الوفد: 19/12/2002
خواطر: وتأملات
انتصار المنطق البسيط
منذ بضع سنوات، والدنيا تضرب تقلب كنت أجلس مع عم لى، فلاح فصيح، على البوابة، وجاءت سيرة الأزمات، والضائقة الإقتصادية وماشابه (كالعادة) فقال لى بهدوء واثق: لا تصدق شيئا من هذا لا الحكومة ولا المعارضة، فالحكومة تجعل البحر طحينة، وهو ليس كذلك، وأغلب المعارضة تغمك حتى لا تكاد تنتهى من قراءة صحيفة من صحفهم حتى تتصور أنك مع عودتك الى بيتك لن تجد رغيفا (حافا) فضلا عن شربة ماء وبديهى أنه كان يبالغ، وبديهى أنى رفضت الإقتناع هكذا، وحين سألته: اذن من أصدق ؟ قال: صدق عينيك ياأخى، ها نحن على البوابة، وهى ساعة مغربية، سيمر الناس علينا عائدين، وأنا أعرفهم واحدا واحدا، وأ عرف آباءهم، وأحيانا أجدادهم، وسوف أحكى لك، وستجد أن كلا منهم أروج من أبيه (كان يقصد أن عنده من النقود والوسائل ما لم ما لم يتمتع أو يحلم به أبوه) ، وقد كان، وبدأ العرض وما يشبه الإحصاء: فهذا فلان ابن فلان، عنده جاموستان وعجلة ملك، وأبوه لم يكن يجرؤ أن يحلم بجاموسة شرك، وهذا عنده تليفزيون، وأبوه كان لا يحلم بسماع الراديو على الزراعية على المصطبة المقابلة لمنزل امام أفندى وهذه بنت فلانة تسكن فى منزل حجرتين بالمسلح وأمها لم تعرف الا نوم البحراية، وقد ماتت وهى لا تعرف ما هو الغطاء من أصله
وقد قبلت منطقة بتحفظ شديد، لأنى لم أرتح لهذا التبسيط الصعب، ولم أعرف أين القى بعيدا بأرقام الموازنة، وحجم الديون وفوائدها، وأزمة الإسكان،.. الخ، ورغم ذلك فقد علمتنى هذهالمحادثة – بعد موافقة عقلى المشاكس – كيف ألتزم بأن أنقل النظر مابين المعلومات المكدسة بالأرقام.. وبين الحياة الجارية مابين أسرة المستقبل (!!) وخلو الأرض الزراعية المصرية ممن يزرعها، مابين عجز ميزان المدفوعات (أو ما أشبه) فى ميزانية هذا الغول الإقتصادى المسمى بالولايات المتحدة الأمريكية، وبين ما تلقيه من معونات ذات اليمين وذات الشمال، تلوى بها الذراع، وتكاد تذل النفوس بذكاء لم يتمتع به عبر التاريخ الا الديناصور المأسوف على تطوره.
وقد أصابنى هذا المنطق البسيط بعسر الفهم اأمور أخطر وأنهم، لأنى تجرأت من خلاله – فأخذت أراجع كثيرا من المسلمات، وأسزل نفسى لماذا هى مسلمات ؟، ومن ذا الذى سلمنا اياها واختفى فظللنا ممسكين بها طول الوقت حتى لم نعد نفعل شيئا بأيدينا الممسكة طول الوقت بما سلموه لنا.
ولأغامر فأعلن بعض شطحات هذا المنطق البسيط، وخاصة بعد أن ثبت من تجربة لبنان الأخيرة أنها لم تكن من تجربة لبنان الأخيرة أنها لم تكن مجرد شطحة فها قد حدث ما يبرر أن هذا المنطق له أصوله وما يبرره.
ذلك أنى بعد حكاية السلام، وقد كنت ومازلت، موافقا عليها كمواطن من حقه أن يرى تصورت أننا دفعنا ثمنا غاليا، وحين قبلت مبدأ الأرض فى مقابل السلام، كنت زعلم – أو آمل – أن السادات – رحمه الله – ناوى لهم، وأنه لا دائم الا الله – ناوى لهم، وأنه لا دائم الا وجه الله وزن أحدا لم يقل أن السلام مقابل الود، أو أن السلام مقابل الذل، مما ظهر بعد ذلك أنه محتمل..، ومع ذلك فمازلت أفضل السلام شريطة أن نقبض ثمنه، وثمنه ليس معونات مشروطة، وأسلحة موقوفة عن العمل، وثمنه ليس حتى الأرض، ولكنى كنت أتصور أن ثمنه هو تفرغ كامل لإنتاج البشر وأنتاج المحاصيل وإنتاج الالات، عشر سنين أو عشرين. ثم خذ عندك: نلاقيهم حتما (ومسيرالحى يتلاقى) ، بحسابات جديدة، ومن موقع جديد، وقلت لنفسى – سرا وبمنطقى البسيط – اذا كان الأمر كذلك، فما لزوم الجيش فى هذه العشر سنوات أو عشرين ؟ (قارن المانيا) ، أليس الأولى زن نتمادى فى السلام، فلا أسلحة ولا ديون عسكرية، وأنما زراعة وتكنولوجيا وانتاج وثقافة وحرية وحركة.. وزراعة وتكنولوجيا.. أى والله، ظلت هذه الألفاظ تدور فى عقلى هكذا.. هكذا، والأسلحة تتوارى، والجيش النظامى يزرع وينتج (كما يفعل بعضه الآن) – والبقاء للأكثر والأنصح، هكذا قال الفلاح فى داخلى، ولم أجرؤ أن اصارح أحدا بهذه الأفكار السلبية، لأن أحدا لا يستطيع أن يتصور مصر بلا جيش، ولميكن عندى أدنى أمل أن أجد من يتذكر معى أنه فيما عدا حرب اكتوبر المجيدة، فنحن لم نحارب بجيش نظامى أبدا، لا فى حرب الإخوان سنة 1948 ولا فى حرب الوفد سنة 1951 ولا فى حرب بورسعيد سنة 1956، ولا فى حرب الإستنزاف – بعد 1967 ـ (وتصورى أن حرب الإستنزاف، هى حرب أقرب للحرب الشعبية) وظل هذا المنطق البسيط يثبت لى أن الحروب الشعبية، الصغيرة والمستمرة لا تقتصر فائدتها على الإنتصار الحربى فحسب، بل على انتاج ماهو بشر، بحق، اذ تتفجر طاقات الحياة باستمرار، ويتغير نوع الوجود فى مواجهة الموت الإستشهاد الخلود، يصدق هذا أكثر حين أتذكر تعهدنا أن حرب اكتوبر هى اخر الحروب – من جانب واحد (!!)، وحتى لو قامت حرب بالصدفة، أو من أجل عيون طابا، أو لغسل عار ردا على تصريح مذل، فماذا سيكون موقف أمريكا ؟ وقطع الغيار ؟ وطول نفس الصراع ؟ لكل هذ ظل يرجح فى فكرى حكاية التمادى فى السلام، وتغيير غاية الجيش (مرحليا ولمدة عشرين سنة) الى الإنتاج الحضارى دونالهجوم الدفاعى أو الدفاع الإستهلاكى، مع الإبقاء على عشرة أضعاف ما يسمى بفرق الصاعقة، حيث تمثل نواة الحرب الشعبية التى منرد بها الغزو القادم حت يينتظم الناس جميعا فى الحرب الشاملة.
لكنى كتمت كل هذا فى نفسى وقلت لها ايش عرفك انت فى شئون الجيش والسياسة ؟ حتى جاءت حرب لبنان وقفز منى الفلاح فى داخلى يذكرنى – بلا شماتة – أنه: جاءك كلامى ؟ ؟ فلبنان ليس عندها جيش، ولكن عندها سلاح وناس، ناس تعودوا على الحرب، فاستهانوا بالموت، ربما لأسباب أخرى وضد عدو آخر ولكن حين جد الجد، توجه العدوان كله الى هدفه الطبيعى وعدم وجود جيش حقيقى فى لبنان طول الوقت لم يغر اسرائيل بالهجوم عليها، لا فى 56،، ولا فى 67، ولا فى 73، بل انها لم تبدأ تغزوها الا حين ظهرت نواة لجيش وطنى حقيقى، وحين وقع الغزو، حارب كل الناس، نعم كل الناس (هل تذكر أغنية 56: حانحارب، حانحارب، كل الناس حتحارب) وهاهى ذى اسرائيل تخرج مهزومة زمام الناس لا الجيش، أما من اين أتى ويأتى السلاح، فهذا زمر يعرفه الكفاح الشعبى، بلا ديون عسكرية، ولا مذلة، ولا شروط
الا هذا بالإتفاق
سمعت هذا القول، أو المثل قديما: أن كل شئ بالخناق، الا هذا فهو بالإتفاق، ولم أفهم تحديدا ما هذا فقالوا لى فى بداية الأمر أنه الزواج وتأكد لى أنه كذلك حين جعلت اردد مع الناس زواج عتريس من فؤادة باطل لكنى حين تعمقت أكثر فى الحياة، وجدت أن كثيرا من الزواج ذاته يستمر بالقهر والحاجة والإضطرار، فأرتقى معنى هذا الى مايفيد الحب، أو الود الإختيارى، وتذكرت معنى قول رسول الله على أن أحكم فى ما أملك وليس على أن أحكم فى لا أملك (مشيرا الى قلبه) – تذكرت كل هذ وأنا أتابع تحديات ما يسمى النطبيع، فقد يكون السلام واقعا مرا، وقد يكون السلام نحديا حضاريا، وقديكون فرصة صعبة، أما أن يكون من شروط السلام أن أحب السيد أريل شارون، أو أن أحلم – فى ود رائق – بالصديق بييجن والطاقية اياها على مؤخرة رأسه كالبصقة، فهذا ليس من بنود اتفاق السلام الذى رضيت به على عينى كمواطن واقعى جدا جدا.
ثم يأتى مجلس النواب الأمريكى فيوافق على معونات سنة 1986 (شكرا) ، ثم يضع شروطا لمعونات 1987: أن يعود السفير المصرى لإسرائيل أو ما شابه، فأحس بقرف شديد، وأنه لم يبق الا ان يشترط لمعونة 1988، أو..1989 الخ أن يحب الشعب المصرى الشعب والحكومة الإسرائيلية حبا جما حقيقيا (!!) ، ذلك أنه فى سنة 1989 لن تطمئن اسرائيل على حدودها الآمنه المعترف بها الا إذا تأكد الكونجرس من عواطف الشعب المصرى تجاه الاسرائيليين قاطبة، وقديحتاج الأمر الى إرسال هيئة علمية منخصصة فى قياس الحب العام (لا الرأى العام) للتحقق من ذلك، وتتوقف كمية المعونة على درجة حرارة الحب حسب تقرير الخبراء.
ويملؤنى الغيظ حتى أكاد أتراجع عن تأييدى للسلام، ولكن: أبدا، وأتذكر كل ما خطر ببالى وزنا أقنع نفسى بالسلام حيث كنت أتصور أن الرئيس السادات – جزاه الله عنا خيرا – وغفر له – لا يعدو أن يكون فلاحا ناصحا، وأنه حتما سوف يتلاءم عليهم مثلما أفعل فى خيالى، وكنت أقول لنفسى أنه – وهو بلدياتى – يعرف قولنا هناك شعرة من الخنزير أحسن من دقنه ويطل على خيالى سيناريو السد العالى: سخف الشروط / فقد الثقة / أسلحة من تشيكوسلوفاكيا / حجب تمويل السد / تأميم القناة / زحف اضطرارى نحو الجانب الآخر / غباء متزايد على الجانب الأول / والشعب يستدرج الى ما لم يختر.
وأخشى أن تتكرر نفس القصة بنفس التفاصيل، ولكن ثقتى بالديمقراطية تفتح أبواب الأمل فى حلول بديلة لو كنا قد وعينا الدرس، حلول شريفة قوية رغم أنف القوتين العظميين، وقديما سئل أعرابى ما أشق الأمور على النفس، فأجاب وقوف الكريم بباب اللئيم ثم يرده، ومازال الموال المصرى يقول حتى الآن: الله يلعنك يازمان وأنت بقيت بالهم، والكلب لما حكم قاله الأسد ياعم، (وحكم هنا تعنى تحكم فى المعونة) .
ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.