نبذة: مقال يربط بين ثلاث كتب (1) الجديد فى الانتخابات الطبيعى، (2) “سلطان الأسطورة”، (3) الفلسفة متغرسة فى اللحم، أما ما يربط بينهم، فهو التنبيه إلى أنه كيف يواصل العالم تحديث المعرفة وتجديد المنهج باستمرار، اسم هذا بالاضافة إلى إشارة إلى يزرع واضطرار حضور “العلم المعرفى” مؤخرا.
الأهرام 4-11-2002
دعـوة للـتـأمـل
أقرأ هذه الأيام ثلاثة كتب معا، وهى عادة مزعجة رائعة، فبقدر ما تعرضنى للتشتت، هى تخفف عنى الاستغراق فى اتجاه واحد، فتساعدنى على الحفاظ على قدر من مرونة ضرورية وأنا أتلقى ما يصل وعيى من فكر مختلف المصادر، والمواقف، والمعلومات، والمنطلقات، والأحلام. الكتاب الأول: هو ‘الجديد فى الانتخاب الطبيعي’، تأليف ريتشارد دوكنز، وهو تحديث محب جميل لأحلام وأفكار داروين وولاس، مع استعمال ما تيسر من آفكار مستهلمة من تقنيات حديثة من دنيا الحاسوب، أما الكتاب الثانى فهو ‘سلطان الأسطورة’ وهو كتاب ‘يحرر الإيمان’، ويجدد الوعى بالنفس والكون باستحضار وظيفة الأسطورة وضرورتها للإنسان المعاصر، وهو تحرير ذكى لأحاديث تليفزيونية مع جوزيف كامبل مرجعى الأساطير، الكتابان مترجمان (د. مصطفى فهمي، أ.بدر الديب على التوالي) وصلانى عبر ‘مكتبة الأسرة’ و’المشروع القومى للترجمة’، فرحت أقر وأعترف أن كلا المشروعين – على مستوى الثقافة – سوف يذكرهما تاريخنا الحديث شاكرا وربما مندهشا مقارنة بما كان يجرى حولهما، وجدتنى أستنشق من خلال ذلك هواء نقيا يتسحب واثقا وسط كل السحابات السوداء التى تحيط بالسلام، والاقتصاد، وسماء القاهرة، وعقول المستسلمين لمخلفات التراث أو أصنام الحداثة.
أما الكتاب الثالث فعنوانه مطولا ‘الفلسفة مغروسة فى اللحم الحي’ Philosophy in the Flesh (1999) وأنا أقرأه مصورا من لغته الأصلية (الإنجليزية) والكتاب له عنوان فرعى يقول ‘العقل فى البدن يتحدى طريقة التفكير الغربي’ فهو يحاول نقد معظم أفكار علم النفس التقليدى ونظريات الفلسفة الشائعة ليغوص بنا فى مستويات العلم المعرفى الأشمل.
الرابط بين الكتب الثلاثة هو درجة التحديث، وروعة إعادة النظر، وجسارة الاختراق. الكتب الثلاثة تخاطب الشخص العادي، وهى تبرز قدرته على احتواء الحياة واستيعابها والتطور بها، وهى تحاول إزالة سيطرة ما تعارفنا عليه من عقل ظاهر، نقدسه بعشوائية، ونحن ننسى تاريخ تطور الحياة (قبل أن يظهر هذا العقل).
كل ذلك راح يؤكد لى أن إخواننا البشر على الجانب الآخر (العالم المتقدم) ينقدون أنفسهم وهم يقدمون للشخص العادى – عبر العالم – علما آخر، وتفسيرات أخرى ومناهج مختلفة . إن العالم الآخر الرائع هذا ليس بوش ولا ديك تشينى ولا بيلير ولا بوتن ولا زيمن.
نحن البشر- عبر العالم – أحوج ما نكون إلى تدريبات الوعى المتأمل ليذكرنا أننا ما زلنا بشرا، لنا حواس تستقبل الطبيعة من داخلنا وخارجنا كما خلقها الله، وأن بين أيدينا ثروات لا تحتاج إلى استئذان يمكن أن ننهل منها بلا حدود.
منذ أيام دخلت عامى السبعين راضيا رغم كل ما يدعو للأحزان، زاد من رضاى أننى أعدت اكتشاف كنوز كنت أمتلكها طول الوقت دون أن أدرى أنها مصادر متجددة لثروة لا تنفد، غرفت منها ما تيسر طول عمرى دون استئذان، هي: ثروة المعرفة، وثروة إعادة صياغتها ونقدها، ثم ثروة حب الناس، اكتشفت أننى -مثل الطفل الذى يتعلم الكلام- لا أستأذن أحدا أن أعرف أكثر، ولا أنا أستأذن أحدا أن أكتب تعليقاتى أو أجمعها، ثم إنى لا أستأذن أسفل الناس وأظلمهم فى أن أحبه وأنا أكرهه، وأن أتمنى أن يرحم نفسه مما تورط فيه ليعود بشرا سويا.
حضرتنى – فى هذا السياق – صورة مناسبة، حين رحت ذات مرة أتأمل فقاعة حائرة فوق سطح قدح قهوة، قبل أن تتفجر ضجرة من لغة الصفقات التى كانت تدور حول المائدة، كتبت آنذاك:
فقاعة تكونت رضيعه..، لا،لم تلدها أمها، ولم تلد بدورها، ولم تـبح بسرها، كأنها تعويذة الطبيعه.
فقاعة حائرة وحيده، تلألأت فى غفلة من العيون الشرهه، تلونت أطرافها، تلألأت، تعكس طيف سرها القزح، تشبثت بجانب القدح، لا تحبس الهواء لكن تحتويه حانيه، كأنها الضياء، والرياح، والعبير. كأنها البداية المصير، والهمسة الشجيه، والبسمة الحييه، كأنها حلم الربيع بعد زخــة عفية، أو غمزة الرضيع بعد رضعة هنية، كأنها أمنية خفية، لطفلة ذكية، فى وقفة الأعياد.
تراقصت، فسكتت، وأنصتت لشهوة الحديث : [ترددت أنفاسهم، تكاثرت، تلاحقت رياحا، فخافت الوليده . وبعد ما استقرت الأمور، وهمت الأطراف أن يوقعوا، على شروط التسوية، تراجعوا، تذكروا: فالبند أربعه، يحتاج للمراجعه].
تمايلت فقاعة الهواء واستعدت، تأرجحت، ترنحت، تشهدت، تراخت، واستسلمت منتظره: فوهة الحيتان.
تعالت الأصوات فاطمأنت، لكنها عادت وفكرت، فآمنت، وأيقنت، بعمق قاع المستقر. تنهدت، وزفرت، تحدت القدر. تفجرت تلاشت، تناثر الضياء فى الضياء، واختلط الهواء بالهواء.
ياعمرها القصير. ماتت رضيعة بحكمة الإباء، من قبل أن تقتلها الشراهه. (انتهى النص).
فهل تقبل -عزيزى القاريء – دعوتى المجانية لفنجان قهوة تتأمله قبل أن تحتسيه، وسط كل ما يجري؟