نشرة “الإنسان والتطور”
29-9-2009
السنة الثالثة
العدد: 760
نحب؟ أم “نلعب حبا”؟
مقدمة:
حين وصلت إلى هذه الحالة الرابعة، بعنوان “البـِرْكة”، تذكرت أننى استعملت هذه الصورة فى بداية ظهور هذه النشرة اليومية وأنا أتناول أبعاد إشكالة التواصل البشرى، قرأت ما سبق نشره، فوجدت به مادة تكاد تغطى كل ما كنت أنوى أن أقوله في هذه القصيدة وعنها فى هذا العمل الجديد، بل إننى اكتشفت فى مقدمة تلك النشرة بتاريخ 7-أكتوبر 2007، أننى أقررت أن اهتمامى الأساسى، مهما اختلفت العناوين هو حول هذه المنطقة الحساسة التى تميز الإنسان كائنا راقيا لا يستحق هذا الاسم “الإنسان” إلا حالة كونه “متواصلا مع إنسان” مثله.
كلمة “الحب” مثل كلمات الحرية والديمقراطية وحتى كلمة “الله”، (وليس حقيقة الله طبعا/- النفرى)، تمثل عندى إشكالة بلا حدود، لن أكرر ما سبق أن قلته عشرات المرات، فالمهم هو أن نفرق بين الحب الحب، والحب كنظام الحب، والحب اللاحب.
قبل أن أتم نشرة اليوم تصورت أن هذه النشرة لن تكون إلا إعادة للنشرة السابقة منذ سنتين، بعد إضافة ما تيسر من توضيح ضرورى لما هو إمراضية، (فى السواء والمرض)، مع ما يلزم من إضافات لما يجرى أحيانا فى العلاج النفسى خاصة، وهو هدف هذا الشرح لكى يتناسب مع عنوان الكتاب !
لكن هل هذا هو ما حدث تماما، أم أن هناك إضافة وتحديث؟
يمكنك أن تحكم بنفسك ! (قارن إن شئت نشرة 7-10-2007)
العلاقات التجاذبية السريعة، تتم غالبا، خاصة فى بلاد تسمح بعلاقات حرة سهلة (هكذا تسمى)، دون تردد أو خوف، كما أنها تكسر القيود (إن كانت ثمة قيود) سواء كانت قيودا أخلاقية فوقية، أم دينية، أم تقاليد، لأنها تحدد الغرض منها: رغبة متبادلة، واتفاق معلن، وتخلٍّ جاهز، شىء أشبه بالوجبات السريعة اللذيذة.
هذه العلاقات تقوم بالواجب أحيانا، ولا يمكن شجبها على إطلاقها إلا بمقاييس أخلاقية ترتبط أساسا بالثقافة التى تتم فيها، فلكل ثقافة منظومتها الأخلاقية التى تسمح أو لا تسمح، تقر أو تجُبّ، ونحن إنما نسعى إلى التعرف على الطبيعة البشرية بما تيسر من حدس وتجارب وإبداع، وما أتيح من العلم
يبدا المتن هكذا :
والعين الهادية النعـسانهْْ بتقول أنـا اهُـهْ.
أنا مـِشْ خايفهْ
لو الاقى حد يقرّب لى
ولاقينى برضه باقرّب لهْ
حاخده بالحضن،
وكإنى باحب.
ميـَّتى رايقهْ، و هاديْه، وخضراَ…‘
….. وخلاصْ.
أهم ما يميز مثل هذه العلاقات هو أنها لا تدّعى الحب، بل أحيانا تشترط ألا يكون فى هذا التقارب المحدود حبا.(1). التعبير قرب نهاية هذه الفقرة فى القصيدة، “وكأنى باحب”، لا يظهر عادة فى وعى من يتعاطون هذه الوجبات اللذيذة المؤقتة السريعة، وهو تعبير لا يتهم هذه العلاقات بالزيف، لكنه قد يكون قد حضرنى –شعرا- بمعنى ” ما دام الحب الحقيقى (أنظر بعد) غير موجود، فهيا “نلعب حبا”، (مثلما كنا صغارا نلعب “بيوتا” فى الشرفة، ونهدّها بمجرد أن تنادى علينا أمنا، أو نسمع صوت المفتاح يعلن قدوم والدنا من العمل).
كل ما أرجوه منكم هو أن نؤجل الأحكام الآن ومن لا يستطيع أن يفصل حماسه الجاهز، وقيمه الخاصة، وهو يقرأ معنا هذه الاجتهادات غير المألوفة، فليعتبر أننا ننقد شعرا لا أكثر (هذه الملاحظة لم أضعها هامشا لأهميتها)
إذا تأملنا أن مجموعة هذه القصائد تكشف – ضمن ما تكشف – ذواتنا المتعددة، فتعرى الزيف أو تبرره أو تسميه تلطفا باسم أرقّ، وربما أصدق، فإننا سوف نجد أن أغلب قراءتنا لهذه القصائد فى هذا الكتاب بصفة عامة، ونحن نستلهم منها الطبيعة البشرية، أو على رأى الصديق الإبن أ.د. جمال التركى: نحاول أن نفك شفرة النص البشرى، هو أن نضيف ملاحظات هامة، وربما أساسية على عملية العلاج النفسى.
فكرة العيون التى بداخل العيون هى أساسية من حيث أنها شهادة مباشرة عن إمكانية الحوار مع ذوات متعددة، وبالتالى هى فكرة تتجاوز لغة الشعور واللاشعور، مع أنه لابد من الاعتراف بالفضل لسيجموند فرويد بهذا السبق، على الرغم من تعامله مع “الهو” باعتباره “شواشا” ليس له حضور إلا من خلال الشعور الظاهر، (الأنا)، القراءة هنا تتجاوز ذلك، كما تتجاوز أيضا ثلاثية إريك بيرن، (الذوات الثلاثة : الطفل واليافع والوالد) فهى تتعامل مع أى عدد من االذوات باعتبارها كيانات كاملة، كل ذات منها (تنظيم- مستوى وعى- عقل آخر) لها موقف، ومشاعر، وفلسفة، ورؤية، لا تناقـِض بالضرورة الظاهر، لكنها قادرة بشكل غير مباشر على التعبير عن كل ذلك، إما بالأعراض، وإما من خلال آليات العلاج النفسى، أو غير ذلك.
القصائد عموما فى هذا العمل تجرى على لسان صاحب أو صاحبة العيون، ثم على لسان الذوات داخل العيون، ثم داخل داخل العيون، إلى ما يمكن من مستويات وتنظيمات متعاقبة متكاملة متبادلة، أومتعارضة ناقدة محذرة ساخرة.
نبدأ بالنافذة الخارجية، و”صاحبتنا الواجهة” تفتحها وتنادى، وتسمح، فهى تنكر خوفها، وتعلن استعدادها وجاهزيتها بنداء هادئ وسْـنان:
والعين الهادية النعـسانهْْ، بتقول أنـا اهُـهْ.، أنا مـِشْ خايفهْ،
لو الاقى حد يقرّب لى، ولاقينى برضه باقرّب له، حاخده بالحضن، وكإنى باحب”.
لكن العين الداخلية الناقدة الحذرة المحَــذِّرة تتربص بها، فتنقض بمجرد إعلان هذا الاعتراف الضمنى بزيف الجارى: “وكإنى باحب”. ، تنتهز هذه العين الأخرى الداخلية الفرصة فتقفز متمادية فى تعرية هذه العلاقة قبل أن تبدأ هكذا :
والعين التانية جوّاها ْ بتقول عـْندِكْ:
باين على شكلـِك مش خايفهْ ؟
خايفة ليقولوا عليكى هايفة ؟
دانا خوفى اتجمّد من خوفى،
دانا خايفه أخاف.
والمية هاديهْ عشانِ بِـركَـة،
مش نيلْْ ولا بحـــْـر.
حسب تحذير هذه العين الأخرى الناقدة نكتشف أن اختفاء الخوف خارجيا، وهو الذى سمح بالنداء الظاهرى الجاهز، فهو إنكار للخوف، أكثر منه طمأنينة حقيقية، إذن فالدعوة الجريئة البادئة، ليست سوى الغطاء الذى يسهل مثل هذه العلاقات السطحية السريعة المؤقتة، لحساب الانسحاب إلى الداخل الذى يساوى ما أشرنا إليه مكررا تحت لافتة الموت النفسى، وكأنه اعتراف بأن هذه الوجبات لا تسمن ولا تغنى من جوع، وإنما هى تؤكد اختيارا إمراضيا انسحابيا خامدا.
مشوارى طويلْ.
خلّونى فْ حالي.
البـِنْـج حَـلالـِى.
موتِى بيحلالى، يا خـــالى.
هل كل ذلك يبرر شجب هذه العلاقات السطحية التسكينية على طول الخط ؟
بصراحة: ليس بالضرورة.
قد ينجح مستوى العلاقات من نوع “الوجبات السريعة“، تلك طالما أن هذه العين الداخلية الناقدة المتربصة موافقة، أو نائمة، أو مُستبعِدة، حتى لو أقرت –ساخرة أو راضية- بأن هذا التخدير الإنكارى هو موت لذيذ (موتى بيحلالى ياخالى) .
فى العلاج النفسى – كما هو فى الحياة عموما- ليس المطلوب أن نرفض ومن البداية هذه المستويات التى نسميها مسطحة أو سريعة أو مؤقتة ما دامت هى العلاقات الممكنة على الأقل فى البداية.
إذا بدأنا بتصديق كل هذه التعرية القاسية كما جاءت فى القصيدة، فكيف يتدرج نضج العلاقات بقدر تدرج الكشف وجدل النمو؟
ليس المطلوب هو أن نعلن ومن البداية كل هذا الشجب الذى يتبدى لنا من خلال هذه التعرية القاسية هكذا، بل دعنا نقرأ هذا الشجب فى عكس الاتجاه حين نقرأ هذه التعرية باعتبارها ليست دعوة حقيقية للتقدم نحو علاقات أعمق واصدق، بقدر ما هى مبرر لرفض العلاقة مع الآخر من حيث المبدأ إعلانا للخوف الأزلى الأعمق من الحب، من الاقتراب، وبالتالى فإن هذا النقد الساخر- برغم صدقه- قد لا يوظف إلا لدفع الآخر بعيدا، تمهيدا للانسحاب الشيزيدى. (إلى الموقف اللاعلاقاتى)
“الخوف من الحب” الحقيقى، هو الإشكالة الأساسية فى كل هذا العمل، (هذا الديوان، هذا الشرح)، هنا ننبه أن المبالغة فى التحذير من تجنب العلاقات جميعا هكذا من حيث المبدأ، فى انتظار الأضمن والآمَن، هو تعرية قاسية تُجهض أية محاولة بدئية أن نقبل أن “نلعب حبا“، إلى حين أن نعرف “كيف نحب“،
أرجو ألا تُستقبل وجهة النظر هذه باعتبارها دعوة للاستسهال او تبريرا للإنكار، فلعلها نوع من نقد النقد.
الذين يمارسون العلاج النفسى المكثف أو العميق، يقعون فى مأزق حرج حين يتصورون أن ممارستهم لا بد أن تقتصر على تعهد إتاحة الفرصة لعلاقات موضوعية أبقى وأرقى، المفروض أن العلاج النفسى هو علاقة مثل أية علاقة بشرية، تبدأ بالموجود ، وتتدرج إلى الممكن، فالممكن، وهكذا، بدون توقف، وكلما انتقل العلاج من مرحلة إلى مرحلة، تعاد صياغة الاتفاق، إلى ممكن آخر، أبعد وأرقى، وهكذا. هذا ما يمكن أن نسميه :
تجديد مستويات التواصل نحو الأعمق، وهو وارد دائما فى كل مجال ومع أى بشر يمارس العلاقات الإنسانية من أى نوع، والعلاج النفسى بعض ذلك.
هذه القصيدة، مثل معظم قصائد الديوان ، تبالغ فى تعرية ما أسميناه “نلعب حبا“، لعبة “الوجبات السريعة”، مع أن هذا المستوى قد يكون جيدا من حيث المبدأ، حتى فى العلاقات المستمرة المنظمة اجتماعيا أو دينيا، لكنه ليس بالضرورة غاية المراد، أو كل الإيجابى لكل مراحل النمو.
إن تحديد الفرق، بين “الحب“، و بين أن “نلعب حبا“، هو أمر مهم على الأقل من الناحية النظرية، ومن الناحية المهنية العملية فهو يمثل مسألة هامة فى قدرة المعالج على قياس مهمته، خاصة فيما يتعلق بمنع النكسة، “اللعب حبا” – خاصة على مستوى العلاج النفسى- عمره قصير عادة، والكائن البشرى يرضى به كمرحلة، وأيضا المعالج بفعل ذلك، ربما يكون هذا مثلما يرضى الطفل بالزحف حتى يتمكن من المشى، أما أن يكون الزحف هو البداية وهو النهاية، فهذا ليس إلا إعلان لتقزيم النمو، وتوقفه.
الفرق بين المستويين
تـُواصِلُ العين الداخلية هنا التعرية والتوعية بطبيعة الصفقة الظاهرة، فتنبهنا إلى ما ينخدع فيه “الآخرون” من أن هذه الواجهة من الوجود التى أتمت الاتفاق على لعبة الحب، هى منطقة، مهما بدت جميلة ولذيذة، إلا أنها فى النهاية ساكنة بلا موج ولا حركة ممتدة إلا فى مجالها المحدود، وأن الخضرة التى كانت توحى بالنضارة والطزاجة قد تتكشف عن قشرة من الفطر ..( والمية هاديهْ عشانِ بِـركَـة، مش نيلْْ ولا بحـــْـر)
هذه الوجبات السريعة ، على فرض سماح المجتمع، وتماشيها مع منظومة قيم صاحبها، يمكن أن تعد ممارسة لذيذة أو مفيدة، باعتبارها أيضا حق طبيعي لجوعٍ طبيعى، ومع ذلك يبدو أنها ليست هى ما تميز الفطرة البشرية فى حركتها النمائية طول الوقت، ولا هى غاية تواصل الإنسان كما أكرمه الله، وإذا كانت أغلب الحيوانات لا تجد بديلا عن مثل هذه العلاقات الشهوية المؤقتة، ولو كرشوة لمعظم إناثه حتى يواصلن مهمة التكاثر (دون شرط التواصل)، فإن الإنسان قد تجاوز هذه الرشاوى (المفروض يعنى)، وأصبح التواصل عنده متعدد المستويات معا.
حتى هذا المستوى الّلِذى الظاهر الذى رضى بلعبة الحب اضطرارا (قياسا يمكن أن نقولها هكذا: إيش رماك على “اللعب حبا”، قال لك: قلة الحب)، هذا المستوى نفسه، يود لو أنه يكتمل ببقيته، فهو “يعرض” ضمنا على وعيه الداخلى أن يشارك فى العلاقة، بدلا من أن يبتعد استسلاما بعد أن ألقى فى وجه اللاعبين كل هذا النقد الذى كاد يفسد تلك الوجبة.
هذا “الكيان الداخلى” الناقد الساخر، هو الذى ارتضى التخدير طواعية وهو يعلن “الخوف من الحب” الحقيقى، بانسحابه، وكأنه يعرف – متألما أو مستسلما أو كليهما- أن الحب الحقيقى له مواصفات أخرى، كماأنه يحتاج إلى تعاقدات أخرى، أهمها: ذلك الاطمئنان إلى عدم التخلى، والذى يبدو أنه افتقده فى هذه الوجبات السريعة، فكان كل هذا النقد الساخر، فالانسحاب المتمادى.
مضى هذا الكيان الداخلى يؤكد موقف عدم الأمان الأساسى فى الوجود البشرى، فهو يرفض منح الثقة للآخر دون ضمانات (مستحيلة عادة)،
الخوف من العلاقة المهتزة، هو خوف من التخلى قبل الأوان، خوف من الخداع، من عدم تبادل مغامرة الخوض فى علاقة، ويبدو أنه هو السبب فى إفساد كل مستويات التقارب .
عايزنّى أصحَى؟
وجهنّم خوفى مالْـيانِى،
كما إبر التـَلـْج المحميّة؟!
والناس حوالىّ بتتمنظر، زى ما هيَّهْ!!!؟
من حقــي أبعدهم عـنـى،
ولا أيّها حاجة تطمِّنَّى.
هذا المستوى الداخلى، الذى بدا لنا فى أول الأمر أكثر يقظة، وأمانة فى الرؤية، أصبح – بانسحابه هكذا- مشاركا ضمنا فى لعبة نفى الآخر، أو على الأقل: هو يعلن أن العلاقة المعروضة بديلا عن العلاقة السطحية ليست كافية لإروائه، إنه بإعلانه ذلك يقول: أنه لا يوجد ما يطمئن فى كل ما حوله ومن حوله، وبالتالى فإنه بإصراره على إبعاد الآخر الحقيقى (إن وجد أو وعد)، إنما يعطى مشروعية لما بدا أنه يرفضه ابتداء، مع أنه بذلك يعطيه مبرراته: “من حقى: أبعدْهم عنى، ولا أيها حاجة تطمنى”
هذه المشاركة من الوعى الداخلى يمكن أن تكون نوعا من المناورة لتشويه ما بدا أنه وافق عليه، فهو يتمادى فى تعريتة للصفقة الظاهرة أكثر سخرية وقسوة، وكأنه يؤكد مرة أخرى من جديد أنها لعبة “كنظام الحب”، بل إنها لعبة “الحب الزائف”: حتى تبدو الصفقة رسما كاريكاتيريا متحديا وهو يقول:
أعملها وكإنِّى كإنِّـى،
أتمايلْ، يتـقربْ مِـنّى.
أرسمْها: عايزة، ومــَغـْمـُوزَةْْ،
أشاورْ لـُـهْ، يفتحْْ لى كازوزةْ.
*****
الشائع عن هذه الوجبات السريعة، أنها رغبة صريحة متبادلة بين اثنين، وهذا صحيح، “ارسمها عايزة، ومغموزة”، أشاورله، يفتح لى كازوزة“، لكن إذا كان هذا الكيان الداخلى غير راض بهذه الصفقات، أو على الأقل غير قانع بها، فلماذا لا يستيقظ، وينشط ويغامر بعلاقة حقيقة؟
ها هو يرد علينا بمبرراته التالية:
مانا لو حاصْحَى،
ما انَا لازمْ اخافْ
وأموتْْ مالخوفْ
وارجعْ أصحَى ألقانِى باحِسْْ.
وانا خايفهْ أحـِسْ، وخايفـَةْ أبـُصْ
هكذا أعلن الداخل صراحة أن “الخوف من الحب” ليس خوفا من الحب ذاته، بقدر ما هو تحسّبا للترك، ولو أتيحت لهذا الوعى الأعمق فرصة أن يقود مستويات الوعى معا للتضفر المتبادل المتجدد، للتكامل، بيقظة كافية، إذن لوجب الخوف أكثر لو أنه تمسك بهذا الشجب والحذر والتحذير.
يتعاظم هذا الخوف لدرجة الرضا بالموت جوعا، أو الموت شللا بلا حراك، تجنبا لهذا الرعب من الترك، وهذا ما جاء أيضا فى ديوان “سر اللعبة تحديدا: فى قصيدة “جلد بالمقلوب” كالتالى:
لكن الموت الواحد، أمرٌ حتمى ومقدَّر
أما فى بستان الحب، فالخطر الأكبر:
أن تنسونى فى الظل، ألا يغمرنى دفء الشمس
أو يأكل برغم روحى دود الخوف،
فتموت الوردة فى الكفن الأخضر،
لم تتفتح،
والشمس تعانق من حولى كل الأزهار،
هذا موت أبشع،
العلاج النفسى هو فن تقدير التناسب بين جرعات الرؤية، وصعوبة الموقف، وقدر الخوف، ثم هو فن تقسيم هذا التقدير على مراحل العلاج الختلفة ما أمكن ذلك.
الخوف المشروع والضرورى يأتى من مغامرة خوض عمق التداخل فى العلاقة بين البشر، العلاقة العلاجية وغير العلاجية، ذلك العمق الذى يسمح بإعادة الولادة (البعث) من خلال تجديد الوعى “معا”.
هنا تصبح البصيرة رائعة ومعطلة أيضا، وهى تنشط فى العلاج كما تنشط فى أية علاقة نمو بين بشر وبشر، هى خبرة موت فبعث بشكل ما، والبعث هنا هو تخليق لوعى جديد يتولد من تجديد العلاقة من خلال اختراق هذا الخوف لاستعادة صدق العلاقة وحركيتها وأصالتها ، فى قصيدتنا الحالية:
“وارجع أصحى ألقانى باحس“،
هذا خوف آخر غير الخوف من الترك أو النسيان الذى أشرنا إليه حالا،
هو خوف جديد مسئول ومبرر، لأنه المغامرة فى اتجاه الإقرار باحتمال الاعتراف المتبادل مع آخر حقيقى، يُعتمد عليه، ويبقى فى وعينا حتى لو رحل.
هذا نموذج بعيد المنال لدرجة الاستحالة أحيانا، وذلك نظرا لقصور مرحلة نمو البشر فى مرحلة تطورهم الحالية، وإن كانوا على الأرجح فى الطريق إليه أكثر فأكثر،
العلاج النفسى هو فن اختراق هذه الصعوبة من احتمال اقتراب يعطى فرصة حياة تستأهل.
ليس معنى أن “الآخر” هو نفسه “فى حال” لا تسمح له بإعطاء كل الأمان المطلوب، أن نلغى محاولة عمل علاقة بشرية كلية كما يقول المتن فيما يلى:
خايفة أطمع فْ وجـُوْدك جـَنـْبِى
على ما اصـْحـَى وامُوتْ وارْجَـعْ أصـْحَـى،
حاتكونْ مش فاكر حتى انا مين,
أوْ كُـنـَّا فْ إيهْ.
(راجع ما ذكرناه حالا مقتطفا من ديوان سر اللعبة.
“لكن أن تنسونى فى الظل،…….،
والشمس تعانق من حولى كل الأزهار
هذا موت أبشع !”)
إن ضمان التخفيف من رعب “الترك” (الهجر)، هو ألا تكون العلاقة ثنائية استبعادية بشكل مطلق (إنت وبس اللى حبيبى)، وبالتالى فحضور الناس (الآخرين) سواء بالعلانية، أو باعتبارهم “موضوعات مشارَكة”، أو “احتمالات بديلة”، هو مصدر لطمأنينة من نوع آخر، وربما هذا هو الذى أعطى للعلاج الجمعى مشروعيته وأفضليته أحيانا، وهذا ما تقوله الفقرة قبل الأخيرة،
لكن العين الداخلية المتوجسة الناقدة المرتعبة تسارع بنفى حتى هذا الاحتمال أيضا، ربما لفرط الخوف من القرب حتى أنها تعمم الإنكار إلى الناس جميعا (طب فين الناس؟)، فهى لم تقصر إنكارها للآخر على افتقادها لوجود فرد آخر مشارك لا يتخلى، وإنما بالغت حتى عمّمت هكذا:
بتقولوا ان الدنيا الواسعَـهْ :
عمرها ما حاتبقى صحيح واسعة
إلاّ بالناسْ!!
طَـبْ فـِين الناس؟؟
إن إلغاء وجود الناس بهذا الحسم، يعقبه تأكيد جديد على الخوف من الترك، والهجر، والإلغاء: (حاتكون مش فاكر حتى انا مين،…. أو كنا ف إيه)
حين يصل الأمر إلى هذا المستوى من الرؤية، لا يتبقى إلا إعلان اليأس من الحب، ولو بوضع شروط معجـِّزة لاستمراره، وتهيئة ظروف لضمان تجديده بلا توقف.
تنتهى القصيدة بإعلان اليأس الساخر تسليما عبثيا بالموجود المُفـرغ من كل حب !!
ما فيش احسن مالحب العيرَةْْ،
واللعب حسب التسعيرة
بس إوعى يا روحى تجيب سيرة
* * * *
وبعد
فى النهاية، كالعادة، نقدم القصيدة مجتمعة
اعتذارا، وليس تراجعا
(1)
والعين الهادية النعـسانهْْ بتقول أنـــا اهُـهْ.
أنا مـِشْ خايفهْ !!
لو الاقى حد يقرّب لى
ولاقينى عاوزه أقرّب له:
حاخده بالحضن،
وكإنى باحب
ميـَّتى رايقهْ، و هاديْه، وخضراَ… ‘
وخلاصْ.
(2)
والعين التانية جوّاها ْ بتقول عـْندِكْ:
باين على شكلـِك مش خايفهْ ؟
خايفة ليقولوا عليكى هايفة؟
دانا خوفى اتجمّد من خوفى،
دانا خايفه أخاف.
والمية هاديهْ عشانِ بِـركَـة،
مش نيلْْ ولا بحـــْـر.
وخضارها مش زرع مـْنـَعـْنـَعْ. دا الَّريمِ ايـّاهْْ.
مشوارى طويلْ.
خلّونى فْ حالي.
البـِنْـج حََـلاَلـِى.
موتى بيحلالى، يا خـــالى.
(3)
عايزينّى أصحَى !!!
وجهنّم خوفى مالْـيانِى،
كما إبر التـَلـْج المحميّة !؟!
والناس حوالىّ بتتمنظر، زى ما هيَّهْ!!!؟
من حقـّـى أبعدْهُم عـنـى،
ولا أيّها حاجة تطمِّنَّى.
أعملْها وكإنِّى كإنِّـى،
أتـْـمايلْ، … يتـقربْ مِـنّى.
أرسمْها: عايزة، ومــَغـْمـُوزَةْْ،
أشاورْ لـُـهْ، يفتح ْْ لى كازوزةْ.
(4)
مانا لو حاصْحَى،
ما انَا لازمْ اخافْ
وأموتْْ مالخوفْ
وارجعْ أصحَى ألقانِى باحِسْْ.
وانا خايفة أحـِسْ، وخايفـَةْ أبـُصْ
خايفة أطمع فْ وجـُودَكْ جـَنـْبِى
على ما اصـْحـَى وامُوتْ وارْجَـعْ أصـْحَـى،
حاتكون مش فاكر حتى انا مين,
أوْ كُـنـَّا فْ إيهْ.
(5)
بتقولوا إن الدنيا الواسعَـهْ:
عمرها ما حاتبقى صحيح واسعة:
إلاّ بالناسْ
(طَـبْ فـِين الناس؟)
ما فيش احسن مالضِّحْكِ العيرَةْْ،
والحب حسب التسعيرة
بس اوعى يا روحى تجيب سيرة
[1]– أستبعد من هذه العلاقات الـ “قوام قوام” علاقات الدعارة “مع أنها مثال جيد للعلاقات (اللاعلاقات) السريعة المؤقتة، مع فارق أنها بمقابل وبلا اختيار متبادل إلا فى حدود قوانين وأخلاق السوق، لهذا أستبعدها من هنا،
لكن حتى فى علاقات الدعارة مدفوعة الثمن، أحيانا ما ترفض المرأة فيها القبلات، باعتبار أن وجهها وشفتيها – بما تقوم به من احتمالات الحب والتواصل- ليست ضمن محتويات أو شروط هذا اللقاء، فهما خارج الصفقة، هذا ما أخبرنى به صديق له فى هذه الأمور عن بعض خبرته فى الخارج، حين رفضت المرأة الفاضلة أن يقبل صديقى شفتيها، مشيرة إلى أن عليه أن يلتزم بمنطقة السماح: نصفها الأسفل وما يعلوه حتى الرقبة !!!).