نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 22-2-2014
السنة السابعة
العدد: 2367
حوار مع مولانا النفّرى (68)
من “موقف معرفة المعارف”
….. فى المكان المتمادى بلا مكان
استهلال:
هممت اليوم يا مولانا أن أضيف إلى حوارنا تداخل بعض الأصدقاء الذين يعقبون على اجتهاداتى معك بالتساؤل أو الإضافة أو النقد، وأحيانا بما يشبه الرفض، ولكننى وجدت أننى قد أستدرج إلى ما يبعدنى عن الأصل، وأنا أعرف طبعى، فعدلت.
فى حوار سابق حين وصل لبعضهم أن الوقفة فيها مظنة ثبات أو سكون (وقَفَ، يقفُ فهو واقف أو متوقف)، فحاولت أنا أن أنفى ذلك، اكتشفت أننى لم أنجح تماما فى توصيل ما وصلنى، وهو عكس ما وصل هذا البعض تماما.
وحين عدت إليها اليوم عذرتهم، وفى نفس الوقت رفضت ما وصلهم أكثر.
إذن كيف تكون الحركة فى الوقفة، وما هى حركية الوقفة الأعمق والأكثر إحاطة من المعرفة والعلم والجهل؟، أعلم أنك توصل لنا الجدل حيّا بلا شرح ولا تشريح، لكن يبدو أن الجدل لا يكون كذلك إلا للحظات أقل من الأقل، يتكلمون الآن عن قيمة اعتبار الجزء من الألف من الثانية، فأفرح بما أجهل من ثوان، وبالقياس يحق لنا أن نتكلم عن ذرات المكان وذرات الوزن، ليس فقط استلهاما من سورة الزلزلة، وإنما لما يصلنى من الوعى البينشخصى والوعى الجماعى فى العلاج الجمعى خاصة، وكأنه ممارسة منهجية لتنشيط الوقفات بالغة الرهافة والدقة والصغر فى ضوء ومباركة الوعى الحركى الضام المتصاعد.
من رحمة ربنا أننى أنسى ما يصلنى منك حين أستلهم ما فى مقدورى منه، فلو دام ما احتملت، وقد أعزو ذلك إلى عمرى، لكنه فى الأغلب هو رحمة من ربى. يبدو يا مولانا أن ما يمكن أن يصل أمثالى – على قدر جهدى – لا يستغرق من الزمن غير هذه المسافة المتناهية الصغر أيضا، كما أنه لا يستغرق فى المكان غير هذه المساحة المتناهية الصغر كذلك، وهو مع ذلك – إن صدق – يكفى وزيادة، وهو بطبيعته هذه بعيد عن التذكر، لكنه جاهز الحضور بالغ الفاعلية، يحضر ليذهب، ويعود ليكون، وهكذا.
حين أفأجأ من بعض مواقفك بما يهز ما كنتُ قد استقررت عليه أتحفز للمقاومة، ثم أعيد النظر، ثم يحدث ما يحدث بعد ذلك، وهذا بعض ما كان اليوم.
وبعد
كان الرأى قد استقر بى أن الطريق إلى الحقيقة هو كل الحقيقة الممكنة، وأن الكدح إليه هو هو حقيقة ما يمكن أن يصلنا عنه، وليس بالضرورة منه، فاحترمت كلمة “الطريق” وزادت قيمتها لارتباطها بالحركة والحركية التى هى أساس فكرى بداية وغاية بلا منتهى، وكنت أحسب يا مولانا أن دوائر “الوعى” تجرى متتابعة متمادية فى اتساع مضطرد ([1]) فأتكلم عن الوعى الشخصى، إلى الوعى الجمعى، ثم الوعى الكونى، ثم الوعى المطلق، وكلام من هذا: دوائر بعد دوائر إلى داوئر، فى رقصة كون متناغم، ثم تفاجئنى اليوم يا مولانا بأن الأمر ليس بالضرورة كذلك، إذن ماذا؟
وقال لمولانا النفرى فى موقف “معرفة المعارف”
وقال لى:
إذا جعلت الكون طريقا من طرقاتك لم أزوّدك منه،
هل رأيت زادا من طريق؟
فقلت لمولانا:
فزعت لأول وهله!!
إذا لم يكن الكون طريقا من بين الطرق (من طرقاتى) فماذا يكون، وإذا لم يكن الوعى الكونى طريقا إلى الوعى المطلق إلى وجهه تعالى، فما هو الطريق؟ أفاجأ حتى الفزع لكن لا يختل توازنى، فقد ترك لك – لنا – طرقا أخرى مساعدة أو متبادلة مادام قد قال: “من طرقاتك”، أنتبه إلى أن التحذير ليس من سلوك هذا الطريق فى ذاته وإنما من تصور التزوّد منه به كما كنت أحسب أحيانا، فالتزود لا يكون إلا من الأصل، هو منه أولا وأخيرا مهما اختلفت الطرق، فليس فى الطريق زاد فى ذاته، وإنما هو تهيئة لتلقى الزاد من مصدره المنبع والمصب، هذا ما وصلنى من حسم التنبيه “هل رأيت زادا من طرِيق”.
فكيف ذلك يا ترى؟
يلحقك – يلحقنا – يا مولانا فورا بما قاله لك بعد ذلك مباشرة فى نفس موقف “معرفة المعارف” أيضا:
وقال لى:
الزاد من المقر، فإذا عرفت معرفة المعارف فمقرك عندى
وزادك من مقرك، لو استضفت إليك الكون لوسعهم
فقلت لمولانا:
إذن هذا
الزاد من المقر،
فيصلنى أن الأول هو الآخر، لكن دون سكون مثل الذى ظنوه خطأ فى الوقفة،
حين يكون الزاد جاهزا متجددا من المقر: تنشط معرفة المعارف فى المقر ما دام عنده فيصلنى أنه المكان البداية النهاية لا تجتمع إليه الطرق، ولا تتفرع منه الطرق، بل هو القادر على ان يستضيف كل السعى وكل الحركيات وكل السبل، وأن يسع كل ذلك لأنه تزود منه فيه، فأخشى أن يصل إلى الأصدقاء المتعجلين أنها “حركة فى المحل”، فأنتبه، وأنبّه، أنها عكس ذلك تماما، فهى جدلية فى تخليق مستمر،
وهى زاد المقر لا المستقر،
فتصلنى العلاقة بين المقر والوقفة،
ويتدفق الزاد من المقر فى حركية لا تحتاج لزاد من غيرها
ما دام المقر عنده،
والزاد فيه، وبه.
[1] – قد بيّنت الأسبوع الماضى أننى استعمل كلمة “الوعى” بلا تعريف أو على الأقل بلا التزام بتعريف.