خدعة التلفيق وضرورة الإبداع

الوفد:22/10/2001

خدعة التلفيق وضرورة الإبداع

آن الأوان أن نبتعد عن أفغانستان فى أقصى الجنوب الشرقى، وعن أمريكا عبر المحيط، لنجد أنفسنا وقد اقتربنا منهما جدا، جدا. إن من يُحسن قراءة الجارى لا بد أن يعرف أن أمريكا التى يرفضها هى أقرب إليه مما يتصور، سيجدها فى أى سوبر ماركت فيه من المستورد أكثر مما فيه من صنع بلده، وفيه من الإغراء باستهلاك ما لا تحتاجه أكثر من الضروريات البسيطة المفيدة، سوف يجدها فى مؤسسة أو جماعة ثقافية تنويرية مغتربة لم يكلم أغلب أفرادها فلاحا، أو يجالس عتالا، أو يتحدث مع شاب عاطل يائس غبى التدين بالتقليد والتعصب، أو ذاهب الواعى بالتسليم والمخدر. إن هذه الأمريكا المرفوضة (وليس الأمريكيين) تتجلى فى سعار ممارسة ما يشبه البحث العلمى بغرض النشر، وليس بهدف الكشف، إنها تتبدى فى التباعد الفردى رويدا رويدا عن الاهتمام بالهم العام،لحساب التركيز على الأسهل والأسرع.

 أما أمريكا الإبداع، وأمريكا الإنجاز، وأمريكا الإنتاج، ونحن لسنا معها فى معركة أصلا، فقد يطول البحث عنها فينا وحولنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم إن أفغانستان هى أقرب إلى ما هو نحن. وبالرغم من ظاهر تعاطفنا مع أهلها الفقراء الأبرياء المطحونين، فإن ما يمثله الجانب السلبى لأيمن الظواهرى وبن لادن هو جزء لا يتجزأ من تكوين كثير منا. إن فكر طالبان ليس بعيدا عن استسلامنا الحرفى للسلطة الدينية الوصية على التفسير، المانعة للاجتهاد. إن ذلك هو الذى يقلب وجود أى منا إلى كيان فارغ، يمكن أن تحشوه أىة قوة ظاهرة أو خفية بذخيرة مدمرة، تطلقها هذه القوة أو تلك لصالح التخلف والتوقف،، أو تنطلق العبوة الناسفة منها كيفما اتفق، تنطلق فى ذاتها وفى غيرها، دون تمييز، ثم نقول “إرهابا”.

مراجعة

حين راجعت أغلب ما كتبتٌ فى هذا الموضوع، فى هذه الصحيفة المضياف بوجه خاص، وجدتنى أنهى معظم المقالات بأمل غامض يحمل وعودا عامّة، مما يجعل أغلب من يعرفنى، وكثير ممن لا أعرف كما يبلغنى، يسألونى أنه “إذن ماذا” ؟ إلى ماذا تشير بالضبط؟ من “نحن” هؤلاء الذين تتكلم عنهم وعن احتمال أن تتفجّر إبداعاتهم ليقدّموا الحل البديل ؟ من هذه الـ”نحن” التى أشرتَ أنها تحمل جنين الحضارة البديلة؟ ما هذه الحضارة التى تلوّح لنا بأننا نحملها وهْنا على وهْن، ثم تشير إلى قرب المخاض وأننا سوف نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قريبا ؟ أين هذا الفجر ومتى تطلع الشمس؟” “..إن الإسلام الذى تتحدث عنه هو تصورك أنت عن الإسلام، أو عن الإيمان وهو يتجلى فى الأديان بما فيها الإسلام، أما الإسلام المتاح فهو يترجّح بين مؤسسة مغلقة (معذورة غالبا)، وبين متشنجين مبتسرين. “

أحترم كل هذه الاعتراضات، ولا أستطيع التراجع، ولا أملك التوضيح أكثر. كل ما قلته وأردت الترويج له : هو أن الإنسان – فى كل الدنيا دون استثناء ناس أمريكا – قادر أن يصحح مساره إذا ما تيقّن من خطأ الطريق الذى سلكه، مهما بدا هذا الطريق مرصوفا، ومضاءا، وممهدا. إن سهولة الطريق ووضوح علامات الإرشاد فيه، ليست ضمانا بأنه الأصلح، أو أنه سوف ينتهى بنا إلى النهاية الصحيحة.

البديل

الناس فى حاجة إلى بديل محدد المعالم، وأغلبهم يعترف أن ذلك ليس متاحا حاليا، يستوى فى ذلك الشاب المصرى شريف صبرى أيوب، العاطل منذ عشر سنوات، ومستر بول كنيدى، وعمرو موسى ومحمود أمين العالم وجيل كيبل. إن هذه الأزمة التى أفاقت العالم، مع أنها ليست أبشع الكوارث، قد حركت العقول والضمائر والأقلام والوجدان بشكل أكثر إيجابية من كل توقع. إن عدد الأصوات العاقلة والمسئولة التى ارتفعت فى كل أنحاء العالم، هى أكثر وأعمق مما كنا نتصور.

إيجابيات

 إذا تجاوزنا تصريحات وأسلحة وطغيان الحكومات الباغية الغبية، وتجاوزنا صراخ وصياح الشارع المنفعل المتسرع هنا وهناك، فسوف نكتشف أن لهذه الأزمة من الإيجابيات ما يزداد يوما بعد يوم. لقد قاربت بين ناس العالم، كما حرّكت القضايا الجوهرية التى بغير حلّها حلا صحيحا يهلك الحرث والنسل.

 إن أهم إيجابيات ما حدث هو أن الناس، كل الناس، انتبهوا أو ينتبهون إلى ضرورة مراجعة شاملة لمسيرة البشرية بعد أن أعيد ترتيب أوراقها باختفاء الاتحاد السوفيتى، ثم بإنذارات فشل النموذج الكمّى المغترب (الأمريكى / الصين) على حد سواء، مع مخاطر التشنجات العشوائية اليائسة الغاضبة.

بعد أن تعرّت أمريكا الدولة وأمريكا السلطة وأمريكا المال، بهذه الصورة الفاضحة سواء بما أصابها من هزة كشفت خيبة حساباتها، أو بما أقدمت عليه من انتقام غير إنسانى وغير مفيد، أصبحنا جميعا أمام التحدى الملح الذى يطالبنا بالبديل. بديل عن كل من بن لادن و بوش، وبن باز و جيلى براهام فى وقت واحد

إن الإيجابيات التى لاحت فى كل مكان تقول إن ثمة فرصا حقيقية. التواصل بين البشر غير الحكوميين، وغير المساهمين فى مؤسسات الأموال الزاحفة على وعى البشر، أصبح أكثر سهولة، هذا ما قالته سياتل وجنوة حتى دربان. لقد لاحت تباشير الأمل تعلن أن الناس للناس. هم معا رغم أن الطغيان قد بلغ مداه.

إسلام

بالنسبة للمسلمين خاصة، وهم الذين فى وجه المدفع (وش المدفع) كما يقول أولاد البلد، لاحت الفرصة الحقيقية ليكونوا مسلمين، إن التفرقة بين الإسلام والمسلمين ترددت فى كتابات كثيرة (أ.د.قدرى حفنى أخبار الأدب،،مثلا)،كتابات ناقدة وصادقة وأمينة. وإن كانت هذه الكتابات نبّهت أن حملة الغرب المتغطرس موجهة إلى المسلمين وليست على الإسلام، فإن الأولى بنا أن ننتهز الفرصة لنعمّق الفرق. إن على من تصادف أن وجد نفسه مسلما، ويريد أن يكون كذلك بحق، أن يرجع إلى إسلامه كما أنزله الله يستلهمه من جديد، لا أن يستسلم لتفسير من توقف عند ظاهر ألفاظه. وسوف يجد نفسه وسط كل الناس.

تعلّم

إذا كنا نعيب على أمريكا – أى أمريكا، وكل أمريكا- أنهم اندفعوا إلى الانتقام دون أن يتعلّموا، فإن الأولى بنا أن نبدأ بأنفسنا فنتعلّم من كل ما يجرى، ربما قلّدونا، ولو فى مبدأ التعلّم، أما أن نظل نردد أن عليهم أن يأخذوا الدرس مما جرى، فى نفس الوقت الذى نستمر فيه نحن كما نحن، فهذا خداع خبيث وغبى. لعل برنارد شو هو القائل ما معناه :” إن من يستطيع يفعل، أماالعاجز فهو الذى ينبرى يعلّم الآخر ما لم يقدر هو عليه “. نحن نصرخ بهم أن يبحثوا عن الأسباب، ولا نوجه نفس التوصية لأنفسنا.

أتصور أن المطلوب منا، ولنا، فى هذه المحنة هو أكبر من قدراتنا الظاهرة. نحن نرزح تحت قهر حكومات ليس عندها فكرة، وتنويريين ليسوا مبدعين، ومسلمين لم يتعمّقوا الإسلام، ومتدينىن لم يكدحوا بالقدر الكافى على طريق الإيمان الى وجه الحق سبحانه وتعالى. كل هذه القوى تشل قدراتنا وتحول دون العمل أو الإبداع أو الإتقان، فتصبح المناداة بذلك أقرب إلى الشعارات منها إلى التوصيات القابلة للتحقيق.

توضيح

الخطر كل الخطر، هو أن نكرر النموذج الذى أعلن انهياره، أو أوشك على الانهيار، ونحن نتصوّر أننا نبتعد عنه أو نحاربه. حين نبهتُ- مخطئا ومتألما معا – فى نهاية المقال السابق، إلى خطورة التلفيق تحت شعار التوفيق والتسويات، ظلمتُ – دون قصد – جهد فريق رائع من الرواد الذين جاهدوا لينقذونا من تخلفنا دون الانسحاق فى عجلة الغرب، ودون إنكار فضله معا. من يستطيع أن يتهم رفاعة الطهطاوى أو محمد عبده أو زكى نجيب محمود بالتلفيق أو حتى التوفيق المتعسّف. إن هذه النقطة بالذات تحتاج إلى توضيح، أكثر مما تحتاج إلى اعتذار.

المسألة هى أننى خِفت من موجات التسويات الخادعة، خفت أن نبالغ فى الاعتراض على نموذج لا نقوم – فى نهاية النهاية – إلا بتقليده. إن داخلنا يقدس نفس النموذج الذى يدّعى رفضه. وكما كان الحل الشيوعى السوفيتى هو الوجه الآخر للنموذج الأمريكى الاستهلاكى المغترب، فإن الحل الإسلامى التوفيقى والسلطوى ليس إلا وجها آخر لنفس النموذج. نحن نعلن رفض نموذج نحن مبهورون به لاشعوريا إلى حد التقديس. هذا الانبهار وهذا التقديس تترتب عليه خطوات متتالية (سكريبت) تجعلنا فى النهاية نكرره تحت لا فتات أخرى، رغم تصورنا أننا نشجبه. إن ما أخذتُـه على، أو فهمته خطأ من، محاولات هؤلاء الرواد الأوائل هو أن انبهارهم الأمين بالغرب، قد حرمنا من اجتهاداتهم للتعرف على عمق الفروق بين ما يمثله هذا النموذج نوعيا، وبين ما يمكن أن نكونه. حتى أننى تصورت أن دعوى التنوير بالمعنى الغربى، وهو المعنى المصرى الذى ساد منذ أوائل هذا القرن، لن تنتهى بنا إلا إلى مسخ مقلّد، لا يضيف شيئا، ولا ينجح حتى فى التقليد، وتركيا على ذلك شهيدة.

نموذجان

 أورد فيما يلى نموذجين لهذه الخدعة :

الأول : نروح نستعير إيجابياتهم، أو ما نتصور أنه كذلك، فنصفّق لها، ونبحث عنها هى هى فى تراثنا، وعادة ما نجد ما نبحث عنه إنْ حقيقة وإنْ تعسّفا، فنفرح بتاريخنا، وهات يا هتاف : نحن السابقون”، “نحن الذى علمناكم إياها”، ” هل تذكرون أيام الأندلس؟؛ ألم ينقل لكم ابن رشد فكر الإغريق ؟ إن ذلك لا يعنى إلا أننا نقر هذا النموذج تماما، ولكننا نريد أن نستولى عليه بحق التاريخ أو حق الشفعة، أو على الأقل نريد أن نصبح شركاء فى ملكيته، إن هذا الخطأ الجسيم لا يصحح النموذج الذى ندّعى رفضه، بل إنه يثبته أكثر حتى لو منحونا صكا يثبت أن لنا فيه نصيب معلوم بحكم التاريخ.

الثانى : ننتبه إلى عملية وفاعلية بعض نظمهم، نظام البنوك مثلا، فنستعيرها هى هى – بعد أن نكون قد أعلنا رفضها وشجبها وتحريمها، ثم نروح نبحث فى دفاترنا القديمة (وأحيانا الجديدة) لنمارسها هى هى  (رغم استمرار إعلان الرفض). كل ما نفعله هو أن نعلّق عليها لافتات من تراثنا. الفوائد (الربوية!!!) نسميها مرابحات، والديمقراطية (المشكوك فى موضوعيتها ومصداقيتها !!) نسميها الشورى، والرأسمالية المغتربة نسميها التجارة الحلال…إلخ.

لا اعتراض

لا أحد يستطيع أن ينكر فن الغرب، وتكنولجيا الغرب، وإبداعات الغرب، وعلم الغرب (والشمال طبعا). ناس الغرب هم ناس خلقهم الله ليكونوا ناسا مثل الناس، فصاروا أحسن وأكثر تقدما، لكن النموذج الذى انتهوا إليه لم يحقق لهم – ولن يحقق لنا- ما خُـلِقْـنَا من أجله من تحرير وعدل وتعمير وإبداع. إن ما يمارسونه من ظلم – على عينك يا تاجر – يتم بأخبث الوسائل وأكثرها وقاحة وغطرسة وفجورا. لا اعتراض على عقولهم، ولا على إنجازاتهم، إن الذى تنبهنا إليه هذه الأحداث الخطيرة الجارية هو أن إنجازات هذه العقول الرائعة، والنظم المنضبطة، ليست وحدها المنوطة بتأنيس الإنسان وتعمير الأرض. وهى لم تنجح فى ذلك مهما تطاولت فى البنيان.

اعتراض

إن الاعتراض على محاولات وندوات التوفيق والحوار لا يعنى رفضها،(حتى لو و صفتُها بالنفاق والتلفيق) إنه تنبيه إلى ضرورة تعميقها للإبداع وليس للتسوية. ليس أمام أى صاحب دين حقيقى – إن صدق – إلا أن يبدأ من حيث هو. هذا هو المبرر الوحيد لاستمرار وجدوى مثل هذه اللقاءات والندوات والاجتهادات، إن من يتنازل عن دينه تحت دعوى “إن كله يساوى كله”، إنما يتنازل عن كل الأديان، مهما زعم أنه ينتمى إلى كل الأديان. إن دعوى” قبول الآخر”- إن لم تتجذر وتتأصل – قد تكون من أكبر الخدع التى تجهض الجدل والتطور.

 جدل

إن ثمة فروقا شديدة الدلالة بين ما يسمى “صراع الحضارات، وحوار الحضارات، وجدل الحضارات”. الحضارات لا تتصادم، وإنما تتفاعل ليتولد منها مجتمعة ما هو جديد، ثم إنها لا تتحاور بمعنى الكلام للحفاظ على مسافة تسمح بفض الاشتباك. إذْ لا ينتج من ذلك إلا أن تمتلئ مثل هذه المسافات بالتسويات المائعة والظلال الباهتة، إن الحضارات تتجادل بمعنى الالتحام المتداخِل، وكل منها يحمل من الاختلافات ما يثرى به الآخر دون تنازل أو تراجع، إذ يتخلق منها جميعا ما يتجاوزها جميعا.

قضايا

إن القضايا المطروحة أكبر من الصراع، وأعمق من الحوار. إنها قضايا شاملة تخص الجانبين، تخص كل الناس على كل الجوانب. مثلا : العلاقة بين الديمقراطية المشبوهة (تذكّــر حق الفيتو) والحرية الحقيقية، أو العلاقة بين التدين الوقائى والإيمان الخلاق، أو العلاقة بين العدل الممكن والمساواة المزعومة، أو موقع الإيمان الحقيقى كأصل وجودى، وليس مجرد دعوة لمكارم الأخلاق، أو تهدئة البال. إنها قضايا تعرضتْ لها الرسالات السماوية والفلسفات المختلفة على مر التاريخ، وهى ما زالت تحتاج إلى حلول جديدة، ولا شك أن فرص التواصل الرائع الذى أتيح للإنسان المعاصر عامة، والذى تبينت فائدته الرائعة (وأيضا مخاطره) إثّر الأحداث الأخيرة، سوف يسهل مهمة الناس للوصل إلى حل بمشيئة الرحمن.

قيم

أربعة قيم ينبغى أن تكون هى ركائزنا للبداية الجديدة ونحن نحاول أن نجد ردا على كل التساؤلات التى   ألحّت بما لا يسمح بالهرب، وهى : الحرية، و العدل، والإبداع، والإتقان.

 الحرية الحقيقية لكل مستويات وجودنا، والإبداع القادر على استلهام النصوص بأكبر قدر من الوعى والمسئولية، والإتقان الذى يسمح بمزيد من وضوح الرؤية مع مزيد من إنتاج الوسائل والعدل الذى لا يميز بين عجمى ولا عربى إلا بالتقوى.

 الخوف كل الخوف أن تنقلب هذه القيم إلى شعارات، أو أن نظن أنها هى هى الغايات، إنها مجرد وسائل إلى وجه الحق سبحانه وتعالى. إنها حين تـُستعمل بحقها ونحن نكدح إليه سوف تعمّق الوجود     البشرى بالامتلاء والامتداد، حتى نستحق أن نكون بشرا نخلُفُ الحق سبحانه وتعالى، فنعمر أرضه بفضله.

مرة أخرى، ليست أخيرة، سوف يواجه القراء، كما يواجهنى، السؤال: كيف ذلك ؟ ماذا نفعل ؟

 وسوف أطلب من السائل، ومنى، أن نواصل الاجتهاد معا لننال ثواب تحقيق شرف وجودنا معا.

وهل أمامنا سبيل آخر؟.