نشرت فى مجلة العربى الكويتى
عدد سبتمبر-2002
دور المثقف مسئولية لا موسوعيته
تطرح هذه المداخلة مفهوم الثقافة ودور المثقف من خلال
موقف المسئولية عن التفاعل من الجماعة الإنسانية والارتقاء بها ومعها.
إن قصر مفهوم الثقافة على فئة بذاتها، أو تحديد تجلياتها بإنجازات معينة من العلم والفن والإبداع، يقوم بها “صفوة” محددة المعالم، هو نوع من الاختزال الذى ينبغى مراجعته. إن هذه الفئة التى اختصت بلفظ “المثقفين” – مع احترامنا لكل إنجازاتها الفائقة – لا تمثل بالضرورة جماعتـها (ناسها) فى وقت بذاته بالمعنى الذى يفيده مضمون ما هو “ثقافة”.
إن الثقافة هى هذا النسيج المتضمن لجماع مستويات الوجود الفردى فالجمعى “معا” “حالا”، وهى فى نفس الوقت المنظومة التى يتمحور حولها تاريخ الجماعة مسجلا فى نوايا خلايا أفرادها، ثم متجليا فى مظاهر سلوكهم.
أنبّه ابتداء إلى خصوصية استعمال كلمتى “الوعي” و”اللاوعي” هنا حتى لا يذهب إلى ذهن القارئ أنهما كلمتان مترادفتان لما هو “الشعور” و”اللاشعور” (من أبجدية التحليل النفسي-الفرويدى خاصة). كنت أتمنى استعمال تعبير “الوعى الكلـى الغائر”، بدلا من “اللاوعي”. هذا النسيج الغائر ليس مرادفا أيضا للاشعور الجمعى Collective Unconscious الذى قال به كارل يونج. إنما هو الوعى الكامن الدال على الحضور الجاهز لمنظومة بيولوجية كيانية ليست فى متناول الإدراك الظاهرى الحاضر. إن هذا الكمون لا يعنى أن هذا النسيج الكلى هو مجرد”مشروع فعل”.
إنه حضور فاعل طول الوقت من خلال مظاهر تتحرك كتجليات منه. إنه “الوعى الكلى الذى يصدر عنه وتعود إليه تفاصيل تجليات السلوك الفردى والجماعى، الذى يتكون من مستويات يشمل الأحدث منها الأقدم ولا ينفيه”.
لعل هذا التعريف هو الأقرب إلى ما يعنيه إليوت (1) من “أن الثقافة تنـتمى إلى “لا وعى الجماعة” أولا قبل أن تظهرفى أشكال سلوكها المحددة”:
إن ما أثير مؤخرا – بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 خاصة – قد أدى إلى فتح ملف صراع الحضارات وحوارها وصدامها على مصراعيه، وبشكل لحوح.
إن كل حضارة هى ثقافة فى نفس الوقت، ولكن ليس كل ثقافة حضارة، إن هذا التحدى الذى ألقى علينا مؤخرا، وهو ما كان شائعا من قبل سبتمبر ذاك، يدعونا لمراجعة موقفنا بين ما هو ثقافة آنيــة، وما هو حضارة محتملة ، مرورا بضرورة تحديد استعمال لفظ “المثقف” هذا الاستعمال الذى يقصره عادة على فئة محودة من الذهنيين .Intellectuals
توسيع الدائرة:
إذا كانت الثقافة بهذه العمومية، فمن هو المثقف؟
المثقف هو من يستوعب ثقافة ناسه بدرجة من الوعى الفائق المسئول، الذى يمكنه من أن يساهم فى تعميق الإيجابيات وتحريك جماعته لصياغة البنى الأعلى فالأعلى، التى إذا ما وصلت إلى درجة من الرقى والإنجاز والقيم الإنسانية القادرة على العطاء والانتشار: سميت حضارة.
إن أى ثقافة تفرز مثقفيها ليقودوها إلى ما تــعد به. من هنا ينبغى ألا ننخذع بالانقياد إلى بعض عقولنا باعتبار أنها هى التى تمثل ثقافتنا دون غيرها. إن بعض هذه العقول مهما تميزت وأنجزت، قد لا تكون الممثل الحقيقى لثقافتنا الآنية، أو المستقبلية. بل إنها أحيانا ما تكون “مضادة” لثقافتنا من خلال إعاقة تلقائية وعى الناس الأعمق، يتم ذلك بالمبالغة فى تقليد أنماط حياة لم تنبع أصلا من ثقافتنا. أو من خلال فرض نموذج نظرى لما يتصوره هذا المتميز أنه الأصلح، والأرقى.
إن ما نزعم من اختلاف أو تميز عن الآخرين (فى الغرب خاصة)، ومانسعى إليه من حوار أو تفاهم أو تعاون معهم، لا يمكن أن يتم، أو حتى يبدأ، إلا بتحديد معالم ما هو نحن، أى معالم ثقافتنا الغالبة فعلا مهما بدت متخلفة، أو عشوائية، أو كلية، أو عاجزة، أو متدينة تدينا تقليديا. إن هذا التحديد هو مهمة المثقف من حيث أنه القادر على الغوص إلى وعى جماعته الغائر لاستيعاب ثقافتهم (ثقافته)، ومن ثـم يستطيع هذا الواعى (المثقف) أن يتصدى لحمل مسئولية هذا الوعى الغائر(اللاوعي) لجماعته بما له وما عليه، ثم لا تكتمل له صفة “المثقف” إلا إذا انطلق من خلال مسئوليته هذه إلى القيام بدوره الحقيقى فى المراجعة والنقد، والتحريك، والإطلاق، لإعادة التنظيم.
إنه لا يكفى حتى يكون أى واحد مثقفا أن يعرف شيئا عن كل شيء، بل إنه لم يعد يصح أيضا أن نعتبر من يستوعب جماع وعى ناسه دون مسئـولية أو تحريك أو إضافة هو المثقف الذى يمثلهم. إن هذه المراجعة الحالية هى بمثابة دعوة لكل الناس، وبالذات للصفوة الفخورة بمعلوماتها ومعارفها، المتميزة بإنجازاتها وإضافاتها، لإعادة النظر فى موقفها.
على هذه الصفوة أن تنتبه فتنزل عن الكرسى الأعلى متوجهة نحو بؤرة وعى الناس دون الاقتصار على دورها المحدود وهى تتصور أن بـإمكانها أن تدير دفة الثقافة من فوق المكاتب، أو عبر ندوات المناقشات، أو تنافس الجوائز، أو اجتماعات المؤتمرات، أو حتى من خلال نشاطات النشر والإعلام. إن إعادة النظر فى تعريف من هو المثقف يفتح الباب على مصراعيه لكل الناس – دون استثناء – أن يصنفوا إلى “مثقف” أو “مشروع مثقف” “أو”ضد ثقافي”. الأول يستوعب الوعى العام ويوجهه إلى أعلى، والثانى (الوحدة الثقافية) هو وحدة الوعى البشرى السائد، أما الثالث فهو المعيق لحركية هذا الوعى العام. إن ذلك يتبع أن تظل على رأس القائمة فئات معينة تبدو مسئولة أكثر من غيرها عن حركية ثقافة ناسها سلبا وإيجابا. يسرى ذلك على المدرس، والأسطى الحرفى، والتشكيلى، وسائقى الميكروباص، وجماعات المنشدين فى مولد السيد البدوى. لكننى أكتفى هنا بالحديث عن مثالين محددين حسب ما يسمح به المقام هما: “السياسي”، و “رجل الدين”.
السياسى والداعية:
يمكن أن يعتبر السياسى مثقفا إذا وعى ثقافة ناسه فأسهم بدوره السياسى فى تعميقها فتطويرها، كما يمكن أن يكون مجرد “وحدة” مكررة من نسيج ثقافة ناسه إذا اقتصر دوره على القيام بمهامه بطريقة القصور الذاتى، أو تحصيل الحاصل، أو تخصص الأكاديمى، وأخيرا فهو يمكن أن يكون “ضد ثقافي” إذا فـرض على ناسه ما يعيق توجه ثقافتهم حتى لو توهم أنه الأحسن له ولهم.
لا يهم إن كان “السياسى المثقف” حاكما، أو ثوريا. معارضا، أو نبيا، فالشروط المذكورة يمكن أن تصنف كمثقف من الدرجة الأولى كلا من: زاباتا، وجيفارا بنفس الدرجة التى تصنف بها ونستون تشرشل وأى داعية روحى قاد قومه والناس نحو الأرقى.
أما السياسى الذى لا يُصعَّد إلى درجة مثقف (حتى لو كان وزيرا متميّزا فى وزارة مسئولة عن التربية أو الإعلام أو عن الثقافة نفسها) فهو السياسى التكنوقراطى، المتخصص فى نوع نشاط وزارته جدا فقط، دون وعى بحركية وعى ناسه وتوجهاتهم الكلية معا، وعلاقة ذلك بما يقوم به.
وأخيرا فإن أمثلة السياسى “ضد الثقافي” هى بلا حصر على الجانبين. نجد على أحد الجانبين ذلك الحاكم الشمولى الذى يفرض فرديته السلطوية لتأكيد ذاته ونفع بطانته أو طبقته الأقلية على حساب سائر الناس وضد مسيرة ثقافتهم. إن هذا هو ما يعانى منه العالم الثالث عامة.
على الجانب الآخر نجد سياسيا ثوريا شديد الحماس بالغ الإخلاص، لكنه يصنّف أيضا :”ضد ثقافي” إذا ما كان سابقا لعصره، أو متشنجا لتنظيره الخاص. نتذكر ذلك بدءا من وهم أفلاطون وأمثاله عن “الفيلسوف الحاكم” وصولا إلى لينين وماوتسى تونج، وبشكل أكثر تحديدا ستالين. إن كل هؤلاء الساسة بتاريخهم الثورى، وربما تمام إخلاصهم، وأيضا بضخامة أخطائهم وشطح تطبيقاتهم، ليسوا مثقفين لأنهم لم يمثلوا ثقافة ناسهم (جغرافيا وتاريخيا). إنهم لم يبدأوا من “لا وعي” جماعتهم، ولم يستلهموا آليات تطويرها منهم/ فيهم. النتيجة، كما علمنا التاريخ وكما كان يجب أن نستنتج، هى المضاعفات التى اشتهرت تحت مسميات مختلفة مثل: “الاختلاف بين وعود النظرية، ومضاعفات التطبيق” والتى انتهت إحداها إلى انهيار الاتحاد السوفيتى.
ثم لاح أمل جديد تحت اسم الديمقراطية حيث اعتبرت من أهم الوسائل التى يمكن عن سبيلها استلهام وعى الناس وثقافتهم كى يقودهم سياسى “مثقف” يمثلهم، لكن الديمقراطية الغربية انتهت إلى التوقف عند ظاهر عند الأصوات دون الغوص إلى اللاوعى الجمعى، الأمر الذى أصبح يتحرك تحت رحمة وتضليل وسائل أخرى أهما المال الاحتكارى، والإعلام المزيف. هذه الوسائل هى التى تسمح للسياسى، حتى فى ظل ما يسمّى النظام الديمقراطى،أن يكون “ضد مثقف”، رغم زعم الحرية ومواثيق الحقوق المختلفة.
المثال الثانى: هو موقف وتصنيف من يسمّى رجل الدين. مع أن الإسلام – مثلا – لا يقر هذه الصفة بالشكل المعروف فى هيراركية المنظومات الكهنوتية المحكمة فى أديان أخرى. إلا أننا نجد أن كل دين – حتى الإسلام- قد أفرز نوعا من السلطة الدينية التى تمارس دورها إيجابا أو سلبا حسب مقتضى الحال. هكذا نشأ دور الفقيه، و المفتى، وأدوار هيئة كبار العلماء .. الخ. إننا مع احترامنا هذه الفئة المجتهدة من العلماء الثقـات، لا يمكن أن نعتبرها دون سائر المتدينين بدين بذاته هم المثقفون بثقافة هذا الدين بالذات. إن وعى المنتمين إلى دين بذاته، يختلف اختلافا مميزا حسب الموقع الجغرافى والظروف البيئية الخاصة لكل مجموعة، رغم الانتماء للدين نفسه.
يميّز د.أحمد صبحى منصور(2)– مثلا – بين الإسلام النجدى، والإسلام المصرى، لا باعتبارهما نوعان من الدين، وإنما بالتركيز على التجلى الثقافى الذى صبغ بعض الممارسات الدينية فى كل من الشعبين المسلمين فى فترة معينة من الزمن فى بقعة جغرافية بذاتها.
يمكن أن ننتبه أيضا إلى كيف يتميز الدين العلمانى المعلن فى الولايات المتحدة، عن دين “الكنائس” التليفزيونية التى أصبحت تشكل “لا وعي” (ثقافة) أكثر من ثلث سكان أمريكا.
من هنا فإن رجل الدين المثقف هو الذى “يعى” ثقافة ناسه، وهو المنوط بتحريكهم نحو دينهم نفسه إلى أعلى ليحققوا به ومن خلاله أعلى ما يعد به هذا الدين من إيمان قابل للتجدد، تعميقا وتحقيقا للوجود البشرى المتنامى.
ترجع أهمية الانتباه لموضع الدين فى نسيج ثقافة الناس لما له من آثار عملية تطبيقية، خاصة إذا تذكرنا تنوع حضور ماهو دين فى “لا وعي” الناس حتى ولو كان دينهم المعلن واحدا. يحدث هذا التنوع بصفة عامة، وأيضا فى نفس البلد الواحد. إن ثقافة إسلام طالبان، غير ثقافة إسلام جماعة خاتمى (أنظر تجليات التدين فى إيران التى سمحت بأن يواصل الإخراج السينمائى الإيرانى تميزه العالمى حتى بعد الثورة الإسلامية). كذلك ثقافة الإسلام فى مصر- مثلا- يمكن تصنيفها إلى ثقافات فرعية متعددة: إن كلا من هذه الثقافات الفرعية تفرز مثقفيها المختلفين عن بعضهم بالضرورة.
نعود فنؤكد: إن رجل الدين “المثقف” هو الذى يعى نوعية النسيج الدينى التحتى لثقافة ناسه الذين يتصدى لتحريكهم، ومن ثم يصير مسئولا عن استيعاب ثقافتهم التحتية بقدر ما هو منوط بتطويرها. وبنفس المقياس الذى قسنا به السياسى يمكن أن نميز رجل الدين “الوحدة المكررة” الباهتة الذى لا يتميز وعيه عن أى آخر من ثقافة ناسه، كما نميز رجل الدين “ضد الثقافي” الذى يعوق جموده وتجمده دون استيعاب حركة التاريخ التى تعيد تشكيل الوعى البشرى لمجموعة من الناس تحت لواء نفس الدين الذى ينتمون إليه.
إن مثالا طيبا لرجل الدين الثقافى فى مصر (وربما فى العالم العربي) هو المرحوم الشيخ الشعراوى، وإلى درجة محدودة الشاب عمرو خالد مؤخرا. الأول راح يمثل أغلب وعى الإسلام اليومى انطلاقا من ثقافة الإسلام المصرى، مما مكنه أن ينطلق داعية مسئولا عن ثقافة ناسه، مضيفا إليها ما رأى أنه يصلح لها، وأنها تصلح به، بغض النظر عن مدى اتساع وإبداعية المفاهيم التى قدمها أو أضافها. ثم ظهر مؤخرا ذلك الشاب المجتهد -عمرو خالد- ليستوعب، ثقافة إسلامية فرعية شاعت بين الشباب المصرى الحائر، فتجلت فى وعيه بدرجة سمحت له أن يعلنها ويتعهدها لينشرها، لتتخلق هذه الظاهرة المسماة باسم “الدعاة الشبان”.
أما مثال المرحوم الدكتور عبد الحليم محمود فقد يكون مناسبا لشرح كيف يمكن أن يستوعب رجل الدين عددا متنوعا من الثقافات الفرعية التى جمعت فى هذه الحالة ما بين ثقافة الإسلام الرسمى الذى تجلى فى مشيخته للأزهر، وبين الإسلام التصوفى المعرفى الذى كان يمارسه ويدعو له، والذى تجلى فى كتاباته الكشفية وقيادته لطقوس مشيخة الطريقة التى يترأسها مع الأتباع والمريدين، مثلما تجلى موقفه الفقهى التقليدى فى مؤلفاته وإسهاماته الفقهية الرسمية.
على الجانب الآخر نجد أن أى رجل دين ينفصل عن ناسه الماثلين أمامه وحوله حالا، ثم يروح يفرض عليهم تفسير نص جامد كما فهمه هو، أوكما حفظوه إياه، هو رجل يمثل ما عنيناه بما هو “ضد ثقافة” ناسه، إنه يمارس دورا يعارض به ثقافة المجموع الذى يتصدى لهديه لأنه توقف عند ثقافة ذهبت دون أن يواكب لحظة التاريخ الراهنة التى يمكن أن تعينه على استلهام نفس نصوص دينه فى سياق ثقافة ناسه الآنيين دون تعارض. إن مثل رجل السلطة الدينية هذا يفرض على نفسه وعلى أهل دينه وصاية من مراجعه، وفتاواه المتجمدة المكررة، فتصبح النتيجة إجهاضا وتشويها لمسيرة تخليق الوعى الإيمانى المتجدد لناسه، والذى هو عمق التوجه التدينى الأعمق للإسهام فى تحريك البشر إلى أعلى.
أما رجل الدين الوحدة الثقافية (الذى لا هومثقف، ولا هو ضد مثقف) فهو رجل الدين “الموظف” المسالم الذى لا يختلف كثيرا عن الوحدات الثقافية الأخرى (سائر الناس) بلا تميز بأى درجة من الوعى الفائق، وأيضا دون إقحام قهر مضاد لثقافة ناسه، لكنه مشروع مثقف له حق الإسهام فى أى وقت- مثل غيره- متى أمتلك أدوات القيادة.
تطبيقات محتملة:
إن تشكيل الثقافة وتطويرها وإطلاق إمكاناتها وفك قيود حركتها إلى ما تعد به ليس مهمة وزارة بذاتها، أو مجلس أعلى، أو هيئة كبار العلماء، إنها مهمة كل التنظيمات السياسية والدينية والتربوية والإعلامية الرسمية والشعبية. إن هذا لا ينفى دور الصفوة المسماة “جماعة المثقفين” فى أى موقع رسمى أو شعبى. لكن على كل من يجد نفسه فى هذا الموقع (موقع المثقف)، أو من يتصور أنه كذلك، أن يقيس نشاطه، ويختبر وعيه ليحدد حقيقة انتمائه واتجاه توجه نشاطه. لا يمكن أن يهتم فرد واحد بكل هذه المجالات معا، لكن يمكن لأى شخص أن يتعرف على حقيقة دوره من خلال الفرض الذى طرحته هذه الأطروحة بشكل أو بآخر: هل هو مستوعب يـضيف، أم أنه معقلن يحكم من أعلى؟
إن مجال الثقافة هو كل مجالات الحياة تقريبا بدءا بالإعلام والتربية والتعليم، ليس انتهاء بالفنون والآداب، ولا مُغفلا حركية الوعى الشعبى وأساطيره، بل وخرافاته، وحدسه المجدّد للغة “الملهم للشعر وغيره” !!، ولا غافلا أيضا عن علاقة كل ذلك بالجنس والجسم والحلم والخيال. إننا بتوسيع مفهوم “المثقف” بهذه الصورة يمكن أن نأمل فى تحقيق عدة أمور من أهمها:
أولا: أن نفتح أبواب توسيع مجالات المعرفة للنهل من مصادرها المتعددة(3) ونحن نحاول أن نستوعب حقيقة” لاوعي” ناسنا بما هو، “هنا والآن”، وذلك حتى يكون وعى المثقف مـلـمـا بمجمل “لا وعي” ناسه، قادرا على احتوائه لإطلاقه إلى ما يعد به.
إن على من يتصدى لدور المثقف الرائد (!) أن يبدأ من حيث وعـى، “ولا وعـي” ناسه معا، لا من حيث ما يتصور، ولا من حيث ما يأمل، ولا من حيث ما يحسب أنه ما ينبغى أن نكونه حسب النموذج الذى فى ذهنه.
ثانيا: أن ينفتح الباب لكل إنسان أيا كان موقعه أن يقوم بدور المثقف الحقيقى لتطوير ثقافة ناسه إذا ترقى بوعيه إلى استيعاب “لا وعيهم” ليصبح مسئولا عن تحريكه إلى أعلى.
ثالثا: أن ننتبه إلى الإعاقة الممكنة التى قد تترتب على اعتبار الثقافة فرعا من فروع النشاط الإدارى، أو النشاط الوزارى، أو النشاط التخصصى أيا كان.
رابعا: أن ننتبه إلى الدور السلبى الذى يمكن أن يترتب على انفصال الصفوة المتميزة – ممن يسمون المثقفين- مهما حـسـنـت نواياهم، أو اتسعت موسوعيتهم، عن حقيقة عمق وعى ناسهم.
[1] – ت.س.إليوت: ملاحظات حول تعريف الثقافة. مكتبة الأسرة. ت. شوقى ضيف 2001
[2] – أحمد صبحى منصور : (الإنسان والتطور العدد 61 إبريل مايو يونيو 1998)
[3] – يحيى الرخاوي: فصل فى كتاب الثقافة العلمية وتكامل المعرفة المجلس الأعلى للثقافة 2001 [ص29-52]