أكتوبر1983-عالم الابداع الفنى-تربية بذور الخلق فى الانسان
مجلة الإنسان والتطور
عدد أكتوبر 1983
عالم الابداع الفنى
تربية بذور الخلق فى الانسان
أ. محمد فتحى عبد الفتاح
ماذا تعنى كلمة” موهوب”؟ ومن هو الانسان الذى يستحق وصفه بهذه الصفة؟ وهل تعنى “الموهبة” شيئا أكثر من الاستعدادات الكامنة.. شيئا يتماشى مع معنى الـ هبة التى يفوز بها واحد بينما يحرم منها آخرون؟ أم أن الموهبة بذرة تنبت هنا وتضمر هناك؟
لا بأس من تغير وجهتنا بعض الشئ.. هل هناك من يولدون بمواهب مكتملة؟ أى من يولد مبدعا يعزف لنا لحنا، أو يؤلف مقطوعة شعرية، أو يكتشف نظرية علمية، أو يمثل دورا… الخ، أم أن الموهبة تنمو وتزدهر وتتطور مع المرء؟
أن سلمنا بأن الموهبة تخضع لمقولات النمو والازدهار والتطور فهل يمكن تجاهل الامتداد العكسى لهذه المقولات أى ضمور وتدهور وتكلس الموهبة.. وكيف يمكن القطع فى هذه الحالة بأنها ابتداء وهبت لهذا ولم توهب لذلك؟
معضلة أجدى من الدوران حولها أن نفكر فى الظروف التى تساعد على نمو وازدهار وتطور بذور قدرات الخلق الكامنة فى الانسان وفى كيفية رعاية هذه البذور.. ولا بأس من فعل ذلك من خلال جولة فى عالم تربية الفنان كما صوره فيلم شهرة للمخرج الأمريكى آلان باركر…
***
تحولت تربية الفنان الى ما يشبه العلم – بمعناه الأوسع – بعد اجتيازها مراحل كانت خلالها أقرب الى الصدفة والشطارة، ثم الى الاجتهاد الحرفى.. وقد شهدنا مؤخرا فيلما أمريكيا متميزا، حول هذا الموضوع من اخراج آلن باركر، هو فيلم شهرةFame .
وتدور أحداث الفيلم حول مدرسة فنية عليا بها أقسام للدراما والموسيقى والرقص، ينتظر التلاميذ فى تحصيل فنونها، الى جوار دراستهم للمواد الأكاديمية… وانطلاقا من كون مشروع الفنان – التلميذ – لم يأت الى المدرسة من فراغ، وانطلاقا من عيشه وسط مجتمع وأسرة يؤثران فيه، وعليه أن يتعامل معهما، تطرق الفيلم الى كثير من العوالم التى يحتك بها التلاميذ خارج المدرسة: العوالم التى ساهمت فى الاتيان بهم اليها، والعوالم التى يصطحبونها معهم فى رحلتهم الدراسية، والعوالم التى سيواجهونها بعد التخرج….
ولهذا نجد فيلم “شهرة” يثير الى جوار قضايا خطه الرئيسى من قبيل اختيار مشروع الفنان وتربيته والمصير الذى ينتظره، قضايا تدور حول شخصية المبدع، والبواعث أو الدوافع الكامنة وراء اتجاه الانسان الى الابداع، ودور الحساسية الوجدانية والأصل الاجتماعى والمؤسسات التربوبة والسواء النفسى فى حياة الفنان.
مفارقات بالغة الدلالة:
يبدأ فيلم شهرة مصورا مسابقات القبول فى مدرسة مانهاتن العليا للفنون بالمفارقات الطريفة الساخرة، البالغة الدلالة فى الوقت ذاته، التى تشهدها مثل هذه المسابقات…
فنجد أنفسنا أمام ليروى(الزنجى) (1) الذى مازال يعيش حياة شبه وحشية يصعب عليه معها نطق الكلام، ويذهب الى المسابقة وهو يحمل عشرات الخناجر والسكاكين، الظاهرة والمختفية فى ثنيات سترته، دون نية الالتحاق بالمدرسة.. مجرد سنيد أو مصاحب لزنجية “وحشية التهذب”. لكن اختبار الحلبة يسفر عن رفض طلب زميلته أذ ترى لجنة الاختبار أنها كارثة لا راقصة، كما يسفر عن كتابة اللجنة نفسها طلب التحاق لليروى الذى يكشف اداءه عن براعة الفطرة…
***
كما نجد أنفسنا أمام رالف( البورتوريكى) الذى يسعى الى التأثير على قرار اللجنة، بايهامها أنه تعلم على يد أبيه الفنان العظيم، الذى أدى أعمالا فنية باهرة، وأن كان لا يستطيع الافصاح فى هذا الصدد، لأن أباه يؤدى خدمات سرية للدولة، مما لا يتيح كشف الأوراق أكثر من ذلك…
وتتكشف المفارقة الطريفة (2) حين يطلب منه مدرس الموسيقى أن يؤدى بعض ما تعلمه فيخرج من جيبه صفارة صغيرة (هارمونيكا) ليننفخ فيها.. وحين يعبر المدرس عن اعتذاره: جرب قسم الرقص يكرر رالف أمام اللجنة الجديدة نفس قصة أبيه الفنان العظيم الذى دربه.. ذلك رغم التخلف المريع الذى يكشف عنه اداؤه( فى مجتمع الرقص من عاداته)…
***
وأمام الأم التى تسعى الى اشباع ميولها الاستعراضية من خلال الحالق ابنتها دوريس(اليهودية) بالمدرسة. ولا تقف الأم فى سعيها عند حضور مسابقات القبول – الأم الوحيدة داخل قاعات الامتحان – والتقاط الصور لابنتها هناك مزهوة، بل تصل الى حد التعامل كشريكة كاملة لابنتها فهى ترد على سؤال المدرس: وماذا لو لم تنجح دوريس؟!
ترد بصيغة الجمع: بل سننجح….
***
وأمام برونو( الأوركسترا) الذى حمل آلته الموسيقية الألكترونية فريق كامل من الرجال فى سيارة – تاكسى – أبيه. ووقف برونو يعدها فى قاعة المسابقة والمدرس المسن يهمس لزميلته: لا أدرى أن كان يود أن يصبح عازفا أم طيارا تجاريا!! ليفاجئهما التلميذ بعزف مقطوعة سيمفونية على نحو رائع فيسأله المدرس فى انسكار سؤالا بعيد الغور: وهل تستطيع العزف على آلة واحدة؟
***
هذا وتمتد المفارقات الدالة الى أعظاء لجان القبول فكل لجنة تقترح على المتقدم فيما يشبه التعريض به وباللجان الأخرى أن يجرب حظه مع غيرها.. قسم الموسيقى يقترح قسم الرقص وهذا يقترح قسم الدراما..
ذلك بالاضافة الى عشرات المفارقات السريعة التى تتراواح بين مشاركة زنجية مفرطة البدانة فى الرقص ببراعة تزكى مشاركتها فى الحديث عن الرشاقة، وبين الردود عن سؤال حول الدافع الى الالتحاق بالمدرسة، فمونتجمرى(الشاذ) يرد بأن لا مكان له فى بيت أمه، ودوريس(اليهودية) ترد: الخوف من عدم توفر مصاريف الدراسة فى مدرسة عادية، وبين احساس الانسان بكونه موهوبا وهو ضائع يحمل صفارة صغيرة فى جيبه(البورتوريكى) أو وهو يتصور نفسه أوركسترا كاملا وتاكسى والده يتسع بالكاد لأجزاء الأورج الذى يعزف عليه (برونو)، هذا كما تمتد المفارقات الى المؤسسة الأبوة فمن الأب الغائب أو وهم الأب المتمثل فى أم مونتجمرى (الشاذ) التى لا يراها الا لماما، الى حضور الأب المضحى فى والد برونو(الأوركسترا).. السائق المستعد لتكريس حياته فى سبيل نبوغ ولده، الى الأب الأنانى الطاغى المتمثل فى أم دوريس(اليهودية).. ناهيك عن محاولة رالف النصاب استغلال أب معنوى عظيم بدلا من المجرم السجين…
المهم تعلن نتائج القبول ورغم المفادقات البورتوريكى النصاب، لكن فى قسم ثالث هو قسم الدراما، كما تقبل دوريس( اليهودية) ولا يفوت أمها آن تزف الخبر بصيغة الجمع قبلنا، كما يجد الزنجى القريب من التوحش نفسه فى مؤسسة مدنية على غير سعى منه…
المدرسة تستأنس العوامل البرية:
بعد لقطة سريعة لتلميذة تسقط منها، وسط الزحام، نسخ كثيرة من بورتريه شخصى تبدأ الدراسة، ويختار الفيلم أن يكون المشهد الافتتاحى للدراسة فى فصل اللغة الانجليزية، أحدى المواد الأكاديمية، التى يجب أن يدرسها التلاميذ. تنادى المدرسة على الأسماء والكل مشغول عنها. هذه تصلح زينتها، وذاك (البورتوريكى) يدخل مع المدرسة قافية حول اسمه، وينكت مع دوريس التى تجلس بجواره، ناصحا اياها بالاستفادة من خبرته فهو على علاقة بفتاتين…
عالم برى مبعثر بعيد عن الانسجام فى مواحهة المدرسة شيروود.. غير أن قمة هذه المواجهة بينها، كرمز للنظام وللمدرسة بصفتها الأكاديمية، وبين هؤلاء البراويين الذين يعتقد كل منهم أنه مركز الكون، تكون من نصيب ليروى الزنجى شبه المتوحش الذى جلس غائبا مع الموسيقى المنسابة عبر سماعات أذن من مسجله الخاص، منفصلا انفصالا كاملا عما يدور حوله، الأمر الذى يجعله لا يرد طبعا حيت تنادى المدرسة اسمه. وهكذا تبدأ المشادة، هى تطلب منه الحضور فى عالم الدرس، وهو يعبر عن احساسه بالملل والضجر من حياة المدرسة، وتنتهى المشادة بتحذير المدرسة للتلاميذ من أن المواد الأكاديمية مهمة مثلها مثل الرقص والدراما والموسيقى وأن من سيهملها سيفصل من المدرسة..
وهنا يحدث قطع وينتقل بنا المشهد الى مدرسى الموسيقى والدراما والرقص يؤكد كل منهم على التوالى للتلاميذ أن مادته هى أهم مادة، وربما يحدثهم عن الفصل( الرفت) أيضا. فنكتشف أن التلاميذ ليسوا وحدهم الذين يظن كل منهم أنه مركز الكون..
وهكذا نجد أنفسنا وسط دراما الترويض والتأقلم التى يعيش ذرواها ليروى الزنجى أمام ممثلة المؤسسة المتمدينة، التى تتهمه بالكسل، وبأنه لا يريد القراءة، وربما – تتهمه – بأنه أسود.. تلك الدراما التى تصل الى حد تبادل السباب واستخدام ليروى العنف البدنى فى تكسير زجاج دواليب المدرسة وهربه الى حافة المدينة، ليجلس هناك وسط أكوام القمامة، يحاول جاهدا أن يقرأ ورقة، يلتقطها من النفايات، مكتوب عليها مرحبا بالعالم المدهش لآلات الغسيل…
ومع هذه الدراما الحقيقية تتجول بنا العدسة فى أرجاء المدرسة بتركيز خاص على درس الدراما، والمدرس يعلم تلاميذه من خلال جهد دؤوب الاسترخاء، وتدريب الانتباه من خلال التركيز على الاشياء العادية التى تحيط بهم، وعلى ما يفعلونه فى حياتهم اليومية، ويجرى ذلك بأساليب تبدو طريفة وغريبة، من الصياح الى الاستلقاء والتحكم فى تلعيب الألسنة.. ويطلب المدرس الحصيف من تلاميذه تعلم ذلك كله من منطلق عجز الموهبة فى حد ذاتها عن الابحار فى عالم النفس، ولأن كثيرا من المواقف التى يواجهها الفنان فى التعامل مع الجمهور والوسطاء لن تجد الموهبة فيها قتيلا….
وبين مدرس الدراما، ودراما الاستئناس التى يجسد ليروى ذروتها لا تكتفى الكاميرا بالتنقل بنا فى أقسام الرقص والموسيقى، أو بالتركيز على العملية الدراسية، ففى مشهد منفرد نرى كوكو(الضامرة الصدر) تذهب الى برونو( الأوركسترا) فى طابق آخر من طوابق المدرسة، وتحاول اقناعه بأن يعملا سويا خارج المدرسة حيث ستدير أعماله دون أن تكلفه مع الاحتياجات العادية، سوى ثمن بعض الفساتين واسعة فتحة الصدر لأن الأثداء -على أهمية الموهبة – هى التى تجلب العقود. لكن برونو يرفض فتسأله أن كان زاهدا فى النجاح الى هذا الحد فيجيبها: بل أعتقد أن ثديينا غير كفيلان أو لا يكفيان لجلب العقود…
بل وتنقلنا الكاميرا الى دورة المياه فى المدرسة والفتيان يتلصصون على الفتيات شبه عاريات من ثقب فى الجدار، بل والى المطعم فى مشهد طويل حيث يعزف برونو (الأوركسترا) وتغنى كوكو (ضامرة الصدر) وبقية الطلبة يصاحبونهما رقصا وغناء .. وتدخل دوريس (اليهودية) المطعم على هذه الحال فتحس بنفسها غريبة تائهة فتخرج ليتقدم منها غريب تائه آخر هو مونتجمرى (الشاذ) ويخبرها أنهما زملاء فى قسم الدراما ليبدأ التعارف : الزمالة، أو التماس بلا شركة وجدانية كاملة..
يعود ليروى إلى المدرسة، ورويدا يجرى استئناس العوامل البرية، والتحول من التصادم والتنافر والاغتراب إلى نوع من التماس والتآلف .. تدخل الحياة فى المدرسة مرحلة التأقلم ويبدأ التواصل الفنى والإنسانى مدفوعا بالاحتياجات الداخلية للتلاميذ والحث الخارجى، كما تبين لنا الأحداث، من خلال مشهد التمثيل التدريبى، الذى نرى خلاله دوريس تتحدث إلى مونتجمرى عن إعجابها بميشيل .. بينما يطلب رالف من مونتجمرى ممارسة الحب مع دوريس، ومشهد برونو (الأوركسترا) فى تاكسى والده، والأب يلوم الابن على انطوائه ويقول له أنه كان يرتبط بعلاقات مع العديد من الفتيات فى وقت واحد عندما كان فى نفسه ويحث الابن على الخروج بفنه إلى الناس وعدم الانطواء على النفس والقبوع فى المدرسة، ومشهد ثالثا لكوكو (ضامرة للصدر) فى أحد المطاعم تقول لبرونو أنها تضيع الوقت فى المدرسة انتظارا لفرصة..
الالتفات إلى الداخل والكد والوجد:
مر عام على الدراسة وتخرجت دفعة فى المدرسة منها ميشيل المتفوق (الساقى) الذى يزيغ بريق السينما الكبيرة – حيث دعى للعمل – بصره. ومع مس هذا البريق لا يلتفت حتى لدوريس وهى تحاول أن تواعده على اللقاء، هذا كما تبدأ دفعة جديدة حياتها الدراسية بينما تدخل دراسة أبطالنا مرحلة جديدة يغوص بنا الفيلم فى أحداثها.
وبين مشاهد الحافة مثل المشهد الذى تترصد فيه العيون من وراء الثقب فى دروة المياه جيل الفتيات الجدد بالأشكال الجديدة للأثداء والحلمات، ذلك بينما يجلس آخرون تحت أقدامهم يحتضنون فى وله آلاتهم الموسيقية لا يصبرون على مفارقتها حتى فى بيت الراحة (3)
وبين مشاهد العمق مثل مشهد مدرس الدراما وهو يطلب من تلاميذه – محدداً لإيقاع هذه المرحلة دراسيا وإنسانيا – التطور من ملاحظة الخارج إلى ملاحظة الداخل، وتدريب ذاكرتهم الانفعالية، باستعادة بعض المواقف الانفعالية الحادة. وبذلك يتيح لنا الفيلم ببراعة فرصة التعرف على أعماق أبطالنا فبالرغم من أن الكاميرا تركز للتو على مشهد طريف والمجموعة تتابع أحدهم وهو يستعيد حالته الانفعالية خلال إصابته بحالة إمساك إلا أن هذا التدريب سرعان ما يتيح لنا أن نصاحب رالف البرورتوريكى وهو يستعد حادثة سماعه أن أخته ليست على ما يرام لكنه يجد المنزل حين هرع إليه خاليا ولما جلس يشاهد التلفزيون زلزلته رؤية مشهد انتحار الفنان فريدى على شاشته وكان هذا المشهد النداهة التى شدته إلى عالم الفن إذا اكتشف فيه – فى الفن – قرينا إيجابيا للمرض والجنون والمخدرات كما أقر هو نفسه قرب نهاية الفيلم….
هذا كما نتجول فى أعماق دوريس (اليهودية) من خلال حكايتها عن أصطحاب أمها لها فى حفلات أعياد ميلاد أصدقائها وفرضها الغناء على الفتاة، وسط جمهور مشغور ومنصرف وربما نافر عنها، فتغور الجراح داخل قلب دوريس، بينما تلتقط الأم لها الصور فى استعراضية فجة. ومن هنا ندرك رهبة وربما كراهية الفتاة للغناء، وسعيها إلى اثبات ذاتها من خلال الالتحاق بقسم الدراما، وبعيدا عن وضعيتها كيهودية وفق ما تذكر هى نفسها. هذا كما تتيح لنا هذه التدريبات أن نصاحب مونتجمرى فى العالم الشعورى لمرضه بالشذوذ الجنسى..
وبين مشاهد الحافة والعمق نسبح فى مشاهد الرقعة أو الحلبة داخل المدرسة وخارجها. داخلها حيث تسود لهجة جديدة تتمثل فى كلمة ” يجب” يكررها مدرس الموسيقى وهو يلح على برونو( الأوركسترا) بضرورة أمساك قوس العزف بوجد واحترام، وهو يؤكد له أن رجلا واحدا ليس أوركسترا ومدرس الدراما وهو يطلب من رالف أن ينتبه لضرورة نطق الكلام مفسرا واضحا دون أكل الحروف. ومدرسة اللغة الانجليزية وهى تؤكد على ليروى وجوب قراءة كم معين خلال فترة زمنية محددة، وقراءة أعمال مارك توين وتشارلز ديكنز وليس “البلاى بوى”، وتقذف له بعطيل عله يقرأه لأنه اسود مثله(!). ومدرسة الرقص وهى تؤكد على ضرورة الكد، وتدخل فى صدام متكرر مع ليزا حول بذل الجهد متسائلة باستمرار: “أين العرق؟”.. بل ويصل الأمر الى أن تستدعى ليزا لتخبرها أنها لا تصلح راقصة، لأنها لا تبذل الجهد الكافى، وأن الفنان يجب أن يهب كل حياته للفن فالأمر لا يحتمل العطاء الجزئى. وتقطع المدرسة بعدم صلاحية الفتاة غير عابئة بما تسوقه الأخيرة من أعذار ومن وعود بمضاعفة الجهد، أو بعدم رغبتها فى أن تصير نجمة اذ يكفيها أن تصبح راقصة اعتيادية….
التآلف الفنى والانسانى:
والى جوار نقلة الداخل والوجد والجهد والتفانى فى الدراسة تخطو العلاقة بين التلاميذ خطوة أبعد نحو الخصوصية( الأنتيم)، فمن صحبة وجدانية أوثق بين دوريس ومونتجمرى، يصارحها فى ظلها مثلا بمرضه بالشذوذ الجنسى، ويسألها أن كانت ستنقل ما يحيكه الى الآخرين، قاصدا أنه يخصها هى بالحديث.. الى صحبة أبعد مدى تتفجر وليروى يتابع مذهولا راقصة البالية (الارستقراطية) تتدرب وحيدة وما أن تنتهى من تدربيها حتى تغمز له وتصحبه الى أحدى غرف الخدمات بالمدرسة…
غير أن الالتفات الى الداخل فى الدرس والعلاقات الانسانية يجرى فى اطار تقطيع أواصر العلاقة بالجانب البراوى.. مثلما حدث حين قلب ليروى الزنجى صندوق القمامة على أصدقائه القدامى فى سيارتهم عندما لاحقوه فى الشارع . وتجرى فى اطار الوصول الى درجة من التناغم والانسجام، وتحويل من يظن أن العالم يدور حوله وأنه “أوركسترا” الى فرد مشارك. اذ نرى برونو وهو يقف على درج المدرسة يتدرب على العزف، طبعا دون ” أورج”.
كما أن الالتفات الى الداخل يجرى بهدف الانفتاح على الخارج.. على الجمهور ويجسد لنا الفيلم ذلك ودوريس ومونتجمرى يؤديان مشهد “كفيف البصر” على الطبيعة فى الشارع.. ويبلغ اقناع المشهد حدا يدفع بأحد المارة الى وضع نقود(صدقة) فى يد دوريس… غير أن الخروج الحقيقى الجماعى يطالعنا فى مشهد طويل فجره والد برونو الذى يتعذب من سجن موهبة ابنه، الأمر الذى دفعه الى احضار مكبر للصوت وتثبيته على سيارته – التاكسى- وادارته لشريط تغنى فيه كوكو( الضامرة الصدر) على موسيقى ابنه بأعلى صوت، فى الشارع أمام المدرسة. الأمر الذى يلفت نظر ابنه وكوكو. فيتساءلان عمن سرق عملهما، ويهرعان الى الشارع، وسرعان ما يتجمع طلاب المدرسة يكررون مشهد الغناء والرقص الذى حدث مع الأكل فى المطعم على نطاق أوسع وفى الشارع مباشرة هذه المرة…
ومن المشاهد البليغة الدلالة فى هذه المرحلة الدراسية مشهد مدرسة الرقص تقطع لليزا بأنها لا تصلح لأن تكون راقصة، وأنها تضيع وقتها فى المدرسة. فتسأل ليزا المدرسة وكيف أقرت أذن بصلاحيتها خلال مسابقة القبول، فترد المدرسة ببساطة وشجاعة تحسد عليها “أن المدرسين غير معصومين من الخطأ”.
ومشهد ليزا بعد ذلك على محطة المترو مع زملائها الذين ينخرطون كالعادة فى الرقص والغناء، بينما راحت هى تمثل على الطبيعة وقائع محاولة انتحار، بالسقوط أمام المتروحين يقترب منها، وبعد أداء المشهد بصورة أقنعت الجميع بأنها تحاول الانتحار فعلا، أبلغت زملاءها أنها لن تترك المدرسة وستحول الى قسم الدراما….
النضج والخروج من وصاية المدرسة والآباء:
ومع انتهاء العام الثانى من الدراسة يبتعد بنا الفيلم تماما عن جدران المدرسة فنجدنا مع ثنائيات أو مجموعات التلاميذ، فى بيوتهم، أو فى الشوارع ومع آبائهم وفى مواجهتهم…
رالف البورتوريكى ودوريس اليهودية مع مونتجمرى الشاذ فى شقة أمه الممثلة الغائبة غيابا كليا، فنحن لا نراها فى الفيلم مرة واحدة، وأن كنا قد سمعنا منه خلال الامتحان أنه يراها لماما. دوريس ورالف يؤديان بروفة أحد المشاهد برعاية مونتجمرى لكنهما لا يلتزمان حدود الدور، ويستغرقان فى قبلة حارة، غير مبالين باعتراض مونتجمرى بالخروج عن النص..
كما نجدنا مع ليروى الزنجى وهو يقبل راقصة البالية الارستقراطية ثم يدقان باب بيتها وهى تقول له أن زوجة أبيها فقدت دفتر الشيكات منذ فترة بعيدة، ولم تخبر الأب، وهو لم يكتشف ذلك بعد، لأن انفاق اللص أقل كثيرا مما كانت تنفقه الزوجة المسرفة.. ويدلفان سويا الى حجرتها بعد القاء التحية على الرجل وزوجته وابلاغ الفتاة لهما “على الماشى” أن لديهما واجيا منزليا..
وكذلك نجد أنفسنا أما كوكو تقوم ببروفة غناء فى مسرح فارغ وبرونو يتابعها ويتسلل أبوه الى المسرح ويستمع لما يجرى من المقعد الأخير ويصفق لهما عند الانتهاء ثم يوصلهما فى تاكسيه وخلال الطريق يطلب من كوكو- مصر على اسعاد ابنه بالعلاقة مع المرأة – أن توثق علاقتها ببرونو فترد عليه دون فهم “أننا مجموعة متعاونة بوجع عام” فيفصح: لا “أقصد ذلك. أتمنى أن تتعاونا فى حدود أبعد ويرفض أن يأخذ منها الأجر قائلا أنه يكسب من غنائها فهو يدير شرائطها للزبائن فيتضاعف بقشيشهم له…
ومن خلال المشاهد ندرك أن اداء المجموعات الصغيرة(الثنائيات والثلاثيات) والكبيرة (الكل) آخذ فى الانتظام والتآلف كما أن العلاقات الانسانية ماضية فى التعمق والنضج فنجد أنفسنا مثلا فى أحدى الكنائس مع رالف بعد اغتصاب أحد المدمنين لأخته وبرونو يسأل أمام القس: وهل أحضرتم لها طبيبا؟ فتلفت أم رالف – التى تعول الأسرة من جسدها – نظره فى استنكار الى أنه فى كنيسة. ودوريس تسأل جارس فيما بعد أن كانت أخته بخير فيخبرها بأن أى فتاة صغيرة لا يمكن أن تكون بخير حين يعتدى عليها، ويمضى يحدثها عن الحياة النفسية لأسرته، وارتزاقها من جسد أمه لأن أباه فى السجن.. وتحاول دوريس التهوين عليه وتقبله فيستجيب لها ليترك لهما مونتجمرى شقته…
ويبقى مشهد الأم الاستعراضية وهى تواجه أزمة الانسلاخ مع ابنتها دوريس. يتشاجزان فى الطريق لأن البنت ترى أنها نضجت وستصبح ممثلة وتود تغير اسمها من دوريس الى دومنيك.. وأمها تريدها أن تظل دائما وأبدا دوريس وليست دومنيك المتمردة التى يصل بها الأمر الى أجهاض نفسها. فتعاتبها البنت بأن ذلك لم يكن سوى ليلة واحدة. فترد عليها أن الأمر لا يحتاج الى أكثر من ذلك…
طريق الفن والشهرة ليس وحيد الاتجاه:
وعلى عتبات العام الأخير من الدراسة بعد الجهد والعرق والوجد والتفانى فى العلاقة بالفن وتوثق العلاقات بين التلاميذ تبدأ آفاق المصير فى التكشف بما تنطوى عليه من احتمالات متناقضة..
فميشيل الخريج المتفوق الذى سبقهم بسنوات الى آمال هوليود العريضة يفاجئهم فى أحد المطاعم ساقيا يخدمهم انتظارا لفرصة عمل فنى يفتقده دوما، منذ اشترامه فى احدى المسلسلات، التى لم يشاهدها أحد…
ونرى رالف جارس مع دوريس فى ملهى أقرب الى الماخورة يشترك متفرجيه فى الأداء مع الفنانين ويختلط تعاطيهم الفن مع تناول المخدرات حتى دوريس تدخن سيجارة مخدرات فيأخذها الجو وتخلع سترتها لتشارك فى الرقص وهى مسطولة..
ويدعى رالف جارس أثناء ارتياده لأحد الملاهى – بصفته طالبا فى نهائى مدرسة مانهاتن – يدعى إلى ارتجال نمرة فنية فيقدم عفو الخاطر اسكتش قصير عن بؤس حياة البورتريكيين الذين يعيشون شمال هارلم حيث زحام الحشرات أكثر من زحام الناس، ويعتمد فيه على روح السخرية الفكهة، والمفارقات فى معنى الألفاظ (4) مثل قوله أن الأطفال هناك يتعلمون الجنس مبكرا جدا ويصمت برهة ليكمل فى الساعة السادسة صباحا… وتنجح النمرة لأنها منقوعة فى الصدق وفى مأساته الخاصة.. ويخرج من العرض منتشيا تراوده أفكار كبيرة فيتحدث الى دوريس وهما فى طريقهما الى المترو عن الفن بصفته القرين الايجابى للمرض والجنون والمخدرات… ثم يوصيهم وهى تستعد لا لمستقلال المترو بألا تغتصب أو تسرق أحدا؟!
ويطلب من رالف أن يستمر فى تقديم نفس النمرة ضمن برنامج الملهى لكن سرعان ما تتعثر الكلمات رويدا على لسانه فيحاول أن يحركه بالمخدرات لكن اللسان يمعن فى التمرد لا يلوى على شئ حتى يخفق اخفاقا تاما… وتتخذ أزمة رالف طابعا عاما اذ يحل سوء التفاهم بينه وبين دوريس ومونتجمرى، الذى يقول له لا تحاول تقليد فريدى (السير فى طريق الانتحار) فيصارحه بأنه صار يكره نفسه…
هذا كما نرى راقصة البالية صديقة ليروى فى غرفة طبيبه تشكو حملها وتقول أنها كانت تحلم بأن تقدم كل الباليهات الكبيرة قبل أن تبلغ الواحدة والعشرين….
ونرى من يتقدم لكوكو فى أحد المطاعم بعد أن شاهدها فى استعراض ممتدحا قدرتها الفنية، ويدعوها بصفته مخرجا سينمائيا الى لقاء عمل لكنها تفاجأ به وحيدا فيخبرها أنه ممن يؤلفون ويصنعون أفلامهم بأنفسهم. ويبدأ فى تصوير كوكو ثم يطلب منها وهو يقف وراء الكاميرا أن تخلع بلوزتها فتفاجأ وتحاول التملص فيقول لها أنها تبدو كهاوية… وتعانى الموقف لكنها تخلع بلوزتها فى النهاية…
ويتلقى ليروى الزنجى عرضا من راقص مشهور للعمل فى فرقته لكن النجاح فى اللغة الانجليزية يقف فى سبيل تخرجه من المدرسة وهو شرط للالتحاق بالعمل، لذا يبحث ليروى عن شروود مدرسة الانجليزية حتى يجدها فى صالة انتظار بالمستشفى وزوجها فى حجرة العمليات. ويتصادمان كالعادة لكنها تفاجئه بالقول: أنك أنانى كالآخرين لا يفكر كل منكم الا فى نفسه.. فيسألها عن حال زوجها فتبكى ولا تجد منديلها فيناولها منديله فتمسح به دموعها…
ووسط الاحتمالات المتضاربة، التى تكتنف مصير هذه الكوكبة من الفنانين، التى تتراوح بين النجاح والتألق والشهرة، وبين الفشل والسقوط وربما الشهرة أيضا، والتى تلفها بمجملها المعاناة، يلوح لنا الجميع وهم يؤدون أدوارهم فى انسجام وتآلف خلال حفل التخرج: المشهد الختامى فى الفيلم…
***
الاخلاص المعتق للموضوع:
لعل أهم ما فى هذا الفيلم المتمير هو اخلاص مبدعيه الشديد للموضوع الذى اختاروه وأن كان ذلك أمر يجبهنا للوهلة الأولى مع خلو الفيلم من النجوم (5)، وابتعاده عن بهرج الملابس والديكور (6)... أى فى الامتناع عن الانسياق وراء المشهيات، على حساب الموضوع، فان التجلى الحقيقى له – الاخلاص- يكمن فى الفهم الصحيح والتناول الانسانى لموضوع الفيلم: اختيار وتربية ومصير الفنان… وأمام موضوع كهذا لابد وأن تثور أسئلة كثيرة حول نواميس النبوغ والابداع وشخصية الفنان والباعث على الابداع ناهيك عن قضايا اختيار المبدع وتربيته والعوامل التى تؤثر على مصير الفنان: توفيقه وشقاؤه وشهرته…
ولأن مبدعى الفيلم أدركوا جيدا مشروعية هذه الأسئلة وطبيعتها المفتوحة، اذ لا يمكن الوصول الى أجابات عنها دون ولوج كثير من الأبواب، التى قد تؤدى الى دورب متشعبة، متقاطعة ومتداخلة، وقد تقود إلى أكثر من اجابة.. لأنهم أدركوا ذلك عمدوا، أو دفعهم أخلاصهم للموضوع، الى اختيار شكل التحقيق الدرامى الذى يتيح من خلال نماذج كثيرة من الأبطال تجاوز الاجابات المستقطبة، القاصرة بالضرورة، الى التعددية برحابتها المستنيرة.. وتجلت براعة مبدعى الفيلم فى الحلول الفنية، التى لجأوا إليها فمكنت هذا الشكل الفنى من معالجة الموضوع بصورة عامرة بالصدق والانسانية والعمق رغم حركاته وايقاعه السريعين..
وتجسدت هذه البراعة فى توظيف الدراما والموسيقى والرقص والغناء لخدمة الموضوع. فبدلا من مزالق الفيلم وفقدانه للتوازن مع كثرة الأبطال والعناصر التى يمكن أن تقود من باب خلفى الى عوالم يمكن أن نستشف أبعادها من الارتباط الوثيق بعالم للكباريهات مثلا، أو من طبيعة عيش ودراسة مجموعة من المراهقين معا في جو فنى، ناهيك عن عوامل مثل عيش زنجى متوحش بين العديد من الشقراوات…
نقول على وفرة المزالق التى تهدد بفقدان التوازن خرج الفيلم غاية فى الأحكام والصدق الاجتماعى والنفسى والانسانى حتى وجدنا أنفسنا بدلا من الكباريهات مع البورتوويكيين فى شعاب حياتهم المتدنية، بل وفى مقالب القمامة مع ليرو الزنجى… لقد تجنب الفيلم المنزلقات.. لكن براعته تجلت كما قلنا فى تجاوزه استعراض عناصر الدراما والرقص والموسيقى حتى استعراضا محايدا أو دراسيا، إذ قام بتوظيفها جميعا، توظيفا دراميا، على مستويات عدة فى خدمة موضوعه.
فاذا كانت دراسة العام الأول فى فصل الدراما قد درات حول التحكم فى الجهاز العضلى وتركيز الانتباه على الخارج فإن دراسة العام الثانى تطورت باتجاه التحكم فى الجهاز الشعورى والانقلاب الى الداخل باستخدام خبرات التجارب القديمة فى تدريب الذاكرة الانفعالية.
وإذا كانت المشاهد التى عرضت لمادة الدراما، على هذا النحو غطت أهم ركائز تربية الممثل(تركيز الانتباه. الاسترخاء. الخيال. الذاكرة الانفعالية. الصدق. الاتصال الوجدانى بين الممثلين..) واذا كان الانتقال من الخارج الى الداخل يستقيم مع فن تدريب الممثل من حيث تحويل الأداء من أفعال خارجية إلى أفعال تسندها مشاعر داخلية لا يمكن بدونها تتبع خط هذه الأفعال، إلا أنه لا يمكن سبر غور القيمة الدرامية لهذا الانتقال دون إدراك لكونه قد مكننا، فى الاساس، ومع استعادة الحالات الانفعالية الحادة، من القاء نظرة أبعد على أعماق أبطالنا، وأثرى بذلك شخصياتهم وجعلها أكثر انسانية فقد أتاح لنا مثلا إدراك الدوافع العميقة التى ألقت بهم الى بحار الفن، بعيدا عن الاعتبارات السطحية التى كانوا يسوقونها هم أنفسهم، تبرير لذلك، فاذا كانت دوريس اليهودية تصارحنا أثناء اختبارات الالتحاق بأنها تسعى الى دخول المدرسة خوفا من عدم توفر مصاريف المدرسة العادية فنحن مع مشاهد العمق ندرك ثورة دوريس على وضعيتها (طغيان واستعراضية أمها) ورغبتها فى تحقيق ذاتها بعيدا عن الاعتماد على كونها يهودية.
وكذلك ندرك من مشاهد العمق مأساة رالف الشخصية ومعاناته لوضعه الاجتماعىالأسرى وأبوه السجين وأمه التى تتكسب من جسدها لتنفق عليه! مع أخته، بواقعهما الذى يمكن استشفافه من حادثة أغتصاب مدمن ممن يرتادون المنزل أحديهما).. ودون حديثه عن مشهد انتحار الفنان فريدى على شاشة التليفزيون.. الذى جمع بين الانتحار والفن وقوة تأثيره.
لا يمكن أن نفهم الدافع الذى شد رالف فى اطار مأساته الخاصة، الى المدرسة. ولا يمكن أن نفهم لجوئه الى المخدرات وحديثه عن كراهيته لنفسه بعد أن رأى الفن الذى كان يتعاطاه قرينا ايجابيا للجنون والمخدرات، رآه وهو يتحول فى اطار الدور المطلوب منه، الى شئ مصطنع من التكرار والتمثيل الآلى والقوالب التى لا تعدو أن تكون قناعا ميتا لشعور غير موجود، مما يحتاجه مع غيره من الوسائل الرخيصة لاستدرار أعجاب متفرجين مخدرين أن لم يكن امعانا فى تخديرهم.. وباختصار يمكن القول أن الشخصية البورتوريكى دون مشهد العمق الذى تذكره أمامنا نفقد عمودها الفقرى وتتحول الى كومة لا انسانية …
الألكترونيات والإيقاع الحركى والأوركسترا:
أما الموسيقى فعلاوة على توظيفها طوليا مع الغناء فى عرض تطور عملية التآلف والهارمونى التى تنمو بين العوالم البرية للتلاميذ، انطلاقا من المشهد الذى اختلط فيه الغناء والرقص بالأكل(الغريزة)، الى المشهة الأخير البالغ الانضباط فى حفل التخرج، ومرورا بمشهد الخروج الى الشارع والرقص والغناء مع ميكروفون سيارة والد برونو، والمشاهد التى تخللت عملية التدريس، علاوة على مشاهد أخرى قصيرة مثل الرقص والغناء كخلفية لمشهد محاولة الانتحار الذى مثلته ليزا الراقصة الفاشلة على رصيف محطة المترو…
بالاضافة الى هذا التوظيف الطولى كانت للمشاهد الموسيقية المختلفة دلالات بالغة فمن مشهد دق الزنجى للطبلة فى البداية الى مشهد اختبار برونو وعزفه مقطوعة سيمفونية على الأورج، وكلمات المدرس القليلة أثناء الدراسة عن الأوركسترا والعازف، والغلبة المعاصرة للموسيقى الشعبية على المشاهد… من خلال ذلك كله صور لنا مبدعوا الفيلم أكثر القضايا حيوية فى عالم الموسيقى المعاصرة، فى اتصال بموضوع الفيلم.
فبعد رحلة طويلة للموسيقى الغربية مع التركيز الذهنى ومع البوليفونية(تعدد الأصوات) والهارمونى ذي الايقاع العقلى واللحنى فى الأساس عاد الايقاع الزنجى بتغلغل جذوره فى الأصول العضوية والحيوية للإنسان، وصلته الوثيقة بالحركة البدنية، عاد إلى الغلبة كمظهر من مظاهر العودة الى الطبيعة فى الحضارة التى بلغت حدا مفرطا من التصنيع والآلية والتعقيد الذهنى وفقر الحركة… وهذا أمر طبيعى لأن الموسيقى كغيرها من الفنون تساير فى تطورها تقلبات الروح البشرية، وتتمشى مع الاتجاه العام لسير الحضارة.
وما يهمنا من هذا التطور هنا هو صلته بالعلمية التربوية فليس غريبا أن يبدو تطورا مأساويا فى عين رجل عاش عمره فى ظلال الأعمال التليدة المجيدة( الكلاسيك)، وبالذات مع ارتباط هذا التطور بالهجمة الالكترونية على الموسيقى التى يمكن أن يقود التسليم بما تشكله من حصار لدور العازف، ومن تمكينها مؤلف المويسقى من أن يصبح هو نفسه مؤديها، والتسليم بما يدعيه أنصار الالكترونيات من أن تطورها سيجعلها الأفضل حتى فى أداء الموسيقى الكلاسيكية، لأن امكانياتها تفوق كثيرا امكانيات العازف وبصورة تجعلها تستوعب أعمق الأعمال وأصعبها.. يمكن أن يقودنا ذلك كله الى أن حياة المدرس فى اعداد العازفين تتعرض على طولها لهزة قاتلة، والى أن الدور الذى يقوم به فى المدرسة(تدريب العازفين) لا يخلو من عبث ومن هنا الانفعال الذى أصابه خلال الامتحان وبرونو يضبط آلته الالكترونية، ثم وهو يعزف مقطوعة سيمفونية وحده(بدلا من أوركسترا كامل يضم عشرات العازفين)…
وتطرح المشاهد الموسيقية علاوة على ذلك مشكلة ديالكتيكية تربية الفنان “صنع/أبداع” تلميذا من المفروض أن يتجاوز أستاذه، وربما تطرح ما فى حركة الأستاذ من قصور ذاتى، وربما خلط الأستاذ بين اتجاهات تلميذه وظروف التطور فليس ذنب برونو أنه وليد عصر الآلة والألكترونيات والايقاع السربع والحنين للعودة الى الطبيعة.
الانسان فنان بالمولد:
واذا ما انتقلنا الى ما تناوله الفيلم من قضايا ولادة الفنان وتربيته لبهرتنا رحابة النظرة التى استطاع مبدعوه أن ينقلوها لنا من خلال عملهم الفنى.
فنحن منذ مفارقات اختبارات القبول نجد أنفسنا أمام مناقشة طبيعة الموهبة، فالاختبار يجرى بصورة غير تقليدية، اذ يطلب مدرس الدراما من دوريس أن تغنى رغم أنها جاءت لتمثل، كما يطلب من آخر أن يقرأ صفحة من شكسبير، ويكرر له أنه لا يوده أن يمثل مشهدا بل أن يقرأ فقط.. وعلى هذا الأساس يقرر الرجل قبول دوريس ورفض قارئ شكسبير، وكان البحث يجرى عن جذور أولى للحس الفنى العام الذى يتضمن بالضرورة عناصر الفنون الأخرى بهذا القدر أو ذلك.
ويساعدنا على تأكيد ذلك أم كوكو مثلا خلصت الى اجادة الغناء والتمثيل والرقص، وأن ليزا التى قطعت مدرسة الرقص بعدم صلاحيتها قررت عدم ترك المدرسة والانتقال الى قسم الدراما ما دامت لم توفق فى قسم الرقص، لتطالعنا وهى تشارك أترابها فى حفل التخرج.
كما أن جوانب الموهبة قد تخفى عن الموهوب نفسه(رالف الذى ذهب للالتحاق بقسم الموسيقى فحوله الى الرقص الذى حوله الى التمثيل لينجح بعد فشلين) وعن أعين المراقب العادى فلا أعتقد أن أحدا من المشاهدين قد أقتنع من خلال الامتحان بوجود قدرات فنية بارزة فى رالف البورتوريكى( ربما ساهم فى ذلك لحظتها بعد أخلاقى اذ رأيناه يكذب أو ينصب على اللجان).
واذا أضفنا الى ذلك كله مشهد اعتراف المدرسة لليزا بالخطا فى اختيارها خلال الامتحان، بالاغراء الذى يقدمه المشهد لامكان حدوث الخطأ فى الاتجاه العكسى، أى بعدم قدرة الاستاذ على اكتشاف الموهبة، نرى أن الفيلم يكاد يقول لنا أن الإنسان فنان بطبيعته وربما كان ذلك هو مغزى حكاية ليروى الزنجى ”المتوحش” فى الفيلم..
الابداع والعمق التربوى:
هذا وأن كان الفيلم يشير الى أن الانسان مبدع بالمولد فإنه يواصل معنا من خلال حياة الأبطال، ايضاح الظروف التى تساعد على نمو البذور والامكانيات الكامنة فى طبع الانسان. لعل أهم ما قدمه الفيلم فى هذا الصدد هو حاجة البذور الأولى حتى تتفتق الى جو من السماح وغياب الدور القامع، مع قدر من القيود التى تمكن الانسان من قدرات استخدام حريته، وتحميه من التناثر والتشتت، وضرورة الجهد والعرق والوجد والتفانى فى ذلك كله.
فقد ركز الفيلم على غياب الدور القامع للأسرة سواء بتحللها(رالف البورتوريكى) أو غيابها(مونتجمرى وليروى) أو تشجيع الاسرة لطفلها انطلاقا من ميول استعراضية( أم دوريس) أو اعتقادها فى الابن المعجزة كانقاذ من واقع محبط (والد برونو) أو انشغال أولياء الأمور عن الطفل (راقصة البالية).
ومن الأمور الملفتة للنظر تجاهل الفيلم المراحل التعليمية السابقة فى حياة التلاميذ تجاهلا تاما، رغم أننا فى مدرسة عليا(ثانوية)، رغم أننا تجولنا معهم كثيرا(حتى كدنا ندخل بيوتهم جميعا مثلا).. وكأن الفيلم يلغى هذه المرحلة(بل لقد ألغاها بالفعل فى حالة ليروى) بما للمدرسة فى صورتها الغالبة من معنى فى قتل المغامرة من خلال التلقين والحفظ والتكرار وكلها أدوات قامعة للإبداع، وربما لصرامة المعايير الأكاديمية التى لا تتفق والبيئة العقلية التى يحتاجها نمو الابداع. ذلك الى افتقار العلاقات فى المدرسة المعاصرة الى الحرارة التى يحتاجها المبدع.. وقد عكس دور شيروود مدرسة اللغة الانجليزية ممثلة المؤسسة الأكاديمية، لمحات من ذلك كله.
وفى هذا الصدد أشار الفيلم من جانب آخر الى أهمية تكون الجماعة السيكلوجية، التى تربط أفرادها روابط عاطفية ومهنية، أذ أنها هى القادرة لى أن تشد أزر الفنان وتخفف من عزلته، أضافة الى أنه يجد لديها صدى عمله فى جو من الأمان النفسى. هذا ناهيك عن تأكيد الفيلم على ضرورة الالتزام بمعايير الأداء والحزم والتدريب والجهد فكلها مسائل لا تقبل الجدل، فيما يخص نمو البذور الفنية الكامنة فى طبع الانسان.
التوتر الوجدانى والثقة فى النفس وتقبلها:
وقد أضاء لنا الفيلم السمات التى تميز شخصية المبدعين. فقد اختار صانعوه التلاميذ، الذين قدموهم لنا وممن يعانون قدرا من التوتر النفسى أو الوجدانى، نتيجة خلل فى الأوضاع الاجتماعية( زنجى، بورتوريكى، يهودية…) أو خلل فى الأوضاع الأسرية(الشاذ الذى ولد لأسرة وهمية وراقصة البالية التى لا يحس بها أبوها، ناهيك عن زوجة أبيها..) وكشف لنا عن ميل المبدعين الطبيعى الى الانطوائية(برونو – مونتجمرى – دوريس..).
لكن الفيلم كشف من جانب آخر عن ضرورة أن يصاحب هذا القلق الوجدانى والانطوائية سمات النفسية كالثقة فى النفس والاكتفاء الذاتى. ويتجلى ذلك بأوضح الصور فى شخصية برونو( ربما مع ميل الى المبالغة) الذى يعتقد أنه أوركسترا، وكوكو التى ترى أنها تضيع الوقت فى المدرسة انتظارا لفرصة.. “والنصاب البورتوريكى” الذى يعتقد أنه فنان متفرد بمجرد العزف على صفارة.. ولم يكن هناك من ظل هذا الملمح كامنا فى شخصية غير دوريس اليهودية. وأن كان سعى أمها للتباهى الاستعراضى بالفتاة قد عوض هذا القصور إلا أن حالة دوريس كشفت من جانب آخر. إن عدم تجلى هذا الملمح ليس نقصا قدريا أذ أن أصوله الديالكتيكية موجودة، الأمر الذى يجعل تجليه ممككنا، وبالفعل باتت دوريس تعمل على تأكيد ذاتها، بعيدا عن تبعيتها لأمها وليهوديتها.
هذا كما ظهر التلاميذ غير هيابين من الجهر بتردى أوضاعهم الاجتماعية والأسرية أو دوافعهم وانفعالهم (البورتوريكى -الزنجى – الشاذ…). غير عابئين أو خائفين مما يمكن أن يوجه لهم من سخرية. ولولا هذه الثقة وهذا التقبل للنفس لتحول القلق الوجدانى الى مرض، الأمر الذى لم نحسه حتى فيمن يتردد على طبيب نفسى(مونتجمرى الشاذ) اذ يبدو هو الآخر متقبلا لنفسه.
تحقيق الذات والقلق الوجودى:
هذا كما أضاءت شخصيات الفيلم المنبع أو الحافز الذى يدفع المرء الى عالم الابداع وأن استطعنا القول بأن الابداع يصدر عن التسامى والاعلاء (أى عن تحويل الطاقات الغريزية والرغبات الطفيلية والصراعات اللاشعورية الى أعمال ابداعية) وذلك عند برونو( الأوركسترا البالغ الانطواء) أو عن تعويض الاحساس بالنقص كما فى حالة كوكو (7)(ضامرة الصدر) أو مونتجمرى ( الشاذ) فلا يمكن الا نرى فى الأبطال جميعا سعيا جادا الى تحقيق الذات، مهما اختلفت السبل الى ذلك، والا نرى العناق الخلاق للقلق الوجودى يغمر جوانب حياتهم كلها( خذ دوريس أو رالف كمثال..).
والتطرق الى شخصيات الأبطال كل على انفراد اغراء ممتع كما يتضح من الجوانب التى تناولها التحليل فكثير منها حكايات مؤثرة مشحونة دراميا إلى أقصى حد، على قلة وسرعة المشاهد التى تناولت هذه الحكايات… خذ مثلا السائق والد برونو وتضحيته فى سبيل نبوغ ابنه، أو مأزق مدرس الموسيقى الذى عاش عمره يربى العازف وهو يشهد هجمة الألكترونيات بامكانياتها الجبارة، أو برونو الذى يلغى العازف بأورجه ويسعى فى نفس الوقت الى أن يصبح عازفا، أو البورتوريكى الذى يعيش من جسد أمه وأحلامه الفنية الهشة أو سهلة الانهيار.. أو خذ نظرة مدرسة الرقص – التى يبدو أنها كرست حياتها كلها للرقص – للفن… أو خذ حكاية ليروى الزنجى أو مدرس الدراما، أو مدرسة اللغة الانجليزية، أو أم دوريس ودميتها تتمرد وتسعى الى تحقيق ذاتها.. أى اغراء ممتع حقا غير أن اعتبارات الحيز تضطرنى الى الاكتفاء بالاشادة ببراعة مبدعى الفيلم لتمكنهم من جمع كل هذه الثمار الدرامية الناضجة من خلال مشاهد سريعة، على شجرة موضوعهم الخصب، مع التوقف قليلا عند تناولهم الانسانى للشخصيات بصورة تحسب لهم ولاتساع أفقهم بلا جدال..
لقد قدم لنا الفيلم شخصية المدرس بعيدا عن الهالة المثالية أو الشخصية التى تقوم بدورها بحذق كومبيوترى أو روبوتى، فقد كان المدرسون جميعا شخصيات انسانية فيها ما فيها من مثالب، حركة بالقصور الذاتى، الى جوار ما فيها من تفوق مسلم به طبعا.. وسنكتفى بالاشارة الى بعض السلبيات اذ أن توفر الايجايبات فى مدرس بمدرسة فنية أمر مفروغ منه.
فمن المشاهد الأولى للاختبار نرى زنجية فى شبه شجار مع مدرس الدراما تتهمه فى أخلاقياته، كما نرى اللقطة المتحاملة التى يقول فيها مدرس الموسيقى لزميلته لا أدرى أن كان – يقصد برونو – يود أن يصبح موسيقيا أو طيارا تجاريا!! دون أن يكون قد حدث ما يبرر هذا الموقف العدائى من برونو.. بل يبلغ الأمر حد اعتراف المدرس بالمثالب المهنية وعدم الاكتفاء بالمثالب البشرية وحدها فى مشهد رد مدرسة الرقص على ليزا فى صراحة تحسد عليها والمدرس يخطئ أيضا… غير أن قمة الخلل تتمثل فى القصور الذى أبدته مدرسة اللغة الانجليزية(رمز المدرسة الأكاديمية) فى التعامل مع ليروى الزنجى (فطرة الابداع)، كمربية لابد وأن تتفهم حالته بدلا من تشويهها.. لقد كان توحش ليروى فطريا وكان بحاجة الى من يمد له يدا ذكية، لكنها تتخذ منه دوما موقف التعريض والعداء(من الحديث عن الزنوج، الى الحديث عن “البلاى بوى” وحتى الحديث عن عطيل..) وبأسلوب تربوى غير حصيف محوره التهديد دوما بالطرد..
وطالما دار الحديث عن ليروى فلا بأس من الاشارة الى أن الفيلم قدم لمسة تحسب له فى عدم الانسياق وراء الكليشيهات المستقطبة.. لقد وقف ليروى المتوحش مبهورا أمام راقصة البالية الارستقراطية وهى تؤدى تمرينها الذى يبدو أنها رتبته لا لشئ الا للاختلاء بليروى.. فهى اذ تنهى رقصتها تغمز له ليتبعها الى حيث يختليان.. وفى الثرثرة التى كانت تدور خلال تدريب الرقص تتحدث الطالبات عن ليروى فيرتفع صوتها حسكن عينكن أنه محجوز!! المشهد النقيض لاكليشيه الزنجى الشبقى المتوحش. ثم خذ علاقة ليروى الزنجى بالمدرسة البيضاء التى يصل التناقض فيها الى حد الصدام البدنى وفى نفس الوقت علاقة ليروى مع زميلته الارستقراطية البيضاء بما فيها من قبول والتقاء وآنسجام الى أقصى حد..
بقى أخيرا أن نشير الى ما صوره الفيلم من أن مصير الفنان بعد الموهبة والجهد والكد والتفانى والتفوق(كما هو الحال مع ميشيل الذى اضطر بعد ذلك الى العمل ساقيا) رهن بظروف عديدة يتشابك فيها ماهو بيولوجى (حمل راقصة البالية – ومن أسود – وربما الاختيار بين الفن والأمومة) وما هو اجتماعى ( قد تقبل مدرسة الانجليزية ليروى كما حدث فى المشهد الأخير بينهما لكن قبولها شئ وقبول المجتمع شئ آخر، وقد أشار ليروى بالفعل الى ذلك فى نفس المشهد) وما هو نفسى( هذه الانطوائية الشديدة من جانب برونو)..
كلمة إلى نادى السينما
مهمة الناقد بين المبدع والمتذوق:
ولا بأس فى النهاية من أن نستغل فيلما تناول عالم الابداع الفنى بهذا النضج فى الاحتفاء بمؤسسة رائدة(عمرها 16 سنة)، نحاول بلا كلل النهوض بالذوق السينمائى فى بلادنا.. احتفاء واعيا يتخطى أوهام التصفيق الساذج الى آفاق تستوعب الحوار والخلاف والنقد والمراجعة، فى سبيل التطور…
وما يدفعنا الى ذلك ادراكنا أنه اذا كان للسينما فى بلادنا مشكلة فان النصف الأصغر من هذه المشكلة هو الذى يدور حول الخلق والتوزيع، ويغطى مشاكل الابداع والتجارة والصناعة، ذلك بينما يدور النصف الأعظم حول جانب التذوق، ونقول النصف الأعظم لأنمه يشكل صمام الأمان الذى يتحكم فى مستوى حل كل مشاكل النصف الأول…
وهذا التصور يجعلنا نعلى من شأن نادى السينما أذ أنه يلعب دورا بارزا بين المؤسسات الشبيهة. ويشجعنا أكثر على الاحتفاء: الحوار أن النادى أخلص دوما فى الدفاع عن القيم الفنية والثقافية، بل وامتد حماسه فى بعض الأحيان ليشمل ما يحيط بها من قيم عامة.. أى أننا أمام دور نحن فى أمس الحاجة اليه ومؤد يطوى بين جوانحه قدرة على المساهمة بنصيب كبير فى هذا الدور..
أن الظروف التى تحيط بالنادى مع الاغارة التجارية تتطلب من كل مثقف جاد العمل على دعم النادى وحمايته حتى من أخطائه فالاغارة التجارية لا تتيح لنا ترف التفريط فى الاستفادة وبأقصى حد من كل ما يتسرب من شروخ لم تزل قائمة فى جدار حصار فن السينما…
ولاجدال فى أن التفات النادى الى فيلم شهرة يحسب له، الا أن ما جاء فى نشرة النادى – بعد أسبوعين من عرض الفيلم – من تحليل يفترض فيه السعى الى تربية الذوق السينمائى لا يمكن أن يعد الا بين المحاولات المخفقة التى لا تسمح لنا ظروف الحصار التجارى بترف تكرارها.
فحين يقرأ المرء تتابع المشاهد – كما جاء فى النشرة ـ لابد وأن يشفق مقدما مما سيكون عليه التحليل، نتيجة لما أغفله الناقد من مشاهد هامة، ناهيك عما شاب مشاهد أخرى كثيرة من التعميم والخلط وافتقار دقة التلقى..
وبالفعل يتعزز اشفاق المرء حين يقرأ التحليل… فبعد مقدمة شخصية (8) تحسب على الناقد، جرنا الى مسألة مدرسية لا نعتقد أن لها هذا القدر من الأهمية، بالذات أن جاءت على حساب تحليل الفيلم، وكانت بالأسلوب الفج الذى جاءت به. لقد اختار الناقد تعريفا ليقيس عليه اذا ما كان الفيلم موسيقيا أم غير ذلك، ليمضى توا فى تبيان قصور التعريف (!) الذى اختاره هو نفسه (!) ثم انزلق الى تنظير حول الفيلم الموسيقى التعبيرى والواقعى والانطباعى لا يرتبط بالفيلم وليس مكانه النشرة – نكرر بالذات أن كان على حساب العمل الفنى – وقد سيطر هذا المدخل على تحليل الفيلم واستغرق نصف المساحة المخصصة له ساهم فى اضطراب التحليل أن لم يكن تهافته…
ويمكن للمرء أن يستشف ذلك من التعسف والخلط والتبسيط الذى شاب كثيرا من المواضع فالناقد يطلع علينا بأن السنوات الأربع من حياة الطلبة هى بمثابة المراحل التى يمر بها أى عمل فنى. فهو غالبا ما يكون فى بدايته مجرد فكرة أو عدة أفكار مضطربة يحاول أن يسيطر عليها الفنان بالمعايشة والرعاية والتهذيب والصقل الى أن تتجسد فى الشكل النهائى الذى يرضى عنه الفنان(!). وبأن الخلق الفنى هو موضوع الفيلم الأساسى ثم يعود بعد سطور الى القول بأنه يطرح قضية هامة بالنسبة لهذا النوع من فنون الأداء التى يرى مخرج الفيلم أنها تختلف فى طبيعتها عن فنون الخلق(!!) أو القول بأن كل واحد من هؤلاء الطلاب الثمانية يمثل عنصرا من المعاناة والصعوبات التى يمر بها الفن حتى يصبح حقيقة فنية قابلة للاقناع والامتاع(!!) الى التسطيح الذى يعود ويتناول به الأمر اذ يقول ثمانية نماذج لجنسيات متنوعة تعيش فى مدينة نيويورك التى تمتلئ بحوالى أثنى عشرة جنسية(!!) وكل واحد له أسلوبه فى تحقيق الحلم الأمريكى(!!) أو يقول أن كل واحد منهم يحاول أن يؤمن نفسه فى الحياة بالشكل الذى يراه(!!).
ماهى ياترى العناصر الثمانية التى يمر بها الفن حتى يصبح قابلا للامتاع والاقناع؟ وما علاقة ذلك بالجنسيات؟ وعن أى جنسيات يتحدث الكاتب؟ ولماذا 8 بالذات من 12؟ ولماذا 12 بالذات؟ وأى حلم أمريكى يحاولون تحقيقه؟ وأى محاولة لتأمين النفس فى الحياة؟ وأى خلط بين تربية الفنان بالشكل الذى فصله الفيلم والعمل الفنى؟… وما علاقة هذا كله بالفيلم؟..
اضطراب وتهويم يبعدان بنا عن الفيلم ويقودان فى النهاية الى تهافت التحليل. واذا سلمنا بأن للنقد ضرورة بين الخالق والمتذوق فأى دور يمكن أن يكون له الا العمل على زيادة ضفاف العمل الفنى رحابة؟ أما أن يجئ الناقد ليقزم العمل ويسجنه فى قمقم ويحشره بحشد من أسماء الأفلام والمبدعين والحكايات، فيما لا صلة له بزيادة عملقته – أو تقزيمه – بصورة طبيعية، فيما يشبه التهويش النقدى، وراء دعاوى الموسوعية – وهى بالمناسبة غير الموسوعية – فان الأمر يبدو فى النهاية وكأن الناقد لا يدرك قيمة ما فى يده من أدوات مما يجعله يعتمر حذاء وينتعل قبعة، ومن الأفضل آنئذ أن يخلو الجو بين ثقافة، بل وفطرة المتلقى، وبين الخالق.
[1] – لكثرة عدد الأبطال سنضيف الى أسماء بعضهم صفات مميزة، وذلك لسهولة المتابعة، ناهيك عن أن هذه الصفات لا تخلو من دلالة فى اتصالها بأحداث الفيلم .
[2] – ناهيك عن المفارقة الأعظم التى نستشفها قرب نهاية الفيلم حين نفهم أن المهمة التى يؤديها أبو رالف للدولة هى تنفيذ حكم بالسجن عقابا على جريمة ارتكبها، وأن أمه تتعيش – وتنفق على رالف وأختيه – من جسدها.
[3] – ركزت الكاميرا على آلة موسيقية ضخمة فى حجم حاملها هى الـــ “تشيللو”.
[4] – طالعتنا مثل هذه المفارقات منذ البداية على لسانه وهو يقول ان أباه يؤدى مهمة للحكومة واكتشفنا فيما بعد أن المهمة هى تنفيذ حكم بالسجن ثم وهو يقول لدوريس أن له علاقة بفتاتين وكان يقصد اختيه..
[5] – بعض الأبطال اختيروا لتمثيل الفيلم خصيصا وهم يظهرون على الشاشة للمرة الأولى..
[6] – الفيلم فى جزء كبير منه يكاد يكون مشاهدا تسجيلية فى مدرسة فنية…
[7] – منذ المشاهد الأولى ركزت الكاميرا على كوكو وهى تكشف كتفها عمدا من فتحة الثوب الكاسى، وذلك خلال الغناء والرقص، ثم جاء حادث عرضها العمل كوكيلة لبرونو لينتهى الأمر الى طلب خلع بلوزتها أمام الكاميرا .
[8] – مشاهدة الفيلم أكثر من مرة
1983-10-01