الاهرام 14/6/2004
دع ما تبقى يزدهر الآن
“هل يمكن الحديث الآن عن حضارة غربية أو حضارة أمريكية أو حضارة إسلامية أو حضارة كونفوشيوسية إلا من منطلق تاريخى لا أكثر؟” هذا السؤال ورد فى مقالى السابق ليتولد منه أمل يزعم أن العالم يتوجه “… إلى وضع تقوم فيه كل ثقافة باستخراج أفضل ما تبقى فيها من تاريخها، لتصب فى الحضارة المتخلقة معا.. “ فكان كل من السؤال والأمل فى حاجة إلى إيضاح لاحق.
ابتداء، يبدو أنه لا مفر من الإقرار بضروره التفرقة بين المدنية والحضارة – بغض النظر عن ارتباطهما التاريخى واللغوى- الأمر الذى تناولته تفصيلا من قبل فى نفس هذا الباب (21/6/96).
إن ما حدث ويحدث عبر العالم حاليا يجعل حديث كل فريق عن حضارة خاصة منفصلة متميزة متفوقة آو واعدة، هو نوع من الاغتراب فى الماضى. الذى يتحدث عن حضارة الإسلام لا يذكر لنا إلا ابن رشد وابن النفيس وابن سينا وابن خلدون. …الخ، هذا تاريخ مشرّف، لكنه ليس حضارة راهنة. الأولى أن يكون حديثنا عن ابن محفوظ (نجيب) وابن الحكيم (توفيق) وابن مشرفة (مصطفى) وابن بيجوفيتش (على عزت) وابن أركون (محمد). ليس بصفة أنهم مسلمون بالولادة، وإنما بصفة أن ما تبقى فيهم – هنا والآن- من حضارة الإسلام هو قادر على أن يتفاعل وأن يضيف. حتى الحضارة الغربية هى فى طريقها أن تصبح فى ذمة التاريخ بحسب سرعة زمن التغير الجارى، لا مكان -إذن- لزعم “صراع بين هذه الحضارات الزائلة آو الآيلة للسقوط” فالتاريخ لا يتصارع مع بعضه بعضا إلا فى قصائد الفخر والهجاء.
الأولى بأصحاب كل حضارة (مع أن الحضارات جميعا ليس لها صاحب إلا الإنسان) أن ينظر فى ثقافته القائمة حالا، لأنها هى التى تميزه الآن، وعليه أن يبحث فيما تبقى فيها من حضارته، فإن وجد فيها اختلافا موجَباً عن ثقافة جماعة أخرى (فى موقع جغرافى آخر، له تاريخ آخر) فليتعهده ليفيد جميع الناس. إن ما تبقى من حضارة الإسلام ليس ما نقله ابن رشد عن الحضارة الإغريقية ليسترده أصحابه الأوربيون عبره، إن ما تبقى هو سلوك ذلك الجندى الجزائرى المسلم الذى رفض أن يطلق الرصاص على جارودى فى الجزائر لأن دينه يمنعه أن ينفذ حكم قائده على جارودى بالاعدام. (قارن ذلك بما يحدث فى سجن أبو غريب). ربما كان سلوك هذا الجندى هو الذى دفع جارودى أن يبحث فى إسلام ابن عربى والسهروردى وغيرهما عن منهج آخر للمعرفة وطعم آخر للحياة، منهج تنطلق من خلاله إبداعات جديدة – هنا والآن – ترحم البشرية من الحياة الكمية الاستهلاكية المتنافسة على الاغتراب والسيطرة. يكتشف جارودى هذا وذاك فيسلم فى الوقت الذى تشجب فيه السلطات الإسلامية الرسمية التصوف كأنه شعوذة أو هرطقة.
ما لم يَظْهر ما تبقى من حضارة الإسلام فى سلوكنا الآن: حرية وإبداعا بلا حدود (من خلال التوحيد) ورصانةً (من خلال الإتقان) ووعيا (من خلال الإحسان) فليس من حقنا أن نتكلم عن حضارة الإسلام، لمجرد ما ثبت فى شهادات ميلادنا، أو أوهام تاريخنا.
وما لم يظهر الآن ما تبقى من الحضارة الغربية: إبداعا، وإنصافا، وعدلا يوقف القتل بلا محاكمة، وينقض حكم السجن 165 سنة على البرغوثى، ويطعم الجوعى، ويشل حركة شركات السلاح والدواء وأمثالهما، فلا مجال لمثل أمريكا للفخر أو التباهي.
إن الصراع الجارى هو بين عضلات المدنية وأطلال التاريخ، لا أكثر.