11-04-2012
تعتعة الوفد
دعوا الشعب يخطئ ويصحّـح، ولا تتمحكوا بالأوراق
يبدو أن الشعب المصرى، بكل عراقة تاريخه وأصالة وحدته، وعطاء نيله، وعميق إيمانه، لم يعد شعبا واحدا، بل أصبح شعوبا كثيرة، ومع ذلك فهو لا بد سيعود شعبا واحدا لو عرفنا الطريق إلى تكوين دولة، وتشكيل وعى جماعى، وتفعيل عقد اجتماعى، وكل ذلك يحتاج وقتا طويلا طويلا. المتابع الأمين يجد أننا لم ننتهز الفرصة الحقيقية التى صنعناها بأنفسنا، لنستثمرها فى الاتجاه الصحيح .
عبر التاريخ، الشعوب لم تتخلق من فراغ، ولا بحسن النية، ولا بسلطة فرد مهما بلغ جبروته، التاريخ يقول إن الشعوب تخلقت بآليات البقاء الصالحة لاستمرار هذا النوع من الأحياء المسمى “الإنسان”، تخلقت من مجموعات من الهوموسابيانس (الإنسان العاقل) المتواجدة على قطعة أرض من أراضى الله، (الجغرافيا)، ثم اكتشفت كل مجموعة من هذه المجموعات أن لها مصالح مشتركة، وثقافة ممتدة معا (التاريخ) وعلاقات فيما بينهم وبين من ينظمهم على هذه الأرض (العقد الاجتماعى)، فراحت تشكل نفسها للمحافظة على بقائها أفرادا فجماعات وبالعكس، فكانت الشعوب.
الناظر فيما يجرى الآن فينا وبنا يشعر أننا ندفع ثمن غياب أغلب مقومات تشكيل الشعوب، حكاما ومحكومين، وفى نفس الوقت لا بد وأنه يأمل أن نسارع بالإفاقة العاجلة بألا نتمادى فيما يحول دون أن نعود شعبا اسمه “الشعب المصرى الجديد”، نعم يمكننا أن نكون شعبا حين نستجيب للغرائز الجماعية التى تربط الحفاظ على بقاء الفرد بالحفاظ على بقاء النوع، فنكون شعبا تربطنا المصالح، وتحمينا القوة، ويدعمنا الاقتصاد، ويجددنا الإبداع.
تعالوا ننظر فى الجارى دون فزع، ودون أن ننسى أننا فى مرحلة التكوين أو التجديد:
الآن: على أرض مصر عدد الشعوب بلا حصر: عندنا شعب الإخوان، وشعب الثورة وشعب التحرير، وشعب العباسية، وشعب الحازميين، وشعب ماسبيرو، وشعب المكاتب الخاوية، وشعب الكنبة، وشعب النوبة، وشعب الكنيسة، وشعب الموالد…إلخ، أما لماذا أسميهم شعوبا وليس جماعات أو فرقا أو أحزابا، فلأن المسافة بين كل فريق وآخر كبيرة على كل المحاور، ولأن مرور الوقت لا يقلل من هذه المسافة بل يزيدها حتى أصبحت الغايات أبعد عن بعضها البعض، بما لا يطمئن.
الذى يجعل هذه المجموعات تنضم إلى بعضها البعض حتما، حتى يتعدل التوجه المنفرج إلى توجه ضام يصنع شعبا: هو “معايشة الخطر معا”، وأهم خطر يوقظ الناس مهما تشرذموا هو خطر الحرب، وهو الخطر الخارجى المعلن بالسلاح، المرسوم بالدماء، وبرغم كل المضاعفات وضد كل الكذب الشائع، فإن الحروب، خصوصا الممتدة، تصنع الأمم ، أو هى تعيد صياغتها من جديد. ليس معنى هذا أننى أدعو إلى حرب لبضع سنوات حتى “نكون شعبا بحق”، ولكن إن لم يكن هناك بديل آخر، فلتكن الحرب هى الحل!!، دعونا نتصور لو أن حرب 1967 امتدت عاما أو خمسة أعوام، وقد كان هذا هو مطلب الشرفاء العائدين سيرا على الأقدام انسحابا رغما عنهم، سمعت أسفهم لتلك الأوامر بأذنى وأنا فى استقبالهم فى قصر العينى بعد أن انقلب مستشفى عسكريا، سمعتهم وأقدامهم متورمة، ونفوسهم مكسورة، وكرامتهم مجروحة، أقول لو أن هذه الحرب نفسها، التى أطلقنا على نتيجتها للتعمية اسم “النكسة”، استمرت شهورا أو سنين عددا، إذن لكانت بداية جديدة لشعب مبدع معاصر، برغم كل الخسائر التى ربما لم تكن لتزيد عن ما حدث فعلا بالانسحاب الغبى حتى لو كانت النتيجة واحدة، فإن شعبا يكون قد ولد، لكن الذى حدث هو مواصلة سيناريو الغاء الناس لحساب العسكر، مع أن العسكر هم فى الوجود الإيجابى لأى شعب: واجهة الناس:
منذ 1952 اكتفى حكم العسكر بتكوين عسكر مخلصين منفصلين عن الناس دون استعداد لحرب حقيقية ممتدة، ثم انتبه بهزيمة 67 إلى بعض خطئه فراح يركز على تكوين جيش حقيقى ليس فقط من خلال حجز المجندين المؤهلين مددا أطول فأطول، وإنما بممارسة الحرب الفعلية فيما سمى حرب الاستنزاف التى لم يعطها التاريخ حقها سواء فى دورها فى تكوين منظومة جيش جديد، أم فى محوريتها فى إنجازات حرب أكتوبر، المهم نجحنا فى تكوين جيش، وقطفنا ثمار ذلك فى أكتوبر 73، لكننا لم نستغل لا حرب الاستنزاف ولا حرب أكتوبر فى التحول إلى تشكيل الشعب الجديد.
وظل حكم العسكر هو حكم العسكر مع اختلاف اللافتات، ولبس الحاكم العسكرى الرئيس المؤمن عمامة الدين (الفاتحة للعسكرى، قلع الطربوش وعمل ولى) وتوقفت الحروب بعد الزعم بإعلان آخرها (ضد كل الطبيعة البشرية وضد التاريخ)، ثم تغيرت الحرب إلى نوع جديد حين أعلنت الحرب داخليا، فقانون الطوارئ الممتد ليس إلا دليلا ضمنيا على أن الحاكم هو الرئيس العسكرى الأعلى قائد جيش العدو للقهر والتنكيل بالشعب، وإن راح يلبس هذه المرة هو وبطانته تلفيعة وعقالات المقاولين، وقبعات المستغلين.
ولقد كان تركيزى فى كل ما كتبت فى العامين المنصرمين على ضرورة الحفاظ على استمرارية “ثقافة الحرب” برغم، وبسبب وتحت مظلة معاهدة السلام حتى لو كانت هذه المعاهدة ليست إلا وثيقة استسلام، ويبدو أننى لم أنجح فى توضيح كيف أن “ثقافة الحرب” يمكن أن تسير جنبا إلى جنب مع معاهدة السلام دون ثقافة السلام.
ظلت هذه الحرب الداخلية تدور بين الحكام والطبقة من ناحية ضد الناس والشعب من الناحية الأخرى، وتوالت هزائم الناس حتى 25 يناير قبل الماضى حين هبَّ الشباب فالناس، ولو بفعل فاعل، فكسب الناس جولة فجولة، لكن العدو استعان فى الداخل والخارج بطابوره الخامس فالسادس فالعاشر، وبدأت جولات التجسس والتخريب والتعطيل والتفليس، وبرغم كل ذلك فقد ظهرت بوادر تخليق شعب مصرى جديد يتحمل أخطاءه وهو يحصد مكاسبه ويدفع الثمن، وظهرت علامات تدل على ذلك، وكان لزاما أن نعيد قراءة الواقع الجديد ونحن نلتقط ونترجم بعض ملامحه، فقرأت شخصيا بعضها كالتالى:
- قرأت الاستفتاء على تعديل مواد الدستور أنه كان لاختبار “هل ما زال هناك شعب اسمه الشعب المصرى؟ وهل هو ما زال قادرا على التوجه إلى الصناديق؟” وجاءت الإجابة أنه “نعم” يوجد هذا الشعب، وهو شعب متدين خائف، على دينه، وعلى بلده، وهو لا يثق فى الحكام حتى تاريخه!!”
- وصلتنى نتائج انتخابات مجلس الشعب، على أنها للإجابة على سؤال آخر يقول: هل أنتم مستعدون لتحمل نتائج ما تنادون به تحت مسمى الديمقراطية؟ جاءت الإجابة أيضا أن: نعم ، دعونا نجّرب
- قرأت الجارى من خلاف وتنازع حول لجنة الدستور على أن ثم دليل على أن هذا الشعب مازال حيا وأن للأغلبية وجه آخر، وميدان آخر، وضغط آخر!!
- أما احتفالية الترشيح للرئاسة، فبدت لى الفصل الختامى من الكتاب الأول، وعنوانه “احتمالات ولادة شعب فلا تجهضوه” مع ما بلغنى من أن الرئيس القادم مهما كانت نوعية رئاسته لم يعد يستطيع أن يعلن حربا أخرى ضد الناس لو تم التغلب على تسمم الحمل الحالى وأكمل شهوره وتمت الولادة بنجاح.
كل ذلك طيب مهما كانت المضاعفات، ولو استمر هذا الأخذ والرد، دون أن يتعطل الإنتاج، أو يختل الاقتصاد، أو ينهار الأمن، فهى حرب استنزاف جديدة ضد قوى الشر فى الداخل والخارج، والنصر للناس.
الذى أتعجب له برغم كل هذا، أن يُستبعد أحد هذه الشعوب الصغيرة وهى فى طريقها إلى تكوين الشعب المأمول، أن يستبعد من الساحة بحجة إمضاء أم زعيمه على ورقة، أو ظهور مستند استُخرج بالصدفة، أو تفسير نص إدارى فى لائحة احترازية؟ أنا مع تطبيق القانون حرفيا على الكبير والصغير، لكن هناك شىء اسمه فلسفة القانون، وشىء اسمه جدوى العقاب، وشىء اسمه المنطق السليم، هل إذا استبعدنا السيد حازم صلاح أبو اسماعيل باستعمال هذا السبب الورقى التافه، سوف نستبعد بذلك حضور شعبه الصغير الذى يمثله؟ ثم هل فى استبعاده بأية حجة ضمان ألا يحل محله، من هو أكثر انغلاقا وأخطر عنفا وربما جاء مستوردا من أفغانستان؟ كيف نتعامل هكذا مع فرد واحد ناسين شعبه ومعنى وجوده فى عملية الحمل المتعسرة؟ ألم يتعلم المرعوبون شيئا من تلقائية الناس وتجمعاتهم وحركية انتماءاتهم ودلالة رموزهم؟
نفس الأمر إذا استبعدنا “الشاطر” نتيجة لأنه تأخر ربع ساعة أو يوما ونصف عن تسجيل اسمه فى كشوف الناخبين، أو أن العفو الذى صدر عنه لم يشمل إزالة شروط العزل السياسى كلها التى تحرمه من الترشيح…الخ هل المشكلة فى الشاطر أم فى من رشح الشاطر، ثم أين اعتبار الناس وراءه، أعنى شعب الشاطر؟
يا سادتى الحكام المرتعدون كبّروا عقولكم إعملوا معروفا، وتماسكوا
دعوا الشعب يقول كلمته أيا كانت ما دمنا قد بدأنا الطريق، ولنتحمل مسئولية نتائج انتخابات الرئاسة كما نحن مضطرون أن نتحمل نتائج انتخابات مجلس الشعب، ونحن وشطارتنا، نصحح أنفسنا، أولا نستأهل إلا ما نحن فيه.
الأيام والممارسة هى التى ستجيب عن السؤال المحورى الذى يقول:
هل نحن نستأهل أن نكون شعبا واحدا مختلفين متكاتفين، أم سنظل قبائل متقاتلة وشراذم متفرقة يدير أمورنا حكام مرعوبون؟ ومكتبيون يرتعشون؟