا إلى البحث طول الوقت، مع الشرفاء عبر العالم، عن ما يحقق تكريم الإنسان…” “…المشكلة ليست فى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالتصدق ببضعة عشرات من المليارات لنشترى بها “سندوتشات” ديمقراطية، وإنما هى فى البحث عن إبداع جديد ينقذ البشرعبر العالم من غباء هذه الطغمة الباغية المهددة لوجودنا معا”
ثم استمرت المسيرة يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، ونحن نذكر بأمانة أن كل ما نحن فيه قد بدأ بفضل الشباب، الذى أدى إلى تغير الأحوال، ومشروع لثورة، وأمل فى تشكيل دولة حديثة، وحلم بالإسهام فى ولادة حضارة لا ئقة بإنجازات البشر المعاصرة، المصريين وغير المصريين، وحمـّلنا الجميع دون استثناء، مسئولية، كل ما ظهر من مضاعفات وتشويه وانتهازية وعبثية وتخريب، نعم الجميع: بطول المحروسة وعرضها، بطول الدنيا وعرضها.
ثم إننى وجدت نفسى أعيش تجربة لم تكن لتخطر على بالى أصلا أننى سوف أخوضها يوما، نعم مارستُ الديمقراطية شخصيا منذ حوالى ستة أشهر على الوجه التالى:
بدأتُ الممارسة، مثل كثيرين أعرفهم، وأنا أريد أن أصدق، وإذا بى أفرح بما لم أحسب أنه يفرحنى، نعم فرحت بحق، أهذه هى الديمقراطية؟ لا مانع، رحمك الله يا شيخنا محفوظ، يبدوا أنها – كما قلت- أحسن الأسوإ فعلا، فرحـتُ كما لم أفرح بها فى حياتى حتى أيام الوفد القديم، ثم ..
ولكن دعونا نبدأ من البداية:
نبدأ بطابور الاستفتاء: ذهبت ووقفت فى الطابور ولم أكن أعلم أنهم يكرمون كبار السن أمثالى، حتى نادانى رجل الشرطة الفاضل وهدانى إلى حقى فى الاستثناء فشكرتـْه ركبتاى قبلى، واستفتيتُ، ولم أرض بنتيجة الاستفتاء، لكننى لم أتراجع عن فرحتى بالديمقراطية، لتأكدى أنها عبـّرت عن ناسى بدءا بالذين كانوا وقوفا حوالىّ فى الطابور، وقيل ما قيل فى سوء استعمال الدين والتركيز على بنود لم يتطرق إليها الاستفتاء، لتمرير بنود لم يعرف عنها الناخبون شيئا أصلا، ولم يهمنى أىٌّ من ذلك، وقلت: هذه هى “واللى عايز الجميلة يدفع مهرها” وبدأت الأمثلة العامية تلوح لى من بعيد تذكرنى أنها التعبير الأقوى للوعى المصرى لو أحسنا الإنصات والانتقاء.
ثم جاءت انتخابات مجلس الشعب، وفرحت أكثر، فلا توجد بنود مختبئة وراء بنود، ولا توجد شبهات تزوير إلا اقل القليل، الأسماء واضحة، والمعالم محددة، والمخالفات مقدور عليها ولا تغيـِّر النتيجة، وفرحتُ برقمى القومى مرة أخرى، ورحت أتغزل فيه شاكرا فخورا، وظهرت النتيجة تعبر عن حقيقة رأى الناس، بغض النظر إن كانوا قد خـُدعوا فى الشعارات أم قبلوا الرشاوى العينية أو المعنوية، فهؤلاء هم ناسنا الذين انتخبوا فعلا، وهم الذين سوف يتحملون مسئولية ما فعلوا فعلا وواقعا: إن انتبهوا من واقع النتائج فالأداء، فليعيدوا النظر، وإن رضوا فليدفعوا الثمن، وهتفت صامتا وأنا أكتشف كل يوم ميزة جديدة فى هذا الصنم الذى كنت على وشك تحطيمه – الديمقراطية، وحاولت أن أستبعد ولو مرحليا ما أعرفه عن غول الديمقراطية المسيـَّرة بالمال والإعلام والمؤامرات عبر العالم، وقلت ليكن، وحضرنى مثل آخر طالما رددته وهو الذى يقول “تجمز بالجميز حتى يأتيك التين“، وهو ما سبق أن نسجت على منواله مثلا يقول: “دَمَقْرَطْ بالديمقراطية حتى تأتيك الحرية“.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية، ولم أتردد فى الذهاب، وكان الاختيار أصعب، فمن ناحية أنا لا أريد أن اضيع صوتى باختيار من أعرف أنه ليست له فرصة حقيقية حتى لو كان صوتى بألف صوت، ومن ناحية أخرى كان أسهل علىّ أن أقرر من ذا الذى يستحق أن أحجب عنه صوتى بغض النظر عن من سأعطيه هذا الصوت – وكأنه هو الذى سيرجح الكفة، وفرحت بحيرتى لأننى ترجمتها إلى أننى عندى أمل فى كل الباقين بشكل أو بآخر، وإن كان بدرجات مختلفة، وظهرت النتائج كما نعلم، وكانت مفاجأة على كل المستويات كما قرأها كل المعلقين، بل وكل الناس، من أول انحسار الأصوات خلال أسابيع عن تيار الإسلام السياسى التقليدى، إلى تقارب عدد أصوات الفائزين الأربعة الأوائل، برغم أن الإعادة هى بين اثنين فقط، مرورا بظهور زعيم بسيط جديد هو حمدين صباحى، لم أر فيه إلا أنه: هو هو حميدو ومحمدين، وأيضا هو حمادة وهو أبو حميد وهو حمودة ، ثم حمدين كما قدم نفسه “واحد منا”. وقلت خيرا، لقد أفرزت الديمقراطية وعيا جماعيا جديدا التف حول زعيم لم يسع للزعامة كهدف أول : خير وبركة. ولكن يا خبر !! ماذا فعلت بنفسك وبنا بعد ذلك يا رجل ، وأنت تشجب حكم محكمة محترمة، فتشرخ القضاء، وتؤازر الفوضى، وكأنكِ يا ديمقراطية تـُستعملين بشروط مُسبقة، ماذا وإلا …، هذا !!!
ثم زادت حيرتى ونحن نقترب من إعادة انتخابات الرئاسة حين وجدت أن علىّ أن أختار بين خيارين أحلاهما مر، وهو هو ما وصلنى من كل من حولى وهم يستشعرون أنهم فعلا بين نارين، فحلّ بى وعى ناسى الناقد المتحفز متجليا فى أمثال عامية وبعض الشعر العربى يبلغنى أن المأزق قديم عريق، فرحت أحسن الإنصات ، فاستهل الحضور “شعر الأعشى فى السَّموْأل يقول:
“…….فاخترْ، وما فيهمَا حظٌّ لمُختارِ”
ثم بيت شعر شائع لا أعرف قائله جاء يقرص أذنى وهو يردد:
“المستجير بعَمْرٍو حين كُرْبَتِه كالمستجير من الرمضاء بالنار”
(طبعا ليس عمرو موسىُ أكثر الله خيره!!)
وحين حل بى ما حضرنى من أمثالنا العامية المصرية انتفضت دهشا وهى تلاحقنى الواحد تلو الآخر، تحاول أن تخفف عنى أكثر مما تسهم فى توجيه اختيارى، وهى تغمز أنه : “إلى جولة تالية”، على شرط ألا تمتنع هذه الجولة عن التصويت وإلا فأنت لا تستحقها (الديمقراطية).
وفيما يلى ما تيسر مما كان، علما بأننى لن اشرح أيا من الأمثال التى حضرتنى مقتحِمة، فهى تقول وحدها أحسن ألف مرة من وصايتى عليها، وكل واحد منها يحتاج شرحه إلى مقال بأكمله، شطارتك –عزيزى القارئ- أن تحسن نطقها بصوت مرتفع، علما بأننى لن احدد على من يمكن أن ينطبق هذا المثل أو ذاك، ولك الحق أن تقرأه كما تشاء، وأن تطبـِّقه على من يستحقه، والعهدة على التاريخ ووعى ناسى الذى أفرزها، (وطبعا قمت بإبدال كلمة هنا، ووضع فصلة هناك):
المثل الأول: من طوبة لدحدورة يا قلب ما تحزن
(الكلمة الثانية بعد “مِن” كانت فى ذاكرتى كلمة أخرى، أقبح، لكننى حمدت الله أن وجدت لها بديلا جاهزا)
المثل الثانى: ما العن من سيدى إلا ستـّى
المثل الثالث: خلينا ورا “النــُّـوّاب” لحد باب “النار”
( واضح الإبدال لما بين التنصيص مما لا يحتاج إلى تحديد تنويه)
المثل الرابع: إيش رماك ع المر قال الأمر منه
المثل الخامس: “خدتـَكْ عـُوازْ خدتك لـُوازْ، خدتك أكيد العوازل كدت أنا روحى!!”
(العُواز من “العوَزَانْ” واللـُّواذ : الملاذ غالبا”، ربما نحن نكيد أنفسنا لنحسن الاختيار مستقبلا)
المثل السادس: “جرْيِت من الغـُـزّ هاربـَهْ، قابلوها المغاربـَهْ”
(الغـُزّ- بضم الغين- هما عسكر الأتراك فى مصر فى العصر العثمانلى، والمغاربهْ: كانوا مرتزقه مغاربه يسترزقون فى مصر لغاية عصر عزيز مصر محمد على الكبير.)
وبعد
فجأة، حلّ بى أكثر فأكثر وعى ناسى التاريخى الناقد الساخر الجميل وقدّم لى اقتراحا طلب منى أن أرفعه للمجلس العسكرى، هذا نصّه:
“أن تتم الإعادة بين الأربعة الأوائل بمرسوم عسكرى دستورى حسب القواعد الجديدة الصادرة من مجلس أمناء وعى الناس” .
وبهذا نبدأ طريق الإبداع بحثا عن ديمقراطية عالمية موضوعية جديدة
“وماحدّش أحسن من حدّ”