نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 4-10-2014
السنة الثامنة
العدد: 2591
حوار مع مولانا النفّرى (100)
العيد وتشكيلات الفرح الحلو
اليوم عيد الأضحى المبارك يا مولانا وأنت تعلم ذلك ولابد أنك فرحان بهذا اليوم ومثله
رحت أبحث يا مولانا عن فرح آخر فى بعض “مواقفك” لكن كل ما عثرت عليه لم يضفْ كثيرا إلى ما سبق أن وصلنى منك عنه حتى الآن، فتذكرت الموقف الذى سبق أن استلهمته حول هذه المسألة وهو الذى ختمته بمناقشة ما قاله لك: وأنه لا يحب إلا الفرحان، وأنت تعرف يا مولانا أننى لا أكرر ، لكننى أذكر أننى وجدت من خلال هذا الموقف ثلاث قِيَمٍ يدعونا إليها ونحن لا نحسن فهمها ولا العيش فيها أو بها، مع أنها تقربنا إليه أكثر مما يتصور المتعجلون والعابسون والمُرْهِبُون، هذه القيم هى “الرضا” المتبادل و”الطمأنينة فى عباده إلى جنته” و”الفرح الحركية إليه”.
وسوف أركز اليوم مرة أخرى على الفرح حتى لو كررت، فقد وجدت أن العيد اليوم هو أوْلى بذلك.
كنت وأنا صغير يملؤنى غيظ طفلى من خطيب العيد حين يصر على تكرار أنه “ليس العيد لمن لبس الجديد، لكن العيد لمن نجى يوم الوعيد، ليس العيد لمن ركب المركوب ولكن العيد لمن غفرت له الذنوب” فأنظر إلى جلبابى الجديد وهو يكاد ينخلع منى، وأنظر إلى حذائى (مركوبى) اللامع وأكاد أشعر أنه ضاق على قدمى، ولا أعتب على الخطيب، لكن يخفت حماسى للعيد حتى تكاد تنطفئ فرحتى به، لولا تحديات الأرجوحة البلدى المقامة محليا من سَلَبات (1)الساقية، تحمل ألواح النوارج القديمة، فتزلزل به أجسادنا، بالصدفة وبالقصد، لنخوض مخاطر رائعة، نقدم عليها ونحن نعلم خطورتها فيعود إلينا العيد بمغامراتنا الفرحة هذه إلا قليلا.
اعتدت يا مولانا أن أتوقف رغما عنى عند كلمات تبدو أننا اتقفنا على معانيها جملة وتفصيلا، لكننى فجأة أجد أننى أعيد النظر فيها فأفرّق بين الفَرَحْ والفرْحة، أنا لا أحب أفراح الزفات، لكننى أفرح بفرحة أم العروس بابنتها أكثر من فرحة ابنتها، حين أقول كلمة فرحة تتفتح رئتىّ بهواء آخر حتى يصبح للشهيق طعما منعشا، لكننى حين أُدْعَى إلى زفاف فرح يثقل سمعى ويعشى بصرى من مظاهر التباهى والبذخ والنظرات الفوقية المحتملة.
تذكرت يا مولاى كيف أننى وقفت معك وبفضلك عند موقف”التيه” بتاريخ 10/8/2009، وكنت مازلت مغامرا أحاور ربى مباشرة قبل أن أخجل وأرضى بتحويل حوارى إليك حياء وأديا، وصلنى حينذاك معنى للفرح وأنا فى ثقب الأبرة، تعجبت فى أول الأمر لكننى عشت المقتطف الذى اخترته من الموقف وأنت تقول فيه:
وقال لى:
“أُقْعُدْ فى ثُقْبِ الإِبْرَة ولا تَبْرَحْ،
وإذا دخل الخيط فى الإبرة فلا تُمْسِكه، وإذا خرج فلا تَمُدّه،
وافرح فإِنّى لا أُحِبّ إلاَّ الفَرْحان.
رحت ساعتها ألامس الخيط الداخل الخارج فى ثقب الأبرة وأنا فيه، يدخل فلا أمسكه وهو داخل، ويخرج لا أمدّه وهو خارج، فيتعمق بى هذا السكون الشديد الثراء، البهيج النبض، اليقظ التلقى، وإذا به يكمل ما قاله لك بعد ذلك أن“إفرح فإنى لا أحب إلا الفرحان” اطمُاننت يا مولانا إلى أن ما مرّ بى كان فرحا من نوع جديد جميل وكدت أصدق أننى يمكن أن أكون أهلا أن يحبنى فعلا، والحمد له وبعض الفضل لك.
أكد لى ذلك فضل برنامج الدخول والخروج التطورى إليه (2)، أنهيت شعورى بهذه الفرحة وأنا فى ثقب الأبرة والخيط يلامسنى دخولا وخروجا لا يجرجرنى إليه ولا يصحبنى معه، حتى أقررت أننى لست فى حاجة إلى غير ما أنا فيه، شريطة ألا أستقر فيه، ثم إن هذا الفرح نفسه صالحنى على الحزن، بل وصل الأمر إلى أن يبلغنى أن حزنى الجاد إليه هو من نوع آخر من الفرح، وأنه يحبنى فى الفرحين: الفرح الحزين والفرح الفرح.
وفى نشرة 5/5/2012 “من موقف التيه” أيضا وكنت لازلت أحاور ربى انتبهت إلى فرح آخر، حين وصلنى قبل فقرة ثقب الأبرة مباشرة ما أبلغك إياه من السماح لمن يحمل جسارة الإقدام دخولا وخروجا، ألا يستأذن –فأى فرحة بهذا السماح وأى خيبة لمن يتردد أن يتمتع بهذه الرخصة، وأنت تقول عنه فى ذلك الموقف:
وقال لى:
وادخل علىّ بغير إذن فإنك إن استأذنت حجبتك
وإذا دخلت إلىّ فاخرج بغير إذن فإنك إن استأذنت حبستك.
الفرحة كانت غامرة حين وصلنى أن الإذن لا يكون إلا منك لا منهم – الأوصياء الحواجز – ومع ذلك فهو لم يطلبه لم يشترطه، وهو لا يحوجنى إليه، بل يوصى أستعمله، ألا ألا أستأذن، وصلنى أن السماح هو مجرد أنه خلقنى بفضله، وكرمنى بالكدح إليه، والعشم فيه وهو لا يردنى إذا دعوته حتى لو أقسمت عليه لأبرنى، ففرحت من جديد وانتبهت كيف أنه علىّ ألا أفرح بالوصل وإنما بالسعى المتواصل، وتعلمت كيف أفرح بالخسارة وأنا أتجاوز العبارة، وتدافعت الفرحات تتلاحق.
وبعد
اليوم عيد الأضحى المبارك، وهديتى للأصدقاء هو أننى أدعوهم لمائدة الفرح بكل تشكيلاته ومباهجه وامتلائنا به حتى يفيض على من لا يتصور أنه أهل له، بل يفيض على من حرم نفسه منه خوفا أو غباء، بل يفيض على من نسيه فأنسيه.
هذه الفرحة لا تحتاج مبررات ولا أسبابا ولا حتى مناسبات – مثل اليوم – فهى زاد كل يوم بل كل لحظة، وهى ليست نقيض الحزن العظيم (السابق الإشارة لبعضه) لكنها نقيض اليأس والانتظار جمودا والحركة فى المحل.
هذه الفرحة هى فرحة خالصة ليس لها سبب محدد، فهى ليست فرحة يما أوتينا ولا بما حقّننا ولا بما أنجزنا، ولا حتى بهذا اليوم الطيب الكريم، مع أن كل ذلك يؤكدها ويعمقها لكن تظل هى هى حتى لو لم يكن وراءها أى من ذلك، وهى معروضة لمن يحمل أمانتها فى أية لحظة طول العمر.
اليوم عيد الأضحى المبارك وسوف أكتفى بهذه الشمس المباركة دون العروج إلى التحذير من أشكال فرحات أخرى، تسمى أيضا فرحة لكن، الله لا يحبها ولا يحب من يتصف بها حتى قال فيهم: “إن الله لا يحب الفرحين”.
اليوم عيد فدعونا نلتقى الأسبوع القادم لتعرف ما هو ضد هذه الفرحة برغم أنها تسمى أيضا فرحة، وهى فرحات زائفة، ساخرة، قصيرة العمر، سلبية النتائج، فرحات “الشتامين” و”المتكبرين” و”الجبناء” و”المتكاثرين” كما جاءت فى القرآن الكريم.
وإلى الأسبوع القادم
[1] – “السلبة” حبل طويل مفتول يستعمل فى الريف لأغراض عدة.
[2] – “in – and – out” program