نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 14-9-2013
السنة السادسة
العدد: 2106
حوار مع مولانا النفّرى (45)
من “موقف الدلالة”
وقال لمولانا النفرى فى موقف “الدلالة”
وقال لى:
من أحببته أشهدته، فلما شَهِد أحب.
فقلت لمولانا:
منذ فترة ليست قصيرة توقفت يا مولانا عن استعمال كلمة “الحب” حتى فى مجالات الحب، وكنت أيضا افضل ألا استعمل كلمة “العلم” بعد أن احتكرته المؤسسات إياها بعيدا عن المعرفة وعن الوقفة وعن الإدراك، وعن الشهادة، وحين كنتُ أضطر إلى استعمال أى من الكلمتين أتوقف وأحذر وأحذّر من كثرة ما تلوثتا بما ليس هما ولا لهما، ثم صالحتنى يا مولانا على علم آخر ليس ضده الجهل، ولا هو يحتكر المعرفة، كما أنه يكتمل بالوقفة، ويستضىء بالشهادة، وهأنت ذا تصالحنى من خلال استلهامك ما قاله لك عن الحب.
كنت قد طرقت الباب عفوا حين تبادلت الرضا معه، حتى أصبحت اتأكد من رضاه عنى حين أشعر أننى راضٍ عنه، ثم ارتفعت المسألة درجة فتجرأت أن استقبل حبه، لى وللناس، بدءًا بالأطفال، كنت حين اسمع الناس يرددون أن “العيال أحباب الله” لا تصلنى كما وصلتنى، الآن مع أننى أفرح بها، وربما كنت أحبهم من خلاله دون أن أدرى.
ثم إنى اكتشفت أن من نعم الله على عباده أن وهبهم القدرة على الحب: “أن يُحِبُّوا”، واعتبرت هذه ثروة فى ذاتها، وكانت ترتفع قيمتها أكثر كلما ابتعدتْ عن المقابل وعن الصفقات وحتى عن التبادل، وعن الشروط، مع قبولى لكل ما هو دون ذلك احتراما للضعف البشرى، لكن ظلت هذه النعمة تزداد قيمتها فى نظرى أكثر فأكثر كلما مارستها أعمق فأعمق: “أن أحب” دون إعلان عادة.
ثم انتبهت إلى أن حضوره لمباركة هذه الممارسة الحامدة الشاكرة الثرية المثرية يجعلها أعمق وأصدق وأنفع وأبقى، وحين بلغنى أن قلوبنا بين إصبعين من أصابعه يحركها كيف يشاء، اطمأننت إلى أمانة الإمساك بالتوجيه، وبرغم كل ذلك ظل الظن يساورنى حول هذه الممارسة التى تسمى الحب، خاصة إذا ما غلفت “بالحرف”، مع أنه أعجز عن أن يحتويها، أما حين نظرت إليهما وهما يتحابان فيه: “يجتمعان عليه ويفترقان عليه” انفتحت أمامى آفاق أرحب فأرحب وأنا أتأمل حرف الجر “فى” و“على”، “فى الله”، اجتمعا “عليه” وافترقا “عليه”، وتضاعف هذا الموقف وتأكد وتعمق فيما أمارسه مما يسمى العلاج الجمعى، وإذا بالوعى الجمعى الذى يتخلق فيما بيننا كجماعة لا يتمادى فى تكامله ليجمعنا إلا وهذين الحرفين يحضرانى طول الوقت “فى”، “على”، وخاصة حين وصلنى كيف أن الافتراق (افترقا) هو أيضا “عليه”، تعجبت فى البداية لكننى أدركت كيف أنه حين نفترق مهما تباعدنا تتسع دائرة رحمته وإحاطته بنا وحولنا فنظل نتحاب مهما بلغ البعد بيننا مادام هو المحيط بنا دائما أبدا.
ثم ها أنت يا مولانا تعطينا من خلال ما وصلك من استلهامه مفتاح شفرة أخرى لهذا الوجدان المسمى “الحب” الذى يجعل منا بشرا، وهو أن نبدأ بأن نحسن استقبال حبه لنا، فتشحذ قدرتنا على الشهادة، فتصلنى الشهادة التى يُشهدنا إياها من خلال حبه غير الشهادة التى نسعى إليه بها كدحا واجتهادا، حين يحبنى فيُشهدنى تصلنى قمة الرضا فأرضى عموما وأرضى خصوصا وأرضى عنى وأرضى عنه، فكيف بعد كل هذا لا أفيض حبا، فرحت بهذا الربط المباشر السهل “فلما شَهِدَ أحَبّ”، حتى أننى أراجع نفسى حين أعجز أن أحب، أو أن أحفز أحداً أن يُحب، فأجدنى أو أجده قد عجزنا أن نتلقى حبه لنا أولا.
بصراحة يا مولانا أنا أشفق على من لم يدرك نعمة أن يحِبّ منتظرا أولا أن يُحَب مِنْ بشر، مع أن كل ما عليه هو أن يفتح نوافذ وعيه ليتلقى حب ربه، ليس فقط بإسباغ نعمه عليه، لا هكذا فقط: يفتح مسام تلقيه ومن خلال ما وصله من ربنا يتلقى حب عباده، لأنه سوف يُشهده فيستطيع.
ما بلغك يا مولانا يفتح الأبواب لكل الناس، ليس فقط “للمحسنين”، أو “المتوكلين”، أو “المقسطين” أو “المطهرين” مع أولوية هؤلاء غالبا كما أكرمهم ربنا بالتخصيص، وإنما هو بكرمه وعفوه يفتح الأبواب (لكل الناس) “من أحببته أشهدته”
من تتأخر عليه رسالة التلقى يمكنه أن يبادر بالمبادأة، أعنى مسموح أن نبدا نحن بحب الله سواء وصلنا حبه لنا ابتداء، أم أغلقت قلوبنا عن استقباله ولو مؤقتا، إن لم يبدأ هو بدأنا نحن: نحبه، فنتبع رسوله، فيحبنا ويغفر لنا ذنوبنا فهو الغفور الرحيم
ما أوسع رحمته وأجمل حبه.
وقال له:
من أحببته أشهدتُهْ، فلما شَهِد أحبّ.
بكل هذه المباشرة وهذه الرقة يحبنا فيُشهدنا فنحب
فنزداد ثراء ونزداد قربا ونزداد أخذا، ونزداد عطاء، ونزداد حمدًا، ونزداد رضا.