29-8-2012
تعتعة الوفد
دبّرنى يا وزير، “التدابير لله يا ملكِ”
منذ 31 عاما نشرت هذه “القصة السياسية” فى مجلة فصلية مجهولة تكاد تكون نشرة خاصة لرئيس تحريرها (شخصى) ولم تكن تصل إلا لبضع مئات على أحسن الفروض، (مجلة الإنسان والتطور يناير 1981)، ثم بعد ما يقرب من عشرين عاماً، حدث التغيير الوزارى الشهير (أكتوبر 1999: إقالة د. كمال الجنزورى وتكليف د. عاطف عبيد)، فقفزت هذه القصة إلىّ من جديد تلح للنشر على مجال أوسع، لأنها كانت مطابقة لما حدث برغم غموضها، ولم تنشر. إما نتيجة لخوف المسئول أو غموض النص.
وتمر عشر سنوات أخرى، ثم نعيش هذا الاحتقان، فالغضب فالانفجار، فالفرحة، فمشروع ثورة، فمحاولة بناء دولة ديمقراطية أقل تشوها وبرئيس جديد، وجنزورى معدّل، ثم وزارة جديدة، وإذا بى أفأجا بالقصة تعاودنى هى هى، وكأن شيئا لم يكن،
فزعت وأنا أعيد قراءة نفس “النص” لأجده أكثر تطابقا وهو يتكرر فى ظروف أصعب، وينذر بنتائج أخطر.
حمدت الله أن الوفد مازال قادرا على تحمل قلمى منذ 1984 حين نشر لى مقالا بعنوان: “يوميات ناخب حزين” بمناسبة ما لاح من أمل فى انتخابات 1984، وحتى اليوم وهو يسمح بنشر ما منع، برغم صعوبة رموزه إذ يحتاج إلى قدر من العلم بقواعد لعبة الشطرنج، وأن تكون لدى القارىء قدر من التلقى المبدع يسمح له بالتنقل بين قطع الشطرنج واللاعبين والواقع الحى، حتى ولو اضطُّر إلى اللجوء إلى التفكير التأمرى ليفهمه. عذراً !
****
المتن: (1981 – 2012)
ـ 1 ـ
دخلت الطفلة حديثة العهد بالمشى إلى حيث كانوا، فراقها منظر الصفوف المتراصة، فأخذت تتأمل الجميع، إلاأنها سرعان ما ضجرت من أن أحداً لا يتحرك من مكانه، وتذكرت أيام أن كانت مُقعدة بلا حول، فمدت يدها تحاول تحريك الجمود فإذا بالجميع ينطرحون أرضاً، فزعتْ فى البداية ولكنها عادت تتأمل آثار ما كان، واحتارت: أى منهم استلقى على قفاه، وأى منهم انكفأ على وجهه، لم تطل حيرتها إذ أنها سمعت صوت أقدام ثقيلة تقترب، فانزوت فى الركن الأبعد.
ـ 2 ـ
حدث ذلك بعد فترة قصيرة من تلك الأحداث التى يذكرها أهل الاختصاص فى ترتيب رتيب، وينساها سائر الناس وكأنهم يفعلون ذلك بقصد عنيد، والأمر لا يحتاج إلى تكرار الرواية، لكن للتاريخ مطالب غير مفهومة، فتم تحديد المواقع ومراجعة الأدوار السابقة، والتأكيد على ضرورة سلامة البدايات حتى لو كانت محفوظة، وكان فى مقدمة الصفوف جنديان اثنان، وعلى الرغم من أنهما كانا من لونين مختلفين إلا أن الاتفاق كان أن يكونا معاً حتى تلحق بهما ـ أو بأى منهما ـ سائر القوات كما تقضى الأصول.
قال الملك للوزير:
ـ دبرنى يا وزير.
قال الوزير:
ـ التدابير لله يا ملك.
سأل الملك فى استطلاع:
ـ ألا نبدأ الآن؟.
قال الوزير فى أدب ظاهر:
ـ عفواً يا مولاي.. الأسود يؤخَّر فى العادة.. هكذا الأصول.
بدت على الملك بعض علامات الاستياء وعلق قائلاً:
ـ ولكن لِمَ لَمْ تقل لى ذلك من الأول لأغير لوني؟. ألا تعلم أنى أحب المبادأة لأمسك بزمام المواقف؟.
مال الوزير عليه وكأنه يسر إليه:
ـ ليطمئن جلالتكم، فلقد تلقينا وعداً أن الذى يلعب أخيراً يكسب أكيدا.
هز الملك رأسه، ولكن يبدو أنه لم يقتنع تماما، تأكد ذلك لأن شفتيه كانتا قد مُطَّتا بدرجة طفيفة لا يلحظها إلا متخصص، غير أنه قال:
ـ الأمر لله، قل له يبدأ من فوره.
التفت الوزير إلى الناحية الأخرى ونادى صائحاً:
ـ يا أهل الديار… الدور عليكم.
ـ 3 ـ
نظر الجنديان إلى بعضهما البعض وأخذا يعزمان على بعضهما البعض بالبداية، لكن أحداً منهما ـ يبدو من فرط الذوق أو الخوف أو بعد النظرـ لم يتقدم خطوة واحدة، وساد صمت مثير.
ـ 4 ـ
وكان أن همس فارس الميمنة لجاره:
ـ أين نحن الآن؟.
رد الجار الفيل الثقيل الحركة فيما يشبه الجد:
ـ فى الميريلاند.
احتد الفارس قائلا:
ـ لا مجال لسخريتك فإنى جاد.
ـ لتكن جادا أو عبد ربه، فليس للسؤال السخيف إلا جواب أسخف منه، ألا ترى أين نحن وأنت أدرى الناس بالجاري؟.
ـ إنما سألت لأقطع هذا السكون الثقيل.
ـ أنت الذى تقول هذا؟ مع أنك تستطيع أن تقفز بفرسك فى أى وقت فوق أى حاجز، ألا تدع الهم لأصحابه من أمثالى ممن لا يستطيع أن يتحرك إلا إذا تحرك العسكر من أمامه.
رد الفارس فى زهو اليائس:
ـ لو كان الأمر بيدى لقفزت إلى الوسط وحطمت كل هذا الركود بتضحية شخصية.
ـ 5 ـ
اشرأبت عنق الجار ذات اليمين وذات اليسار وعاد يهمس للفارس وكأنه لا يصدق:
ـ خيبتك قوية، لقد انتهى الدور.
استشاط الفارس غيظاً وتساءل رفضاً:
ـ متى كان ذلك ونحن لم نبرح أماكننا أصلاً؟.
ـ هذا هو ما كان.
ـ لعلها إشاعة.
ـ انظر… ملك الخصم ليس فى الميدان.
ـ كيف؟ هل كَشَّ؟ ماتْ؟.
ـ لا بل يبدو أنه غير موجود منذ البداية.
ـ ماذا تقول يا مخّرف… لا يصح اللعب دون وجوده، وإلا فمن يحمى مَنْ؟ ومن يهاجم مَنْ؟.
ـ ليس هذا شأنى، وعلى كلٍّ فالدور قد انتهى حقيقة وفعلاً.
صاح الفارس فيما يشبه الصراخ:
ـ هذا عبث فى عبث، دور باطل… باطل.
هز الجار غليونه المتدلى وتلفت فى بطء خشية أن يسمع أحد الصراخ وحاول تحذير جاره، لكنه قال:
ـ لن يجدى الصراخ…، لا أحد، فالآذان لها حوائط.
– بل العكس
– وأيضا العكس
استمر الفارس فى صياحه.
ـ باطل… باطل.. زواج عتريس من فؤادة باطل.
قال الجار فى أسى ظاهر وغليونه يتحرك مع خروج كلماته:
ـ “جن الفارس من فرط الركود يا رجال”.
ـ 6 ـ
وكان أن تقدم الوزير الأسود ممسكاً بيده صحيفة ملفوفة على هيئة قرطاس حائل اللون، ومال على الملك وقال:
ـ والآن.. الأمر لجلالتكم.
نشر الملك القرطاس أمام عينيه بعد أن ارتدى منظار القراءة المدلى فى سلسلة حول رقبته ونظر فيما يحوى القرطاس ورد فى حدة:
ـ ماذا تعني؟ حتى لوصحَّ كل هذا فأنا مالي؟.
رد الوزير فى فداء مشروط:
ـ نحن جميعاً فداك يا مولاي.
قال الملك فى اطمئنان خائب:
ـ هذا هو… هذا هو… ليكن.
شكره الوزير وهم بالتراجع بظهره، ثم انحنى تحية نصف نصف، وفجأة زادت انحناءته حتى لامست جبهته ـ مع كل الجباه وبعض الأقفية ـ وجه الأرض.
ولم يلاحظ أحد أن ذلك كان إثر دخول الطفلة الحجرة كما ذكرنا.
ـ 7 ـ
اقترب وقع الأقدام من مسمع الطفلة فازدادت احتماءً بالركن الأبعد.
ـ 8 ـ
دخل الرجل الكبير إلى حيث كانت المعركة، فراعه منظر الدحرجة والخلط والضياع وكل الجباه وبعض الأقفية على الأرض.
أخذ يزفر وهو يكلم نفسه: “لعن الله أبا الكل، من فعل هذا يا أوغاد، ألا أستطيع أن أكمل دوراً واحداً فى هذا الجو الزائط”.
ـ 9 ـ
ازدادت الطفلة انزواءً وانكمشت على نفسها حتى كادت تختفى بين ثنيات كرانيش الفستان القصير.
-10-
عاد الرجل إلى صياحه: “والأدهى يا كلاب أنى لا أعرف كيف كان وضع القوات قبل وقوعها، ثم إنى لا أذكر من الذى انتصر على من… رغم أنى ألاعب نفسي”.
ـ 11 ـ
اهتز جسد الطفلة من فرط محاولاتها الإمساك عن الضحك، ثم تسحبت فى صمت وهى لا تتمالك تمام سيطرتها على نفسها حتى كادت تخرج (وفى رواية أخرى: خرجت) منها قهقهة مكتومة أشبه بآثار صوت قُلة تتدحرج على أرض طينية دون أن تـُكسر، لكن الله ستر فلم يسمع الرجل شيئاً إذ ظل يروح ويجئ فى سخط باد، فاستمرت الطفلة تتسحب كاتمة ضحكتها أكثر حتى انصرفت بسلام تماماً.
-12-
توقف الرجل طويلاً ناظراً إلى فلول القوات ثم جلس فى تصميم جديد وأخذ يعيد تنظيم الصفوف وكأن شيئاً لم يحدث.
قال الملك للوزير:
ـ ماذا يجرى يا وزير؟.
قال الوزير فى يقين:
ـ دور آخر يا مولاي.
قال الملك فى فتور:
ـ الدور الأول لم ينته يا وزير.
قال الوزير فى رتابة:
ـ بل انتهى بفوز جلالتكم.
قال الملك:
ـ إذن لماذا لم تظهر على جلالتنا آثار الفوز؟. هه؟.
قال الوزير:
ـ منعاً للحـسد يا مولاي.
-13-
لكن الملاحِظ المتخصص كان يمكن أن يلاحظ أن عين الوزير زائغة وكأنها تغمز لشخص آخر لم يظهر بعد، لكن يبدو أن الوزير كان على يقين من قدومه.
-14-
قبل أن يحل المساء وتختفى المعالم بين الداخل والخارج شوهدت الطفلة وهى تتلصص من ثقب الباب وهى لا زالت تكتم ضحكتها.