نشرة الإنسان والتطور
بقلم : يحيى الرخاوى
2001-1980
نشرة يومية من مقالات وآراء ومواقف
تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور
23-6-2009
السنة الثانية
العدد: 662
يبدو أن هذا الشرح على المتن سوف يسير بالسرعة البطيئة، أملا فى أن يُستوعب، أو يثير ما نرجو من حوار محتمل، اكتشفت ذلك حين لم تتناول هذه النشرة، بالاضافة إلى نشرة الغد إلا جزءاً، يسيرا من المتن الذى وعدنا بمناقشته يوم الأربعاء الماضى.
أو: ربما هو الكسل..
* * *
نطّ غَـصـْبـِن عنـِّى، ورّانى إنّـى هوّه.،
بس جـــُوّهْ !
المتن:
قلت: إعْقَل يا ابْن نـَفـْسِي.
قلت: حاسِبْ ما الـْفـَضـَايحْ والجُرَسْ.
قلت إدّيها عمَى حيسِى، وزوّد فى الحَرَسْ.
نطّ غَـصـْبـِن عنـِّى، ورّانى إنّـى هوّه.
بس جـــُوّهْ ! ! !
شرح على المتن:
قلت: إعْقَل يا ابْن نـَفـْسِي.
مع اضطراد نمو الطبيب، يتجرأ فيسمح بما يسمى “إعادة الولادة”، ليصبح “ابن نفسه” بعد أن كان ابن أبيه وأمه، إذا فشلت “إعادة الولادة” فهى تجربة الجنون ذاتها، أمّا إذا نجحت فهى تجربة أزمات التطور وكذلك إرهاصات الخلق والابداع. أن يصبح الفرد والد نفسه، احتمال فيه من الروعة بقدر ما فيه من المسئولية، والخطاب هنا “بابـْن نفسى” يشير إلى أن من تعرض لمصاحبة المجنون فى رحلته المرعبة هذه، فهو لابد والدٌ لنفسه من جديد، وعليه أن يتحمل مشاق الرحلة فعلا .. وأن يقلبها إبداعا حقيقيا متى امتلك الأداة .. فهى فرصة .. وهى مصيبة فى نفس الوقت إذا لم تتم بأمان.
الاشتغال بالطب النفسى إشكالة شديدة التعقيد، إنها مهنة تستدرجك إلى عالمك الداخلى، بقدر ما تغوص فى عالم المريض (المجنون خاصة)، إنك لا تستطيع أن ترى المجنون منفصلا عنك إن صدقت فى محاولة قراءته ثم نقده لإعادة تشكيله، وتشكيلك معه كما أشرنا من قبل، هى ليست مهارة تُستعمل من الظاهر، إنك متى تغامر بتقمص المريض حتى تكتشف أنها ليست مجرد عملية لبس قميصه (تقمّصه)، بل إنه يحرك فيك الجزء المقابل لما تعرى فيه عشوائيا، برغم احتمال غائيةٍ لها دلالاتها فى بداية رحلة الجنون.
كيف يحدث ذلك ؟
“نطّ غَـصـْبـِن عنـِّى، ورّانى إنّـى هوّه.…، بس جـــُوّهْ ! ! !”
إذن هذه المسألة لا تحدث اختيارا محسوبا مسبقا، وإنما هى نتاج صدق المواكبة، وأمانة المعايشة.
أنت تعرف مريضك، إذْ تتعرف عليه من خلالك،
وهو أيضا يعرفك من خلاله،
كل ما فى الأمر أن ما يمكن أن نسميه جنونا لا يكون كذلك طالما أنه كامن فى داخلنا (بسّ جوه)، لكنه هو هو موجود فينا كلنا، التركيب الأساسى لى ولمريضى واحد، ولا تُكسر المسافة بينك وبين المريض بشكل موضوعى مفيد إلا من خلال الإقرار بذلك منذ البداية بكل ما يحمل من مفاجآت ومخاطر.
المريض ليس مختلفا عنا، وما يسمى جنونا هو ذلك التركيب الذى يبدو عشوائيا فى بعض مراحل حركيته، نحن نستنتجه عادة ولا نعرف جوهره تفصيلا إلا من خلال ناتجه الظاهر على السطح. كل ما هو تحت السطح نحن نضع له الفروض للتعرف عليه أو تفسيره، هذه الفروض قد تصح وقد لا تصح، وكل فرض أو نظرية قد يغطى جزءا من التعرف على الظاهرة لا أكثر.
عن الحلم والجنون:
المدخل الأصلح لتأكيد وجه الشبه بينى وبين مريضى هذا هو ظاهرة الحلم، (وليس محتواه أو تفسيره)، حركية الحلم من واقع نشاطه، ومن دوره فى ترتيب، (و”لا ترتيب”: فوضى) المعلومات فيه، هو الجنون دون هزيمة، بل فى الأحوال العادية، هو الجنون الناجح، بل هو الإبداع الخفى، نحن لا نعرف ما يجرى أثناء الحلم الحقيقى، (عشرون دقيقة كل تسعين دقيقة، بمجموع حوالى ساعتين كل ليلة)، كل ما كان يهمنا فى مسألة الحلم حتى وقت قريب هو “محتوى الحلم” الذى – حسب نظريتى: يتشكل الحلم المحكى فى الثوانى (أو أقل) ما بين النوم واليقظة قرب الاستيقاظ، هذا المحتوى هو الذى ظل يشد انتباهنا، وتدور حوله أبحاثنا، وتحاول تفسسيره تأويلاتنا، بعيدا عن ظاهرة الحلم ذاتها (أنظر: الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع) لأن تشكيلة وحركية ظاهرة الحلم هى هى تشكيلة وحركية ظاهرة الجنون مع اختلاف حالة الوعى، وطبيعة المآل.
بمجرد أن نستيقظ، يعود كل شىء كما كان إلا قليلا، ونروح نمضى ساعات يقظتنا وسلوكنا العادى ليس عليه شائبة، لأن جنوننا يكون أثناء يقظتنا كامن طيب، وهو ينتظر أن تأتى ساعات النوم ليتحرك فى نشاط الحلم بحساب وإيقاع راتب، مرة أخرى: لنستيقظ من جديد “كما كنت” إلا قليلا، وهكذا، وهكذا!.
فى مواجهة المجنون
حين نلتقى بشخص مجنون فى واقع الحياة، يتحرك جنوننا الكامن داخنا، فنخاف من هذا التحريك، ويختلف تفاعلنا باختلاف موقفنا وما هو نحن،
ومن ذلك:
- بعضنا يرعب من مجرد احتمال وجود وجه شبه معه، ولو فى المستقبل البعيد
- بعضنا يخاف ويسرع بالهرب الفعلى (بتجنب مواصلة رؤيته)
- بعضنا يزداد عمى وبعدا ويفترض – شعوريا أو لا شعوريا – استحالة إصابته بمثل ذلك
- بعضنا يتمنظر ويفتى ويصنّف وينصح
- بعضنا (الأطباء الجهابذة) يسارع بالعلاج السلطوى الذى قد يطفئ حركية جنون المريض، لا يستوعب طاقتها، وفى نفس الوقت هو يزيد من إحكام قهر حركية جنونه شخصيا.
- بعضنا يمارس الوشم، فالنفور
- بعضنا يمصمص شفاهه ويركب هودج الشفقة، ينظر إلى الموقف متعاطفا من أعلى
أين يقع الطبيب النفسى من كل هذا؟
إنه يتعرض لكل هذه الاحتمالات دون استثناء، فهو بشر، لكن أمامه فرص أيجابية ، وأخرى سلبية:
شركات الدواء، والعلم السطحى المسخر لمصالح هذه الشركات، والاغتراب المعقلن، كلها جاهزة لتخدم دفاعاته ضد أن يرى وجه الشبه أصلا، وهى مؤسسات تتضخم، لتكدس الأموال. وتهدد تطور الانسان، فيجد الطبيب نفسه –بدون وعى غالبا= أداة (علمية) طيّعه للقيام بدور لم يقصده غالبا (لم يخلقه الله لهذا)
حقيقة وتدرج موقف الطبيب بالممارسة
الطبيب الذى لا يغامر بالتعرف على مريضه من خلال جنونه الكامن شخصيا، وهذا هو ما يحدث غالبا، يحتاج مزيدا من الدفاعات خشية أن يرى هذا الاحتمال، أن يرى نفسه بروعة أعماقها وإرعاب تعريها.
لكن هناك احتمال أن يكون الطبيب قد قطع شوطا على طريق نموه الشخصى، فتنشط هذه الدفاعات بدرجة واعية نسبيا ، فلا تعود دفاعات تماما، بل تنقلب جزئيا أو كليا إلى “بصيرة واعية” تحل محل تلك الدفاعات العامِيَةْ، هذه البصيرة هى التى تساعد أن تزيح الدفاعات جانبا، لنرى ما يراه المريض، ليس فقط فيه، وإنما أيضا فينا.
هذا ما يصوره المتن حين يصف دفاعات التعمية (عمَى حيسِى) وعموم الدفاعات (الحرَسْ).
حين تتحول الدفاعات اللاشعورية إلى آليات وعى مخترقة مؤلمة، تحتد بصيرة الطبيب، وتتواصل الخطوات نحو الرؤية، بشكل مقتحم من الداخل، وحينئذ لا يملك الطبيب الأمين، (أو أى مغامر نحو المعرفة) لها صدا.
إذن فهذه البصيرة الفاعلة هى – غالبا – عملية مقصودة هادفة تتقرر من الداخل بوعى آخر، بعد أن فشلت الدفاعات الواعية جزئيا (حين لم تعد دفاعات صرف)، من أن تحقق الإظلام الانتقائى، لحمايتنا من فرط الرؤية هذا هو المقصود بـ
قلت إدّيها عمَى حيسِى، وزوّد فى الحَرَسْ.
فإذا تواصلت خطوات نمو الطبيب بجدية – من واقع الممارسة عادة-، وياحبذا تحت إشراف متعدد المستويات، فسوف تتراجع هذه الميكانزمات، كلما توفر قدر من البصيرة ياحبذا فى جو إشراف صحى مشارِك، فلا يعود العمى مطلوبا ولا مفيدا، بل هى البصيرة المؤلمة الداعمة فى آن، الأمر الذى يترتب عليه أن نرى أنفسنا مثلنا مثل المريض، مع الاختلاف الجوهرى فى طريقة تعاملنا مع هذا التركيب، ومن ثم مآله:
المعالج ينمو من خلال ذلك (المفروض يعنى)
والمريض يشفى، أو يتدهور، بحسب عوامل كثيرة،
لكن تظل الرؤية والمشاركة والألم والوعى الأشمل هى احتمالات قائمة عند المريض مثلما عند الطبيب فى المراحل المختلفة، ثم تتفرق الطرق ويختلف المآل، أو تتواكب المسيرة ويعاد التشكيل لكليهما.
كل هذه النقلات ليس لها توقيت معين أثناء رحلات نمو الطبيب، ففى أى لحظة، تغوص البصيرة إلى حقيقة الجارى، فإن صدقت الرؤية، فلا رجعة فيما رأيتَ، تماما مثلما ترى منظرا بعينيك مفتحتين ، فإذا لم تتحمله، أو أردت محوه من وعيك الحسى لسبب أو لآخر، بأن تغمض عينيك عنه، فإنك تظل تراه، تعرفه، تعترف بوجوده، مع أنك مغمض العينين.
مع تواصل أمانة المحاولة، تحفزك بصيرتك إلى مواصلة الدفع لمزيد من التعرف على الجارى (فيك وفيه)، وهنا تكفى لحظة تنوير تكاد تشبه لحظات الإلهام فى الإبداع، ويمكن أن تكون هذه اللحظة مشروطة –شعورياً أو لاشعورياً- بالتراجع عنها، لكن هذا الشرط، لو واصل الطبيب أمانته، وجهاده، لا يتحقق أبدا، فيواصل الطبيب، الكشف والتعرى، فالألم البناء والنمو.
قلت أَخطـَف نظره عالمَاشى واغَمَّضْ مِن جديد،
هيّه نظره - واللىّ خَلَقَكْ- لم تَنِيتْها
الرؤية التى تترتب على هذه المغامرة تشمل أكبر مما قصدتْ إليه من عمق التعرف على المريض وأحواله، وحين تحتد بصيرتك لايمكن توظيفها انتقائيا للمريض دونك بل إنها عادة، ما تمتد إلى مناطق وآفاق تتجاوزك أنت ومريضك على حد سواء: إنك سوف تجد نفسك مضطرا إلى ممارسة كلٍّ من:
تعرية الاغتراب،
وتحطيم الأصنام،
ومغامرة الكشف،
وحيرة المعرفة،
ومخاطرة إعادة التشكيل (الإبداع)، ..
(كل هذه مجرد أمثلة)
فماذا يقول المتن؟
بصيت لقيت الزفّه بتلف الضريح لم بطّلت، وتقول مـَدَدْ!!
بـَسّ الـَعـِـماَمةْ اتـْغـَيـَّرتْ:
والحاجات، هى الحاجات الـمِشْ حاجَاتْ.
تقديس القديم والتوقف عنده يصبح بشعا من خلال هذه الرؤية الجديدة، سواء كانت رؤية المجنون أم الفنان أم الثائر أم الطبيب الجاد المشارك، والقديم هنا لا يقتصر على تجمد السلف بقدر ما يصور الجمود الفكرى بصفة عامة.
كثير من المباديء الحديثة (حتى بعض مناهج العلم المؤسسى) قد أصبحت أديانا مغلقة، أو أصناما ثابتة، برغم تغيير الاسم والشكل: (بس العمامة اتغيرت)
الأصنام الجديدة والمناهج المغلقة لها نفس قدسية القديم المعطل،
المشكلة هنا ليست مشكلة السلف والخلف، ولا القديم والجديد، ولكنها مشكلة الجمود ضد الحركة،
علما بأننى مع احترام القديم، دون قبول وصايته، فهو الأب الشرعى للجديد، لكنه ليس بديلا عنه.
لا جديد ذا أصالة يولد سفاحا، ولكن الاحترام والاستيعاب والجدل شىء، والتقديس والجمود والتكرار شىء آخر.
وهكذا تتمادى هذه الخبرة المغامرة حتى تصل إلى احتمال إعادة النظر فى كل شىء على أنه “هو هو”، إلا أنه “أصبح ليس هو”
وغدًا نرى ما يترتب على ذلك:
بما ذلك الطبيب نفسه، والمريض، ما أمكن ذلك.
أما متن الغد. فغالبا سوف يكون.
الطبيب أصبح مهندسْ للعـُقـَولِ الـَبايْـظَهْ (يعنى .. !!)،
واللى برضه اتْصلـَّـحـِتْ.
(الطبيب دا هوّ انا، مش حد غيرى)
اللَّهْْْ عليهْ، والسِّتْ بـِتـْمسِّى عليهْ!
والشاشةْ، والواقعْ، خـُلاصـْةِ القـَوْلِِ، منظومِِ الـَكـَلامْْ:
آخـِرْ تمامْْ، فـِى حَـلْ مُعـضـِلـَةِ الأنَــــامْ
o ”لّما كنا نـَحـْنُ فى عصر الـَقـَلقْْ،
”نستعيذُُ بربّنا مما خلقْْ”،
يبقى لازْمَـنْ كلنا نقلق قوى،
واللى ما يقلقشى لازْمَنْ يِكتئب،
إمّالِ ايـِــهْ…؟ !! !
o ثم إنك – بعد ذلك – لمْ لا بدْ انك تسيب هذا “القلق”
علشان “تعيش”
o ثم إن “الحزن” برضه مالوش لزوم
“طنّش” تعوم ! !
ما هو كله فى المافيش
o ثم إوعى انّـك تنام من غير لحاف
o أحسن تخاف
حيث النصيحة “لا تخف” هى التى:
لك عندى يابنى “حتى أبرئ ذمتى”!!
o ثـُمَّ إنّّ اُلأُم لازِمْْ، إِنـّها تْـحـِبّ عـِيـَالـْهـَا
دا لزوم فك العقد إلـلى فى بالها.
فلقد ثبتْْ: إن الـعُـَقدْْ “وِحـْشـَةْ قوى”!!.
هـَذَا الذى قد أَظـْهـُرُه الـْبـَحـِثِ الـفُلاَنـِى،
”لمّا عد التانى ساب الأولانى”.
ثم أوصى: “أنْْ يكون الكــلْْ عالْ.
إذْ لابـُدْ انّ الـُكوَيـِّسْ:
هـُوَّا أحـْسـَنْ مـِالَّذِى مـُا هـُوشْ كُوَيـِّسْ.
إمـَّاِل ايـِهْ؟”
[هذا برنامج “عفاف هانم”،
بـتسأل حضرة الدكتور “فلان” ]