نشرت فى مجلة الهلال
عدد يونيو 2005
دائرة حوار وعى المجتمع والإرهاب
(فراغ جاهز للتفجر)
لكى يقتل إنسان شاب إنسانا آخرا لا يعرفه أصلا، لابد أن تتوفر ثلاثة شروط على الأقل (ربما فى طبقة أعمق من مستويات وعيه)، أولا: أن يعتبر أن ضحيته ليست من نوعه (النوع البشرى “الخاص!”) ثانيا: أن يكون القتيل شخصيا (أو بما يمثله)، مهدِّدا لوجود هذا الصبى القاتل (هو أو من يمثله) ثالثا: ألا تكون أمام هذا الصبى (أو الصبية) وسيلة أخرى للتعبير عن رعبه من الهلاك من جهة، وحرصه على الحفاظ على بقائه (أو بقاء نوعه الخاص) من جهة أخرى.
فى دراسات العدوان عند الإنسان (بما فى ذلك الحروب الحديثة تحت أى عنوان) تعجب الدارسون مما تميز به عدوان البشر على بعضهم البعض دون سائر الأحياء، ذلك لان النوع البشرى هو النوع الوحيد الذى يقتل بنى جنسه لأسباب غير بقائية أو غير تطورية يستوى فى ذلك السيد دبليو بوش وهو يفخر بفاعلية قنابله الذكية، أو بؤساء شبابنا وهم يفجرون أنفسهم فى الأزهر أو السيدة عائشة أو من أعلى كوبرى 6 أكتوبر. لا نريد أن نعمم القضية حتى لا تضيع ملامحها أو نتخلى عن مسؤوليتنا؟ دعونا نتساءل: كيف وفرنا لهؤلاء الصبية هذه الشروط الثلاثة حتى حدث ما حدث وما سوف يحدث؟
فى محاولة التقليل من الفزع من الأحداث الإخيرة، وفى نفس الوقت الاعتذار عنها، وربما تبريرها ارتفعت الأصوات تحجم آثارها وتقلل من دلالة الذى جري، وهى تصف الحادثة بأنها: فردية، عائلية عشوائية، هذه الصفات الثلاثة هى هى التى تنبه إلى خطورة دلالة ما حدث، لأنها تؤكد كيف أنها النتاج “الطبيعى” لمناخ عام أفرزها، برغم أنها لم تصل فى تواترها وتكرارها إلى ما يسمى الظاهرة. إن جذور ما نسميه التطرف فالإرهاب تمتد أساسا إلى بداية التعصب الذى يفصل فئة بذاتها عن جموع البشر وهى (هذه الفئة أو الفرقة) موهومة بالتميز أو التفوق أو التفرد، ناهيك عن احتكار الحقيقة، فالجنة، مرورا بالوصاية على رحمة الله سبحانه وتعالى.
أساتذتى المرضى:
أبدأ من البداية: من منطلق حرفى أساسا: علمنى مرضاى أننى لا يمكن أن أحترم موقفهم إلا إذا وضعت نفسى موضعهم، وهو موضع صعب بحق، إذ كيف يمكن – مثلا – أن أتقمص من يعتقد أنه ربنا سبحانه؟ لكن من يريد أن يتعاطى هذه المهنة بجدية مسؤولة؟ عليه أن يحاول كل ما هو صعب احتراما لمرضاه، آملا فى شفائهم مهما كان الثمن، من هذا المنطلق، ودون قصد واع، وجدتنى أمارس نفس النهج مع الأسوياء، وقد يظن القارئ أنها مسألة أسهل، لا، أبدا، فكثيرا ما أوقعـنى ذلك فى الحرج، مع نفسى غالبا، ومع غيرى أحيانا، ثم من أين لى أن أزعم أننى نجحت فى تقمصهم مع احتمال أننى لا أفعل إلا أن أسقط عليهم تصورى عنهم؟
أدت بى هذه المراجعة إلى رفض فتعرية ما يزعمه أغلبنا من ادعاء قبول الآخر، وقد كتبت فى ذلك مرارا منبها إلى ضرورة التفرقة بين الأساليب السطحية لما نسميه قبول الآخر مثل:
(1) التفويت المبتسم و (2) التحمل الظاهرى و (3) التأجيل المناور و(4) الإنكار النعامي، وغيرها.
وبين عمق جدل وعى بشرى بذاته مع وعى بشرى آخر (لا مجرد الحوار والمناقشات). إن التمثيليات التى نقوم بها على صفحات الصحف، وفى ندوات حوارات الأديان، وأحيانا حوار الحضارات أو الثقافات، قد تكون مسؤولة بشكل أو بآخر عن مزيد من نفى الآخر وليس قبوله، إننا لا نستطيع أن نضحك على الوعى البشرى الأعمق من خلال تسويق كلمات حسنة النية ظاهرة الطيبة. علينا أن نتعرف بهدوء عن الفرق بين هذه النشاطات المعلنة، والخطب الرنانة وبين ما يجرى فى حصص الدين، وداخل دور العبادة، ثم فى التجمعات الأصولية الأكثر عمى وحماسة، هو فرق شاسع. هذا الفرق هو مسؤول عن حالة النفاق التى وصلنا إليها، والتى تصل إلى عمق وعى أولادنا فلا يعودون يصدقونا، ثم هم يتمادون فيما وصل إليهم من داخلنا حتى يلغون كل من ليس مثلهم (مثلنا) بما يترتب عليه من رعب من “الآخر” المختلف، وكأنه نوع آخر من الأحياء يهدد نوعي، وليس فقط فرقتي، ومن ثم تقفز ضرورة التخلص من هذا “الشيء” الغريب الذى أصبح – بإلغائه – خطرا على بقائي، نتخلص منه فرادى (بالإرهاب) أو جماعات (بالحروب).
إبنى الكاتب، وطفلى العابث:
هل يمكن أن نتصارح بحق ونحن نغوص فى جوهر المسألة لعلنا نتعرف على جذور عمق تعصبنا “الطبيعى”؟، لعلنا نقبله ثم نحترمه، ثم نفهمه، ثم نروضه، ثم ننمو من خلال ما يمكن أن يكون؟
أبدأ هنا من موقف شخصى، اقتداء بابنى محمد يحيى الرخاوى فيما نشره فى مجلة سطور مايو 2005، ليس فقط لإقرارى ما قال، وهو فى نفس الموضوع، ولكن أيضا فى محاولة التعرف على كيف وصله ما وصله من أب مثلى، ويا ترى هل وصل لإخوته مثل ذلك، كل بطريقته، وكيف نجحنا: أمه وأنا والمجتمع الصغير المحيط بنا أن نقلل مما كان يمكن أن ينتهى إليه من تعصب أو انغلاق. لا شك أننى عايشت هذه المشكلة التربوية بتحد حقيقى ليس بصفتى الحرفية أو الأكاديمية، وإنما بصفتى أبا مسؤولا مع أمهم لا أكثر، ربما من هنا جاءت فرحتى بمقال محمد حتى استلهمته فى كتابتى ما أكتب الآن.
حين كنت أسافر للخارج، وخاصة فى بلد لا أعرف لغتها أصلا (أسبانيا مثلا، أو إيطاليا) كنت أقف مشدوها أمام هؤلاء الناس الظرفاء، أو غير ذلك، وأتعجب كيف يفهمون بعضهم البعض بهذه السهولة مع أنى لا أفهم حرفا مما ينطقونه، قلت لنفسى: حتى الأطفال هناك يفهمون أيضا هذه اللغة الصعبة جدا، بدا لى هذا التساؤل غريبا لشخص يعمل مدرسا بالجامعة فى الطب النفسي، وممارسا يوميا لنفس التخصص، ثم إننى كنت فى منتصف العقد الرابع من عمرى. قدرت من هذه الدهشة الحقيقية أن طفلى بداخلى ما زال نشطا قادرا على مثل هذا التساؤل، وفى نوبة من نوبات هذه الفرحات الصغيرة، حضرنى خليط من الرجز (لا الشعر) تصورت أنه صادر عن هذا الطفل الشقى ولم أتردد فى تسجيله. صور لى خيال هذا الطفل بداخلى ثلة تمارس عكس ما وصلنى من دهشة فرحة، ثلة تحتكر الجنة والحقيقة معا دون تردد، فراح طفلى هذا يردد على لسانهم أغنية راقصة تقول:
“بالسيف حجزنا مقعدنَـا بدليل شهادة مولدنا، فالدينُ الأوحد مذهبنا، و”الأخر” وهمٌ وغباءْ”.
لعل طفلى كان يتعجب مثلى كيف أن شهادة الميلاد هى التى تسمح لهم – لنا – أن نحجز موقعا فى الجنة دون غيرنا هكذا بمجرد ما يثبته الوالدين فى تلك الشهادة (كما ذكر محمد فى “سطور”). لم يقف أمر عبث هذا الطفل الراجز عند ذلك، بل راح يكمل أن ما يدعم هذا التميز الموهوم، بفضل صدفة ما دونه الوالدان فى شهادة الميلاد، هو الانضمام التلقائى لأسرة تعيش نفس المصادفة، ثم الاحتماء بثلة أكبر فأكبر تعمق نفس الموقف، فمضى طفلى يكمل:
“الثلةُ قالتْ ما قلنـَا فتردد فى الصحن المغنَي، وتمايلنا وتوجهنَا: للجنة دون الأعداء”،
ثم لا يقف الأمر عند هذه الثللية الخاصة التى تتباهى بهذا الفخر الأبله، بل يتمادى الأمر إلى التدخل فى الوصاية على رحمة ربنا وجنته يحتلونها دون غيرهم:ولسان حالهم يقول “ما دمتَ مثلى (ولو بالصدفة) سوف آخذك معى إلى جنتنا دونهم”، هذا ما يصل لمثل هؤلاء الصبية من المفسرين سرا وعلانية دون الرجوع إلى رب العالمين، يمضى طفلى العابث فى تعرية هذا الموقف أيضا:
“جاء التنزيل وقال اتبعْْ، فتبعتُُ النصَّّ وما أسمعْْ، وتأرجح فى العقل المضجعْْ…إلخ.”
.. زودها هذا الطفل الشقى حبتين، لكننى حين تأملت العبارة الأخيرة تعجبت أن المضجع هو الذى يتأرجح داخل العقل، وليس العكس، هل كان يعنى ذلك الطفل بذلك المضجع الذى يترجح تلك السكينة المهدهدة المزعومة التى نحشرها فى عقول أطفالنا ونحن نوهمهم أنهم الأفضل والأصح، ثم يبدو أن تلك الحركة المترجحة الثابتة فى المحل داخل العقل هى التى تحل محل حركية العقل النامية الخلاقة؟. أظن أن ما أصاب شبابنا خاصة، ومجتمعنا عامة، هو نوع من التراخى العقلى حتى الشلل، يحدث هذا نتيجة لفرط التسليم المسبق من ناحية، ثم استغلالا لفراغ الوعى المتمادى من ناحية أخرى.
عقل الأطفال الصغير البسيط يعمل فى اتجاه صحيح، ونحن، بإصرار غبى خائف نروح نشوه فطرته بما نحشره فيها من مخاوفنا، ثم نذهب نهزه يمينا وشمالا ونحن نهننه بأغنيات الفخر الزائفة، ثم نتفرج عليه مطمئنين لنجاح الخدعة الجماعية. هذا التمهيد والتفريغ والحشر والخداع هو الذى يؤدى إلى شلل التفكير إلا من نمو أفكار طفيلية حشرت حشرا بديلا عن حركية الفطرة.
الشباب الأصغر أقل مرونة:
علينا ألا نعجب بعد ذلك حين نفاجأ بالفرقعات التى تحدث فى فراغ الوعي/العقل، والتى تتجلى مفعلنة فيما نسميه إرهابا (أو حروبا). لماذا يتزايد هذا الوضع (الفراغ المتفجر) فى شبابنا الأصغر أكثر فأكثر هذه الأيام؟ كيف انتهت الأمور إلى أن تصبح عقول الأصغر أكثر فراغا وأعجز نقدا من الأكبر فالأكبر؟ كثيرا ما يأتى لعيادتى شابات محجبات وأمهاتن سافرات، وهن جميعا فاضلات متدينات كبيرات وصغيرات، لا أميل إلى تفسير ذلك بأن الجيل الجديد أصبح أكثر التزاما وتدينا، بل إنى ألاحظ من واقع الحال أن الأصغر اصبح أقل مرونة، وأبلد تفكيرا، وأخطر فراغا، لا أريد أن أعمم اتهام المحجبات الصغيرات بأنهن أقل تدينا، مع أن ذلك وارد فى ملاحظاتى الإكلينيكية، مثلا: حين أعطى بعض التعليمات (لا الأدعية) فى خطوة من خطوات العلاج المعرفي، وأطلب من الصغيرة المحجبة أن ترددها بعد صلاة الصبح (أو الفجر) وبعد صلاة العشاء، فأفاجأ بأنها غير منتظمة على أداء الفروض، أو أنها لا تؤديها أصلا!! أى والله. لم يعد هناك تناسب طردى حقيقى بين مظهر التدين وبين مدى الالتزام بالعبادات أو ترك المنكر يبدو أن طفلى الراجز قد لاحظ ذلك قبلى إذ مضى – من ورائى – يدندن:
“والمنكر يسرى يتسحب، أستغفر أسهو أستعذب، والغير جهنم فتحسب، لعذاب القبر ونار سقر”
أكتشف سخريته ممن يستعذب المنكر وفى نفس الوقت يخص “الغير” بعذاب القبر ونار سقر.
عودة إلى العيادة مرة أخري: حين تدعو أم مريض عندى لابنها بالشفاء أنبهها باسما أن الأفضل أن تعمم الدعاء أملا فى استجابة أسرع، بأن تضيف لدعائها “هوه واللى زيه” فلا تتردد الأم الأكبر سنا فى فعل ذلك، إلا أن الأصغر سنا يضفن من عندهن “هو والمسلمين”، فأوقفهن متسائلا، و”النصارى بلاش يخفوا”؟ ماذا حدث للأصغر عندنا بالضبط، ماذا فعلنا بهم؟ وكيف الخلاص؟
حين انتبهت لعبث الطفل بداخلي، هذا الراجز الراقص، كنت أمسك بمذياع صغير ترانسستور، وكان إصبعى يعبث بمفاتيحه فأتذكر طريقتى الخاصة فى كسر التعصب والانفتاح على العالم أثناء سفرى للخارج، فيستيقظ فى الشاعر ردا على رجز طفلى قائلا:
” …غصبا صدفهْْ، لمست إصبعىَ المفتاحْْ فسرَتْ كلماتٌٌ عجميهُ، تنسابُُ إلى عمق النبضهْ، تنتزعُ السيف من الغمد، تلتهمُُ ظلامََ الرؤيةْْ، يتبين خيْطى من خيطِي، فيطلُ الفجَرُ الأصدقْْ، يجتمع السامرُ من أحبابِ الله، البيضُ السمرُُ السودُ الحمرْ، البيذقُ والفرزُ ورُخُ الشاهْ”.
ييدو أن طفلى قد فرح بهذا الحوار فراح يكمل راقصا معى طالبا منى أن أعيد وكأننا فى حفل طروب، راح يغنى بدوره:
يا فرحى هاتِ من أوّل يا سعدى ما عدتُ الأوحدْ، يا أنسى بالناس الأبعدْ، يا رعبى من رغدٍ مفردْ”.
هكذا تكسرت موجة التعصب المتشنج من خلال حوار صامت مع مذياع صغير:”
تنكسرُ الموجةُُ تتفترْْ، تترنح من طعن مؤشرْْ، تتقدمُُ حورُُ الأرضْ، يرتفع صرير المزلاجْْ، يتراقص سهم الأفق يفتِّح وعْـىَ المرتجف الأعشي، فيريه العالمَ: رؤية يقظانٍ كالنائمْ: مذياعا مُلـقي، فَى حجم الكف، يجمعنا جمّعا فى نفس الصف، تمطرنا الرحمة، والواحد ألفْ”.
أطمئن إلى نهاية اللحن لصالح هذا الانفتاح فندعو سويا -أنا وطفلى – أنه
”… يارب الناس، ملك الناس، إله الناس، أحشرنى معهم: كل الناس” يصادق الشاعر فىّ على ما قلناه فيعلن أنه: “تتفتح أبواب الرحمة دون استئذان: للسمر الصفر البيض السود لكل الألوان: للفيل الأبيض، والسنجاب الأزرق، والإنسان”
البيت بيتك:
فى برنامج “البيت بيتك” منذ أسبوعين تقريبا سألنى المذيع الشاب عن التفسير (النفسى لما حدث). أنا عادة أنزعج من هذه الصفة (النفسي) التى تلصق بمعظم الأسئلة التى توجه إليّ، مع احترامى لمبرراتها، وذلك خشية الإسراع بالتشخيص فالتبرير فالنصائح ودمتم، أجبت الإبن السائل بأن المسألة أعقد من أن نعزوها إلى سبب بذاته، أو نفسرها بحالة نفسية محددة، ناهيك عن الإسراع بالتشخيص والتحليل، قلت له إن أمى كانت تعلمنا أن ننظر فى الملوخية “البايتة” (دون ثلاجة- لم يكن لدينا مثل هذه الرفاهية آنذاك) لنلاحظ إن كان على سطحها أية فقاعات متفجرة، باعتبار أن هذه الفقاقيع هى دليل فسادها، وكان علينا أن نتجنب الأكل منها حتى تأتى أمى وتشمها، ثم تلقيها عادة بعيدا حرصا على صحتنا. قلت إن هذه الفقاقيع على سطح الملوخية لا نعاملها بأن “نفقعها” الواحدة تلو الأخري، لأنه سوف يظهر غيرها طالما أن الملوخية قد حمضت، كنت أشير بذلك إلى ضرورة الانتباه إلى أن مجتمعنا يسير فى اتجاه تخثر الوعى العام بشكل أو بآخر. الحادث فى هذا المجتمع منذ أكثر من نصف قرن هو متعدد الأبعاد والمستويات بما يشمل: سطحية التعليم، وانفصال الصفوة، وتفاهة الإعلام، وكذب البيانات، وضعف المشاركة فى اتخاذ القرارت، ومن ثم التخلى عن تحمل أى مسؤولية نتيجة أى قرار، أضف إلى ذلك قلة الفرحة الجماعية، واختفاء أغانى العمل، ضمن اختفاء الأغانى الجماعية التلقائية عموما، ثم تمادى الخصام مع الجسد (من أول نفى الرقص الشعبى التلقائى الجماعي، حتى التحفظ على طقوس ذكر الله فى الموالد من خلال حركية الجسد)، يتفاقم الأمر بانتشار القيم السلبية واعتبارها مزايا وشطارة يحسد صاحبها عليها فيتسارع تخثر الوعى الجماعى وقد الهبوا تكاثره بسماد القيم الفاسدة من الغش فى المدارس حتى الرشوة فى المصالح حتى الوصول الملتبس إلى المراكز حتى استغلال المواقع الرسمية للمصالح الشخصية والثللية.
المصائب الثلاث:
يمكن أن نضع كل ذلك نتيجة لمصائب ثلاثة هى:
(1) سوء التربية (2) فساد التعليم (3) تمييع السياسة.
أما التربية: التى هى أساسا مهمة الأسرة والمجتمع الأصغر فالأوسع، فقد تراجع الاهتمام بها حتى صار ناتج نمو أطفالنا مرهون بالستر والصدفة.
أما التعليم كما يجرى عندنا – فى عمق واقعه وبرغم الأرقام والتصريحات – فقد أصبح أضر على العقل البشرى من قلته. فى البرنامج المشار إليه سالفا، نبه فضيلة المفتى السابق د. نصر فريد إلى أن الوقاية من مثل هذه الأحداث هى تعليم الدين تعليما صحيحا، ومع اتفاقى معه على ذلك من حيث المبدأ، إلا أننى أصررت على أن إطلاق التفكير (أو ما أسميته تعليم أطفالنا طريقة التفكير) هو فى نفس الأهمية أو أهم وأضمن، لأن التفكير السليم هو الذى سيوصل إلى الدين السليم، فالإيمان ليس إلا النتاج الطبيعى لطلاقة الفطرة وسلامة التفكير، أما تعليم الدين الجاهز من خلال التفسيرات الثابتة دون استلهام الوحى الإلهى المتجدد، فهذا أمر يحتاج إلى فحص دقيق، ومتابعة ملاحقة لنعرف ماذا نفعل بما نتصوره دينا. فى العقل البشري، كما خلقه الله، إذ نحشر فيه ما لم ينزله سبحانه، وإنما نملأه بنتيجة ما تمليه علينا مخاوفنا ومحدودية اجتهادنا.
أما عن تمييع السياسة فأعيد ما جاء فى نفس البرنامج حين أشار الصحفى النابه الأستاذ عادل حمودة إلى أن الفراغ الذى يعيش فيه الشباب يمكن أن يُملأ بمزيد من السماح بالممارسات السياسية من خلال الحزب الوطنى أو حزب الوفد كأمثلة، وإذا بى أرد عليه تلقائيا ونحن على الهواء: “مش لما يبقى فيه حاجة اسمها الحزب الوطنى أو حزب الوفد أصلا”، لينتهى البرنامج بقول المذيع المهذب “ما احنا كنا ماشيين كويسين”، احترمته، واحترمت مساحة الحرية التى تبادلنا فيها هذا الحوار علانية، وقلت فى نفسي: لعلها بداية طيبة.
ممارسة السياسة التى يمكن أن تملأ وعى الشباب لا تتأتى من خلال الحزب الوطنى بكل ضخامة هيكله التنظيمي، ولا من خلال حزب الوفد بكل تاريخه وتراثه الذى يتمثل فى صحيفة خضراء ونوايا حسنة، إن كنت تريد أن تقيس كيف تملأ السياسة وعى الشباب لتغنيهم عن ممارسة الإرهاب فابحث عنها فى المقاهي، والجلسات الخاصة، والنوادي، والمدارس والجامعات، قبل أن تدعى رصدها أمام صناديق الانتخاب المشبوهة. السياسة التى تمارس بين شبابنا الآن – نتيجة عدم وجود شارع سياسى حقيقى – هى التى تمارس فى المساجد واجتماعات الجماعات المحظورة، وكلاهما بديل يغذى الفراغ لا يملؤه.
فراغ مثلوج:
لابد أن أعتذر عن هذه النظرة التى تبدو متشائمة تماما، مع أنها ليست كذلك من وجهة نظرى لأنها مجرد بداية حتمية ونحن نحاول أن نجيب عن سبب ظهور تلك الفقاقيع على سطح وعى مجتمعنا المتخثر وهو على وشك الفساد والتعفن. أقر وأعترف أننى برغم كل ذلك قادر على الاحتفاظ بالأمل، وأيضا بدليل كتابة ونشر هذا المقال، وما جرى فى ذلك البرنامج على الهواء، فلنواصل الإصرار والمحاولة مهما طال الزمن.
يمكن وصف ما آل إليه حال الشباب خاصة، والمجتمع عامة بأنه “فراغ مثلوج جاهز للتفجر”، وبالتالى فإن علينا أن نجتهد فى اتجاه أن نعرف كيف نملأ هذا الفراغ، وكيف نقترب منهم فى إحاطة دافئة، واحترام مسؤول، فى محاولة لإذابة الثلوج التى جمّدت تفكيرهم دون أن تحفظ وعيهم من التخثر، ولكن بالله عليكم كيف يمكن أن نفكر فى ذلك، أو حتى نأمل فيه، ونحن – الكبار – لا نتمتع به أصلا؟
أين الوعى الخاشع:
اضطررت مؤخرا أن أضع بين الأسئلة الروتينية التى أسألها للمريض وأهله فى عيادتى سؤالا عن عدد الساعات التى يفتح فيها إذاعة القرآن الكريم، أفعل ذلك حتى لو كانت حالته ليس لها علاقة بذلك، وفى كثير من الحالات ينبرى الأهل فخورين بأنها مفتوحة طول النهار والليل، جنبا إلى جنب مع الشرائط الدينية لملأ ما يفيض من وقت بين فقرات إذاعة القرآن الكريم، أنبه المريض والأهل إلى أن للقرآن الكريم حضوره فى الوعى البشرى بشكل متميز، وهو حضور يتطلب مسؤولية خطيرة من ناحية، كما قد يستجلب استلهاما مبدعا من ناحية أخري، وأضيف شارحا ما وصلنى من معنى “الإنصات والاستماع” الذى أمرنا به ونحن نسمعه، وأذكــر مريضى وأهله بالآيتين الكريمتين
“إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا” ثم “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله”- شارحا أن تكرار الأصوات دون إنصات، فى خلفية الوعى بشكل راتب هكذا، قد يهِّمش كلام الله سبحانه ونحن لا نتصدع به من خشيته، وفى نفس الوقت هو يخدر الوعى بشكل يجعله عرضة لتفريخ ما يلقى فيه دون نقد، وحتى أضبط جرعة تعليماتى ولا يساء فهمى أطلب من الشاب (أو المريض عامة) أن يقرأ بنفسه ربع حزب يوما بعد يوم، لا أكثر ولا أقل، وأن يستمع كل صباح لربع ساعة تلاوة مصحف مجود (ليس مرتلا)، وأن يتحمل مسؤولية هذا وذاك مباشرة دون اللجوء إلى تفسير من خارجه، لعله يستلهم ما وصله بما يعينه فى تحريك عقله دون الاستسلام لأرجوحة السكينة التى حشروها فيه بديلا عن حركيته الفطرية، ثم لعله يجد بعد ذلك، ومن خلال ذلك، الوقت الذى يعمر فيه وبه نفسه وأرض الله والناس جميعا.
إن لجوء الأسر والشباب لسوء استعمال مثل هذه التلاوة المستمرة بأقل قدر من المسؤولية والاستلهام إنما يسمّد وعى الشاب بشكل سخى قادر على إنبات أى بذرة عابرة مناسبة تلقى فيه، فتكون النتيجة أن أى بذرة طائرة فى جو ملوث سرعان ما تنبت بسرعة، ثم تتفرع مثل النبات الطفيلى والحشائش لتحتل كل المساحة القادرة على التفكير السليم نحو الحق سبحانه وتعالى.
ما لا ينبغى:
قبل إنهاء المقال الذى لا يمكن أن ينتهي، لابد من التنبيه إلى أن ندرة من شبابنا يلجأ إلى حل آخر على أقصى الطرف الآخر، وذلك حين يتجه إلى ملء فراغ وعيه بطفيلات أخرى لا سبيل هنا الآن إلى تفصيل أضراها ومخاطرها، ألا وهى المخدرات و”الصياعة”، وهى حلول ليست أقل سلبية، وإن كانت ما زالت محدودة، ومكلفة عادة. ثم إننى لاحظت سهولة الانتقال من غيبوبة المخدرات إلى خدر التدين السطحى بشكل زائف وخطير عند نفس الشخص دون أن أجد فروقا كثيرة.
لا مجال فى هذه العجالة أن أطرح حلا عمليا قابلا للتطبيق الفوري، فالأمر يحتاج إلى تغيير جذرى فى كل شيء تقريبا بدءا من التربية والتعليم منتهيا إلى تنمية الفطرة السليمة كما خلقها الله حتى تتوجه بالاستلهام والإبداع، وليس بالتبعية أو التشنج، وهى تكدح إلى ربها كدحا لتلاقيه، إن ما وجدنا أنفسنا فيه من ديانة معينة – عادة بالمصادفة – هى بداية مفيدة ولازمة، يدعمها ما نمارسه من عبادات والتزام، وهو أمر ضام وموجه، لانها جميعا تمثل القاعدة التى يمكن أن تتشكل فوقها المسيرة المبدعة إلى وجه الحق سبحانه وتعالى.
ليس عندى حل جاهز ولا أميل إلى تقديم نصائح خطابية، ولا حتى توصيات للسلطة التى لا يعنيها إلا ما يعنيها. كل ما أستطيع أن أنبه إليه فى نهاية هذا المقال هو ما ينبغى تجنبه حالا، انتظارا لمزيد من الاجتهاد والإبداع والعمل، لعلنا نصل إلى بعض ما ينبغى عمله على أرض الواقع.
أولا: علينا أن نتجنب ادعاء قبول الآخر فى حين أننا لا نفعل ذلك حقيقة وفعلا، بل إننا فى داخل داخلنا ننوب عن الله سبحانه فى إدخال بعضنا بعضا النار على العمال على البطال، بوعى أو بغير وعي، فى الوقت الذى نواصل فيه الحوار حول الموائد المستديرة (ويمكن سؤال البابا الجديد فى ذلك!!)
ثانيا: علينا أن نفهم أن قبول الآخر ليس دعوة للتخلى عن موقعى أو موقفى الذى وجدت نفسى فيه بصدفة الميلاد، ليس فقط خوفا من أن أتخلى أنا، ثم لا يفعل ” الآخر” مثلى سرا أو علانية خاصة (ونحن ما زلنا نذكر لعبة أبى موسى الأشعرى وعمرو بن العاص)، إن القبول الحقيقى للآخر يبدأ بالتمسك بما أنا فيه احتراما وبداية سعيا للتعلم مما “غيرى” فيه، مع الاعتراف أن كلينا قد وجد نفسه فيما هو فيه بمحض الصدفة، هذا الاحترام لا ينبغى أن يأخذ شكل المجاملة أو التفويت أو التجاهل أو الإنكار، وإنما شكل التقدير ومحاولة الفهم من موقع ذلك الآخر حقيقة وفعلا (ما أمكن ذلك)
ثالثا: ليس المطلوب هو أن نخفى رأسنا فى الرمال بنفى صفتنا الدينية فى أوراقنا الرسمية ونحن نتصنع ممارسة السماح والموضوعية، إن إعلان لونك وأصلك ودينك تحديدا هو البداية الأشرف لتحديد علاقتك بهذا الذى أعلــن بدوره مثلما أعلنت، إنها نقطة البداية الحقيقة لاحتمال جدل بناء على كل المستويات، أما أن نترك الأمر للحدس والتجسس وفحص الاسم (أصبح اسم “محمد” لا يمر بسهولة على وعى أى ضابط جوازات أمريكي) فهذا اخبث ادعاء وأغبى تصنعا.
رابعا: علينا أن نعيد فحص شعارات طالما فرحنا بترديدها ردحا من الزمن. قد تكون هذه الشعارات قد أدت دورها حين أطلقت، لكن ثم احتمال أن يكون عمرها الافتراضى قد انتهى. خذ مثلا شعار “الدين لله والوطن للجميع”، هو شعار براق، يقال وكأنه أنهى المسألة بخبطة مزدوجة، لكننى عندما رحت أتأمله تعجبت، أظن أنه حين ظهر كان يعنى إزاحة السلطة الدينية لتختص بشؤون الدين الذى يحاسبنا عليه الله، فبالتالى يكون تعبير الدين لله مشيرا إلى أن حساب كل واحد على الله ومزيحا لتدخل السلطة الدينية فى شؤون إدارة الوطن الذى هو ملك الجميع، إن صح هذا التفسير الإيجابى فى حينه، أو كما توحى به ظاهر الألفاظ، فهو لم يعد كذلك بعد الفحص (فحصى أنا على الأقل). وإليكم النقد والبديل:
إن الدين هو للناس المتوجهين إلى الحق تعالي، والوطن هو لله بالمعنى الأشمل بعيدا عن السلطة الدينية لأنها ليست وكيلة عن الحق سبحانه، إن كل ما خلقه الله هو لله بمعنى التأكيد على مسيرة التطور بلا نهاية، نحوه جل شأنه، ومن ثم يكون الوطن وناس الوطن (الجميع) هم لله أيضا (بما فيهم من ينكرونه سبحانه).
إن البديل لهذه المقولة حسنة السمعة هو أن الدين هو للجميع على اختلاف أديانهم لأنه طريق إيمانهم، وأن الوطن هو ومن عليه، هو لله سعيا إلى حق ضام مشترك على المدى الطويل، وإن كنا لا نتبين نهايته الأن، هذا حقنا جميعا دون تدخل من أى سلطة دينية أو مدنية .
خامسا: علينا ألا نرضى بالاستسلام لزعم نجاح فصل الدين عن الدولة دون الانتباه إلى ما يجرى داخل نفوس البشر (الناخبين) من ناحية، وبين فرق المشاركين سرا وعلانية فى مطبخ الانتخابات (أى انتخابات على مستوى العالم) حيث تتضمن هذه الفرق عددا بلا حصر من رجال الدين والطوائف ووكلائهم ولا مؤاخذة يبيعون للمرشح أصوات المتدينين مقابل المواقفة على نشاطهم المغترب والمغرور وتعزيزه ضد المخالفين، يتم ذلك سرا وعلانية، واسألوا السيد دبليو بوش. إن القول بأن الدين أمر شخصى بحت هو فى ذاته تأكيد أنه يتدخل فى السياسة من الباب الخلفى لأن الناخب هو “شخصى بحت” (أليس كذلك؟).
بداية متواضعة:
فإذا كنت قد نبهت على بعض ما ينبغى تجنبه، وإعادةالنظر فيه فإنى أرى أن المقال لم يعد يحتمل أن أطرح ما الذى يمكن عمله، وبصراحة هى فرصة هروبية لأننى لا أعرف نقطا محددة يمكن تطبيقها الآن فورا، أخشى أن استسلم لنظرة سوداء تعلن أننا أصبحنا نعيش فى مجتمع لا هو منتج ولا هو مبدع، وأن كل المطروح هو بيانات وخطب ووعود وبعض الخدمات والعلاوات فى مناسبات الاحتقان السياسى وقبيل الانتخابات، وأنه فى مناخ مثل هذا سوف يزداد وعى المجتمع عرضة للتخثر، ومن ثم سوف تزداد فقاقيع الإرهاب – فرادى وجماعات – وهى قادرة على الظهور على سطحه فى أشكال مختلفة مهما حاولنا فقعها الواحدة تلو الأخرى ما دام الطبيخ أصبح حامضا وهكذا.
لا يمكن أن أنهى المقال بهذه الصورة وأنا أعتبر نفسى متفائلا متألما عنيدا طول الوقت، لهذا سوف ألجأ إلى بعض ما أمارسه مع مرضاى مما يسمى علاج معرفي، استلهمه من طفلى الراجز، ووعيى الشاعر معا (أنظر أول المقال)، فآعرض على القارئ ما يلي:
علاج معرفى:
عزيزى القارئ
من فضلك: أمسك بمذياعك الصغير (يا حبذا الترانسستور فى حجم الكف) وأدر مفتاحه ببطء أنت وابنك أو ابنتك، واجعل أمهما الطيبة تشترك معك، وكلما وقفت عند رطان لا تفهمه قادم من موقع ما من العالم الواسع، إسأل نفسك قبل أن يسألك ابنك: هل صاحب هذا الصوت سوف يدخل النار إن لم ينضم إلى دينك، حتى لو علم عنه (عن دينك) الكفاية؟ ثم اسأل ابنك واستمع لرده شرط ألا ينسب رده هذا إلى مرجعية سمعها من رجل دين هاو أو محترف. راجع إجاباتك بهدوء: وأضف إلى كل إجابة ” بأمارة إيه؟”
إفعل ذلك، دون الرجوع إلى من أفتاك بغير ذلك.
دعونا نشرح توضيحا لجدوى هذا العلاج هكذا: لو أن حسن بشندى مثلا سأل نفسه وهو يستعد لدخول الجنة إن كانت ضحيته فى الأزهر ستذهب معه إليها أم لا؟ فهل كان سيواصل فعلته كما فعلها؟ ربما جاءته الإجابة تبرر فعلته من فتوى سمعها من شيخ جماعته، أو من إذاعة متشنجة، أو حتى من مفتى رسمي، لكنه لو كان مارس هذا التساؤل صغيرا كما عرضتُه حالا فى التدريب المعرفى سالف الذكر، فربما كان انتبه إلى الآية الكريمة التى تؤكد أنه شخصيا مسؤول طول الوقت أمام الله سبحانه عما يصله من فتاوى أيا كان مصدرها، هذا إذا كان قد أعطى نفسه الفرصة ليفهم بنفسه، أو يستلهم بوعيه، ما ينتظره من كل من أفتوا بما يخالف الفطرة والمنطق السليم.
بسم الله الرحمن الرحيم
” إذ َتَبرَّأّ الَّذينََ أتُّبِعُواْ مِنْ الَّذيِنََ أتَّبَعُواْ وَ رَأَوُاْ اّلعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمٌ ألأسْبَابُ .. وَقَاَل الَّذِينَ أتُّبِعُواْ لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةُ فَنَتبَرَأ مِنْهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا” صدق الله العظيم