نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 22-11-2014
السنة الثامنة
العدد: 2640
حوار مع مولانا النفّرى (107)
من موقف التذكرة
يقول مولانا النفرى فى “موقف التذكرة”:
وقال لى:
المعرفة ما وجدته، والتحقق بالمعرفة ما شهدته
فقلت لمولانا:
الفرق يا مولانا بين ما “أجده” وما “أشاهده” فرق دقيق جدا، ومازلنا نتعلم منك منهجا فمنجها فمنهجا، أتعجب كيف وصلك كل هذا وأنت لم يعرض عليك هذا القدر الهائل من التعرى الذى أتاحت الممارسة لواحد مثلى أن يواجهه، أن يجده، أن يتعلم منه، أن يتحاور معه، أن يغوص فيه، وصلنى مؤخراً جدا كتاب، عنوانه: “الشعور بما يحدث”، ولن أقتطف منه أو أعرج إليه احتراما لوصية محمد ابنى التى يكررها عن مواقفك والتى أشرت إليها الأسبوع الماضى وأن “الحق لا يستعير لساناً من غيره”، ولن أعيد ما قلته آنذاك، أما الكتاب، فسوف اكتفى بالإشارة إلى عنوانه خاصة وهو يكاد يكون ترجمة حرفية للأصل الإنجليزى (1). إن عودة استعمال كلمة “علم” فى موضعها تتم نتيجة لثورة العلوم المعرفية الأحدث التى تفتح باب التصالح بين كل معرفة وكل مشاهده وكل موجود، بما يطمئننا قليلا أو كثيرا إلى أن العلوم والمعارف والمواقف والكدح الكاشف يمكن أن تتكافل وتتضفر لمساندتنا فى حاجتنا له، وسعينا “إليه”، دون ترجمة أى منها للأخر ترجمة تشوه الكل.
أجد أمامى مستويات الوعى يا مولانا ناطقة بلسان وغير لسان، وكثيرا ما أصر على احترامها معاً حتى نوفق بينها إذ يطرحها المتعرّى أو المتمزق علينا كيفما اتفق، وعلينا أن نحتويها معه كيفما خلقها الله، الذين يفزعون من ذلك عادة هم “الأهل” الأسوياء جدا، و”التجار”، كل المطلوب يا مولانا هو أن نعرف ونعترف بما يكشفه هذا العارى أمامنا، فهو حين يصله أننى “أعرف” ما “وجدت”، يطمئن ويتنازل عن اغترابه الذى فرضه عليه المنكرون لمعرفته ومعرفتى معا، بعد ذلك يا مولانا وليس قبله نبدأ هو وأنا نتحقق بهذه المعرفة فنشهد أصل الحكاية، وكيف اضطر هو إلى التكلم بلغة المرض حين أنكروا عليه معرفة ما وجدنا، الذين أنكروا وينكروننا مرة ثانيا هم الأهل غالبا والتجار، ولن أعرج إلى ماذا أعنى بالتجار هنا، ولن يجد اصدقاؤنا صعوبة فى التعرف على ما أعنى فقد سبقت الإشارة إليه كثيرا.
إذن نحن “نجد” “فنعرف” و”نتعرف”، ثم نتحقق بالمعرفة “فنشاهد”، فتتصالح مستويات السعى فى الكل النامى، كل هذا يا مولانا هو منهج لا يحتاج دليلا من خارجه إلا ناتجه لصالح مزيد من النور، ومزيد من الكشف، ومزيد من السعى، ومزيد من الكدح، كل هذا هو مشاهدة لا تحتاج إلى وصاية من خارجها ولا إلى دليل ليثبتها مرة أخرى إلا نتاجها الرائع إليه.
قلت لنا يامولانا بعد ذلك مباشرة:
“العالم يستدل علىّ فكل دليل يدله إنما يدله على نفسه لا علىّ،
والعارف يستدل بى
فقلت لمولانا:
هكذا يتم ترتيب الأولويات، وترتيب درجات المعرفة، ومستويات الوعى، فالأصل هو هذا اللقاء بين وعينا المتواضع ومطلق الوجود إليه، فتتخلق المعرفة بما وجدنا، تتحقق بما نشاهد، بأن يضىء نوره طريقنا إلى ما هو دونه، فهو يعكس بنوره ما يمكن أن تدركه بحضوره، نحن نستدل به إلى ما نعرف، ولا نثبته بما نُمَنْطِقْ، حضوره لا يحتاج تلك الأدلة الأقصر أذرعا والأعجز تعليلا التى غاية ما تستطيعه هو أن تدل على نفسها وما تصورته أو صوّرته، فهى لا تدل إلا على نفسها.
المعرفة الأصل هى معرفة مباشرة متناغمة كاشفة مكتشفة، من حق العالم أن يستضىء بها لكن ليس من حقه أن يبدّلها بما هو دونها بما يقدم من أدلة وإثباتات لا تدل إلا على نفسها
التفكير بكل رموزه ومعادلاته وتمثيلاته لا يرقى إلى إثبات ما هو أعلى منه أما الإدراك (والشعور بما يحدث) فهو المعرفة المحيطة المنيرة التى لا تحتاج إلى بديل.
يبدو أن بعض العلماء قد أفاقوا مؤخرا يا مولانا فعادوا يحاولون السير فى ضوء شمس المعرفة الشاملة من مصدرها الأصل، بعد أن أطمأنوا أن ذلك لا يلغى دور الأقمار التى تستمد نورها من الشمس، وإنما هو يدعمها ليجتمعوا إليه دون اختزال هذا إلى ذاك، أو العكس (2)
العارف الذى يستدل به، ينير قلبه بالسعى والمشاهدة فيتخلق له القلب الذى يعقل به نتيجة سيره، تتكشف له نفسه فالآفاق كلها بالداخل والخارج فيعقل بقلبه ما يستدل به على ما سواه. (3)
[1] – Antonio Damasio : The Feeling of what Happens” Harcourt 1999
أنطونيو داماسيو “الشعور بما يحدث” النسخة العربية الدار العربية للعلوم 2010
[2] – لا التفسير العلمى للنصوص المقدسة أو الإشراقية، ولا التفسير الحدسى لتفاصيل المعلومات الضرورية لأبجدية الحياة اليومية.
[3] – ” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا “