نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 19-9-2015
السنة التاسعة
العدد: 2941
حوار مع مولانا النفّرى (150)
ما زلنا فى “موقف الليل”(4)
لا معلوم إلا الجهل
(ولا يبقى من العلم إلا ما هو مجهول)
أنهيت نشرة الأسبوع الماضى بالتالى:
أنتبهُ يا مولانا إلى ما يلى من بديهيات:
أولا: مرة أخرى: “الليل” يمثل ثُلث العمر كله.
ثانيا: نوم الريم (نوم حركة العين السريعة): يمثل ربع هذا الثلث فقط
ثالثا: “الليل” أقرب إلى زخم الجهل المعرفى الذى لم يكفّ عن تنبيهك إليه
رابعا: “الليل” هو وعىٌ قادرٌ حركىٌّ جدلىٌّ نشِط: طول وقته
خامسا: النوم ليس إلا ساترا جزئيا لبعض ما يدور بالليل وفى الليل
سادسا: “الليل” لا يبدأ بغروب الشمس، ولا ينتهى بشروقها، ولكنه طور من نبض الكون يتواكب بعضه مع بعض دورات الكون الأوسع، ونحن لا نعرف طبيعة تفاصيل العلاقة بين هذا وذاك بأى درجة من التفصيل
سابعا: “الليل” هو أقرب إلى ما هو “الغيب”، وكل ما نعرفه على ما يجرى فيه، أو ما يمكن أن يجرى فيه، هو ضرب من الغيب، علينا حدْس بعضه بعقولنا القلبية وغيرها، وهويجذبنا للسعى فيه وإليه.
وبعد
أكتفى بهذا القدر اليوم، وأرجو أن أواصل بعض شرح ذلك الأسبوع القادم
(انتهى المقتطف وهأنذا أحاول:)
كيف بالله عليك يا مولانا أناقش كل هذا الذى أثارته فقرة واحدة من هذا الموقف، وهى التى صدرت بها نشرة الأسبوع الماضى؟
هل أمسك ما أسميته “بديهيات”: واحدة واحدة من “أولاً” إلى “سابعاً” وأناقشها واستشهد – إن أمكن – ببعض ما تيسر من نص هذه الفقرة برغم قطعه من السياق؟
أم أبدأ بالفقرة جزءًا جزءًا، وأنا أربط كل جزء بما يناسبه من إحدى البديهيات السبع؟
لا أعرف،
سوف أترجَّجُ بين هذا وذاك وليكن ما يكون، ولكن دعنى ابتداءً أعيد نص اوائل هذه الفقرة:
“الجهل حجاب الحجب وحاجب الحجاب وليس بعد الجهل حجاب ولا حاجب، إنما الجهل قدّام الرب فإذا جاء الرب فحجابه الجهل، فلا معلوم إلا الجهل، إنه لا يبقى من العلم إلا أنه مجهول”
ثم أتناولها مجزأة (برغم حرجى) كما جاءت أيضا فى النشرة السابقة هكذا:
- الجهل حجاب الحجب وحاجب الحجاب وليس بعد الجهل حجاب ولا حاجب،
- إنما الجهل قدّام الرب فإذا جاء الرب فحجابه الجهل،
- فلا معلوم إلا الجهل، إنه لا يبقى من العلم إلا أنه مجهول
تعلمنا صغارا يا مولانا أن ناقص “فى” (x) ناقص (=) بزائد، كان ذلك فى سنة تالتة ابتدائى، على ما أذكر، كذلك وصلنى ما نسب إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه من الصديقة كريمة علاق من الجزائر أنه قال: “العجز عن درك الإدراك إدراك أيضا” (نشرة 28-10-2012)، فهل يا ترى يصح القياس بأن:
حجْبُ الحجاب كَشْف،
فما بالك بحجب الحُجُب،
- الجهل حجاب الحجب وحاجب الحجاب وليس بعد الجهل حجاب ولا حاجب
فإن كانت “حركية الجهل الكاشفة” قد استطاعت أن تزيل كل الحجب هكذا، فلم يبق إلا النور، والكشف، والرؤية، والحضور، فما أرعب كل ذلك وأصعبه حتى أننى لا أطيق مجرد تصوره، وأدعو ربى أن يحول بينى وبين هذا البلاء (الامتحان) حتى أقدر، ولن أقدر اعترافا منى بأننى لا أحتمل، نعم: لست على قدر مسئوليته،
حتى لو وصلنى أن كل هذا قد يحدث وراء ستار الليل (النوم) كله (وليس فقط ثلثه) ليخفف عنى هول المواجهة، فإننى استغيث برحمته تعالى من هذا البلاء.
يلحقنى النص يا مولانا من هذا الموقف وكأنه قد سمع استغاثتى، فيبين كيف أن الجهل الحجاب الذى ظل يحجب الحجاب تلو الحجاب حتى لم يعد ثَمَّ حجاب: هو هو القادر أن يحول بينى وبين هذا الكشف المحتمل المرعب، فيقول لك بعد ذلك مباشرة:
إنما الجهل قدّام الرب، فإذا جاء الرب فحجابه الجهل،
الحمد لله يا مولانا،
بعد أن خيل لى مِنْ تَوَالِى توالى تكرار حجب الحجاب تلو الحجاب بحجاب الجهل الذى ليس بعده حجاب ولا حاجب، قفز إلى وعيى جهلٌ آخر: أرحب وأرحم
هو الجهل الذى يحول بينى وبين خوض ما لا حول لى ولا قوة أمامه.
لكننى – لأول وهلة – حين قرأت يا مولانا أن الجهل “قدّام الرب” قَلِقْتُ،
فليس عندى بالنسبة لربنا قُدَّام ولا وراء، لكن نص ما قاله لك بعد ذلك مباشرة لحقنى لينفى أن “قدّام” هذا “مكان”، وإنما هو “حال”: سترٌ ورحمةٌ بجهلٍ أرقى وأطيب: يعفينى من تصور ما لا يجوز:
فإذا جاء الرب فحجابه الجهل،
وبعد إفاقتى من دهشتى من تعبير “جاء الرب” فهو حاضر أبداً، لاح لى احتمال أن رفَعْ الحجاب تلو الحجاب بالجهل خليق بأن يؤدى إلى رفع الأحجبة جميعا حتى يلوح احتمالٌ بالكشف والرؤية، فأتصور – أو نتصور – مجئ الرب، فليحقنى النص بجهل آخر يحول دون هذا التصور، ليظل الطريق إليه بلا نهاية، باتساع كرسيه للسماوات والأرض إلى غيب مفتوح.
فأحمد الله وهو يرحمنا بجهل كاشفٍ واقٍ معا يؤكد ما وصلنى:
فلا معلوم إلا الجهل
وأنه لا يبقى من العلم إلا أنه مجهول
وهنا تتجلى رحمته التى أتبين أكثر فأكثر أنها تغمرنا وراء الساتر الليل (النوم) أرحب وأحنى (قبل وبعد حركية الأحلام)، أرحب وأحنى من تصوراتنا لها ونحن فى اليقظة (مما قد نرجع إليه لاحقا).
وبعد
دعنى يا مولانا أعتذر للقلة (أو الندرة) من الأصدقاء الذين يتابعوننا بعد أن تشكل الجهل وتجلى هكذا بأكثر من بعدٍ على أعماق متعددةٍ حتى صار هو المعلوم الأوحد،
بل إنه احتوى العلم فى معلوميته الجهول:
حين لا يبقى من العلم إلا أنه مجهول!،
هكذا يقوم الجهل بكل أدواره التى تؤكد وظيفته المعرفية الوجدانية الأساسية المتكاملة مع غيرها،
وهذا ما يحاول كشفه الكثيرون من عباده مؤخرا بلغات مختلفة وأبجديات متكاملة فى علوم جديدة.
ونأمل أن نكمل الأسبوع القادم فى نفس الفقرة بما تيسر من هذا المنهج أو غيره.