نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 22-3-2014
السنة السابعة
العدد: 2395
حوار مع مولانا النفّرى (72)
من: “موقف المطلع”
وقال مولانا النفرى فى موقف “المطلع”:
وقال لى:
يا عارف إن ساويت العالم إلا فى الضرورة حرمتك العلم والمعرفة.
فقلت لمولانا:
بصراحة وقفت أمام كل ما قاله لك فى موقف المطلع وأنا فى حيرة أشد من كل مرّة، مع أننى لا أعرف بأى مقياس أقيم شدة حيرتى، رأيت فى هذا الموقف تدرجا بين مستويات المعرفة (ومتداخلاتها) أكثر من قدرتى على التمييز والترتيب سواء فى دوائر متداخلة، أو فى هرم مدِّرج متصاعد، أو على مستويات متكافلة.
أضفتَ إلينا يا مولانا ما أضافه إليك فى هذا الموقف وهو الإطلاع، فكيف أميزه عن الرؤية والوقفة بل وعن العلم وعن الجهل المعرفى وعن الكشف، لكن هذا ليس موضوع حوارى معك اليوم، فهذا قد يجرنى إلى الحديث عن “الوعى” وأنا لست جاهزا له بعد.
الذى اخترته اليوم هو لفت النظر إلى أن التنبيه إلى أن أى مستوى من المعرفة لا يصح أن يتساوى مع أى مستوى آخر، سواء كان يحتويه أو يفوقه أو يتفرع منه أو يقع دونه، إن التساوى يمحو معالم الفروق فليغى أحد الأطراف الآخر، لكن الجميل المطمئن فى هذه الفقرة هو حكاية “إلا فى الضرورة” إذن فتم سماح بالتساوى فى حالة الضرورة، ولا بد أنها حالة مؤقتة، مثل كل ضرورة، لكن الأصل الذى وصلنى هو أنه لا تساوى بين العلم والمعرفة (لا ترادف) بل الأهم حسب النص: أنه لا تساوى بين العارف والعالم، بمعنى – كما وصلنى – أن العارف إذا قبل أو رضى أو قنع أن يصله ما عرفه فى حدود أبجدية العلم وأدواته ومساحته فإنه بذلك يتنازل عن محيط النور الذى غمره بالمعرفة ليكون عارفا وبالتالى يتحدد فى ما يضيؤه له مصباح العلم بلغته، كنت أتصور أن هذا التنازل هو وراد ومفيد، حتى لو أصبح العارف عالما فحسب، لكننى فوجئت بهذا العقاب بحرمانه من كل من العلم والمعرفة، فلماذا يا ترى هذا العقاب هكذا، بكل هذا الإطلاق؟
لكن أين الإطلاق هذا؟ لقد سمح به فى حالة الضرورة، فتصورت أن أبجدية العلم، وهى أكثر عمومية وأوسع انتشارا، يمكن أن يضطر العارف إلى استعمالها إذا شعر بحاجته “الضرورية” أن يطمئن إلى بعض ما عرف، فتكون الضرورة هنا هى رُعْبه من هول حجم وعمق بعض ما عرف حتى التهديد بالتنازل عنه، فيستنقذ بأبجدية من خارج المعرفة بعض الوقت فقط – حتى لو تساوى بالعالم – لكن عليه أن يعود عارفا خالصا واثقا مطمئنا، متى التزم بحدود الضرورة التى قدمت له بعض سلامة المخاطرة، وأنه لم يضطر إلى اختزال ما عرف أو ترجمته، فيرجع عارفا مطمئنا، وهكذا.
فهى رحلة ذهاب لعودة، والعقاب إذن هو قاصر على من يستسهل هذا التساوى فتتراجع معرفته أو تضيع، فلا هو يعود عارفا ولا هو حتى يحذق العلم الذى تساوى به حين استنقذ به أو بأبجديته، وما دام السماح هو فى الضرورة فقط، فإن الضرورة تقاس بحدودها وغرضها كما ذكرنا.
لا أريد يا مولانا أن أعرج إلى هؤلاء الذين يقيّمون النص الإلهى كأنهم يعرفونه، وهم لا يعيشونه، يقيمونه بمقاييس من خارجه يسمونها العلم، فتختلط الأوراق، وتتشوه المعرفة ويتسطح العلم، كيف أوصل لهم يا مولانا ما جاء فى نفس الموقف “المطلع”:
وقال لى: الحق لا يستعير لساناً من غيره
فإذا بهم لا يستعيرون فقط لسانا بل نظاما ومنظومة ومعادلات وتأويلات فيحق عليهم أن يُحْرَمُوا المنظومتين معا، هذا إذا كانوا ينتمون إلى أى منهما أصلا.
بل دعنى أعترف لك ما مولاى مرة أخرى أن لى إبن صديق لا يكف عن محاولة أن يثنينى عن مواصلة الحوار معك، مستندا إلى هذا القول بالذات.
ماذا أقول له؟