نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-11-2014
السنة الثامنة
العدد: 2633
حوار مع مولانا النفّرى (106)
الغيب يدعم الحضور
استهلال (من موقف المطلع)
يقول مولانا النفرى فى هذا الموقف،
وقال لى:
الحق لا يستعير لساناً من غيره.
فقلت لمولانا:
يا مولانا، إبنى محمد يحبك حبا جما، وهو دائم الاحتجاج على ما افعل بمواقفك منذ محاولتى مع الإبن إيهاب الخراط، وكانت حجته باستمرار هى استشهاده بهذا الذى قاله لك فى موقف المطلع هكذا من أن: “الحق لا يستعير لسانا من غيره”.
هذا صحيح، لكن يبدو أن إبنى يفهم ذلك بمعنى أنه لا ينبغى أن نقترب من “الحق” الذى وصلك، بأى لسان آخر، تحت زعم محاولة الشرح أو التأويل، وبرغم فهمى لدوافع موقفه أنه يخشى من أن يلحق بما وصلك ما لحق بما هو أقدس منه وأكثر اختراقا وإلهاما حين حل التفسير محل النص، وحل التأويل محل النور، وكأن الحرف حل محل الوقفة، فإنى لم أوافقه.
حاولت مرارا أن أوصل للمعترضين على ما أفعل بمواقفك يا مولانا أننى لا أفسر ولا أشرح، وإنما أستلهم وأتعلم، لكن يبدوا أننى لم أوفق تماما مع أغلبهم، أنا لا أعتبر أن ما أفعله هو لسان مستعار يشرح ما وصلك، لكنني أحترم كل مصادر المعارف، الأمر الذى تعلمته من واقع مهنتى –بفضل الله- تحت مسمى: قراءة “النص البشرى” التى وصلت إلى مرتبة “نقد النص البشرى”، إبداعا متجددا أبدا،
من خلال تعدد مصادر معارفى وجدت أن ما يصلنى من مواقفك يعيننى كثيرا فى تحسس معالم المنهج الذى أحاول من خلاله تقديم رؤيتى لما هو” فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا “…” وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ”
“ربى كما خلقتنى”
“ربى كما خلقتنى”،
من هنا جاءت فرحتى بما وصلك فأبلغتنا عنه فى مواقفك ومخاطباتك، إنه المنهج يا مولانا، إنه المنهج: مع تعدد مصادر المعرفة تتعدد مصداقية المناهج على شرط عدم الخلط وعدم التعميم، وأيضا مع الحرص على تجنب التلفيق والتسوية التقريبية بين المصادر وبعضها، وأيضا بين المناهج وبعضها.
ساعدتنى يا مولاى هذه التجربة فى رحاب مواقفك ومخاطباتك أن أدرك كيف تتضفر المعارف وتتكافل للكشف عن الحقيقة، وأن المهم تحديد توجه السهم والحرص على الحفاظ على استمرار امتداده نحو الواحدية الواعدة بالتوحد فى المابعد ، نحو الغيب.
خطر لى سابقا أن أسمى هذه المعارف المتوجهة معا “المعارف الموازية” ، وأسميتها كذلك مرارا، لكننى تذكرت لاحقا أن المتوازيان لا يلتقيان، فعدلت مؤخرا عن هذه التسمية، واكتفيت بأن ارضى بالحرص على تبين “وجهة السهم” و”دوام السعى”، لنلاقيه.
توحد الغاية دون أى اضطرار لترجمة لغة أى مصدر أو منهج إلى لغة الآخر (1)، كاف للاطمئنان إلى سلامة السعى، ما دام الكدح مستمرا
أتبين أكثر فأكثر منذ مغامرتى بالحوار مع الله ثم من خلال مواقفك يا مولانا ، ثم من خلال حوارى معك مباشرة، أننى آنـَس بما يصلنى من احتمال توسيع مناهج البحث عن الحقيقة، ومناهج التفكير والإدراك والحدس، واحترام دور العقل البيولوجى، والعقل العاطفى الاعتمالي، وكل العقول التى خلقها الله منذ بدء الحياة فتعلمتْ كيف تسبِّح له، أقول : أدركت أكثر فأكثر انه من الضرورى ترتيب مستويات الوعى التى تنشط فى تبادل وتكافل ونبض إيقاعى لاستيعاب الذات والمحيط والتعرف على الواقع الداخلى والواقع الخارجى باستمرار متجدد، ومن ثمَّ رحت أتعرف على مراتب متصاعدة من آليات المعرفة التى تؤدى متكافلة إلى مواصلة السعى نحو مساحة أوسع فأوسع من الوعى المتكامل، ومن الإنارة، ومن الوحى، ومن الحدس.
من خلال سماحك يا مولانا بحوارى معك، أنست بدرجة مفرحة إلى قبول فكرة مراتب المعرفة المتصاعدة: من “الحرف” إلى “العلم” إلى “المعرفة” إلى “الوقفة”، دون إغلاق السبيل على مراتب بينية أو فوقية لم نتطرق إليها بعد، ولم أشعر أبدا طوال محاولاتى تلك بضرورة استبعاد أية مرتبة لمجرد أنها أدنى، ذلك أننى كنت أتصور باستمرار تلقائية أن يحتوى الأعلى الأدنى دون محوه أو تهميشه بشكل دائم، وأنه يمكن أن تقوم كل مرتبة بنشاطها فى موقعها وحسب دورها فى دورات النبض الدورى، ودورات الجدل النمائى، دعما للوعى المتصاعد بلا سقف يحده، لنجد أنفسنا فى رحابة اليقين بالغيب دون أية شبهة لخرافة أو عدمية.
هكذا يؤدى بنا كل ذلك إلى موضوع نشرة اليوم بعد الاستهلال الأطول منها، وهو الموضوع الذى يمكن أن أسميه الآن:
الغيب يدعم الحضور الآنى المفتوح النهاية
الغيب يا مولانا الذى ننجذب به وإليه هو الذى يدعم السعى، ويحفز الكدح، ويفتح الآفاق لتخليق التشكيل النامى أبدا انطلاقا من الواقع الماثل حالا، مع أن كلمة الغيب قد أغرت الغافلين والمتعجلين والمستسهلين أنه عكس الحضور، لكن كما علمتنا يا مولانا ان العلم لا يكون علما إلا إذا لم يكن عكس الجهل، والجهل لا يكون معرفة إلى وهو لا ينفى العلم، فدعنا نتعلم الآن كذلك كيف نخطر فى الغيب ونحن فى رحاب هذا الأفق الممتد الحاضر معا ، فأنتبه إلى قول آخر لك، فى موقف آخر، ربما يدعم فروضى هذه حين تقول لنا أنه “قال لك” فى موقع أسميته :
موقف: كدت لا أواخذه
تقول يا مولانا، وقال لى:
أنا غيب
لا : “عمّا”
ولا: “عن”
ولا: “لمَ”
ولا: “لأن”
ولا: “فى”
ولا: “فيما
ولا: “بما”
ولا: مستودعيّة
ولا: ضديّة.
كل هذا النفى يا مولانا هو تأكيد للحضور “هنا والآن”،
حين أقرأ أنه “ليس كمثله شىء” أتعرف على معنى المطلق المفتوح النهاية حيث: “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ”، شريطة أن يكون فهمنا للسماوات والأرض غير محدود بالسماوات والأرض التى نعرفها، وإنما هو ممتد إلى ما ليس كمثله شىء “وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ”
كل هذا النفى ينبهنا إلى أنه ما لم يكن الغيب حاضرا طول الوقت بكل ثقله فى “هنا والآن” وهو فى نفس الوقت ممتد إلى غاية الغايات بلا تحديد، فنحن فى غفلة ننهج منهجا آخر غير ما وصلنى منك يا مولانا
إن كل ما جاء هنا بالنفى لا يؤدى بنا إلى موقف غامض أو سلبى، بل هو يؤكد تلقائية وتضفـّر وتركيز كل مستويات الوعى السليم ===>
لاحتواء كل شىء،
انطلاقا إلى كل شىء
دون تحديد إلا لسهم التوجـّه
فى رحاب الغيب
إلى وجهه تعالى .
[1] – شجبت كثيرا فى عناد وإصرار تلك البدعة المشوِّهـَة المسماة “التفسير العلمى للنص الإلهى” ، وسعدت مؤخرا وأنا أتابع الموجة الامينة الناقدة لما وصل إليه حال العلم المؤسسى والعلم باهظ التكلفة.