نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 6-2-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4907
حوار عن الشخصية المصرية والمرض النفسى(1)
أجرى الحوار/ أ. صابر رمضان
****
(1) بداية.. ما أهم مميزات الشخصية المصرية والتى تجعل لها بصمة خاصة تتفرد بها فى رأيك؟
د. يحيى:
أرى أن الإجابة على هذا السؤال الآن ونحن على أبواب سنة 2021 ميلادية لابد أن تختلف عن ذى قبل، وأذكر أننى تناولت هذا الموضوع فى أكثر من مناسبة، وبدون مناسبة، فعملى هو مواجهة هذا السؤال طول الوقت وأنا أمارس مهنتى التى أتعرف من خلالها على الشخصية المصرية بالطول وبالعرض، ليس فقط من خلال المرضى سواء المختبئين فى أعراضهم أو الذى تَعَرُّوا بجنونهم، وإنما أيضا من خلال ذويهم، وما يسردون عن ثقافاتهم الخاصة، وأتابع التغير بدهشة مناسبة، أو بفرحة واعِدَة أما بالنسبة للرد عن الشخصية المصرية الآن: فأنا محكوم بين ما طرأ على ثقافتنا من تغيرات عشوائية كاسحة بسبب استيراد التكنولوجيا التواصلية بهذا الحجم المرعب، بين ذلك وبين هذا الطارق الأخير “جائحة الكورونا”، الذى لم يعرّ الشخصية المصرية فقط بل ربما الشخصية الإنسانية المعاصرة مجتمعة فتزاد الحيرة ويصعب الحكم.
(2) البعض يعتبر المرض النفسى وصمة فى المجتمع المصرى فما ردك على هذا الطرح؟
د. يحيى:
لا أظن أن المسألة مازالت هكذا حتى الآن،
لم يعد الأمر تماما كما كان، فقد انقسم المرض النفسى (فى وعى العامة تأثراً بما شاع أيضا بين الأطباء) انقسم إلى ما يسمى الجنون وهو ما يترادف مع تعبير الأمراض العقلية، وما يسمى على الجانب الآخر المرضى النفسى، أو الحالة النفسية (أو العصاب) وهو ما يجرى على ألسنة العامة باسم الأمراض النفسية، وقد ظلت الوصمة تلحق بالجنون دون المرض النفسى، وإن كانت قد تطلق على بعض الأمراض النفسية الأخف كنوع من الفكاهة أو السخرية أكثر منها وصمة، بل أحيانا ما يصبح المرض النفسى صفة مميزة وتبريرا مناسبا لكثير من الانحرافات الاستسهالية واللذة العابرة، ولسان حال هذا التجاوز يقول: لا مؤاخذة أصلى عندى حالة نفسية.
(3) فى رأيك لماذا يميل بعض الشباب للتطرف وما تحليلك النفسى للمتطرفين منهم؟!
د. يحيى:
التطرف ليس طبيعة بشرية جاهزة، لا فى العلم الموضوعى، ولا فى الأصول الدينية أو الفلسفية، لقد خلق الله النفس وسواها، “فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” ثم أوصى بأن علينا بعد ذلك أن نتعهدها بتنمية تقواها وليس بإلغاء فجورها، وإنما بترويضه ليصبح طاقة يتوقف عائدها على ما تـُـسـَـخَّر من أجله وتتوجه إليه، جنبا إلى جنب مع تقواها وفى المجتمع المصرى الأصيل يصل هنا المعنى الجدلى الرائع، ويترتب على ذلك أنه لا يعتبر المرض النفسى وصمة، أصلا،
التطرف هو الوقوف فى أقصى طرف بعيدا عن نقيضه الذى يقع فى أقصى الطرف الآخر، وهو إعلان لجمود النضج وتوقف حركية النمو، فالإنسان يتأرجح طوال أطوار نموه منذ الولادة حتى الوفاة بين ناحيتين دائمىّ التغير والتنشيط، وهو بذلك يتواصل نموه من خلال التنافر النشط بين النقيضين، وأيضا من خلال برنامج “الدخول والخروج” الذى يعنى أن كل التجارب التى يمر بها الفرد هى مراحل يأخذ الشخص ما يستطيع وهو يحاول أن ينظر فى موقفه منها من جديد، وقد يتراجع إلا قليلا وقد اكتسب خبرة مفيدة، ثم هو فى تراجعه لا يستسلم للعكس بل يواصل الجدل، ليرحل من جديد إلى الناحية الأخرى حاملا ما اكتسب من هذا الضد، وهكذا يتواصل نموه من خلال ما يسمى برنامج “الدخول والخروج” In and out program ، فالتطرف هو ضد الحركة، وليس مجرد جمود الحال عند الموقف الخطأ، والتطرف لا يحتمل النقد ولا التعديل ولا الحوار أصلاً.
(4) وماذا عن اتجاه بعض الشباب أيضا للإلحاد؟
د. يحيى:
فى رأيى أن الإلحاد استحالة بيولوجية، بمعنى أن “الخلية الحية” يستحيل أن تواصل الحياة إذا انفصلت عن علاقتها بدوائر الوعى المتزايدة الاتساع إلى الغيب نحو التصعيد إلى وجه الله بلا نهاية محددة، “ليس كمثله شيء”، والإنسان المعاصر خاصة لم يعد يتحاور مع الطبيعة أو يواكب الإيقاع الحيوى المحيط والممتد من أول حركة الذرة فى مدارها حتى دورات الأفلاك فى الكون وما بعده، مرورا بدورات الليل والنهار والنوم واليقظة، والحلم اللاحلم، وإذا انفصل الإنسان عن أصله، ولم يَسْعَ إلى غاية قَصْده، فإنه يقتصر على ذاته وينكر ما بعدها، فيتقدم وهو ينكر كل ما لا يلمسه ماثلا أمام حواسه الآن، ويبدأ طريق الإلحاد، مع أنه إذا واصل السعى والحوار مع الطبيعة وهارمونية الكون لابد أن يصل إلى الإيمان الطبيعى، من خلال إدراكه ووجدانه النقى، وليس بالضرورة بالمنطق السطحى والبرهان الخائب.
(5) جائحة كورونا أصابت الكثيرين بالهلع فهل الهلع والخوف يزيد من سقف الإصابة بكورونا وكيف نواجه ظاهرة هلع الأوبئة؟
د. يحيى:
الهلع هو درجة قصوى ومفاجئة من الخوف، وهو عادة يتناسب مع درجة الخطر المحيق أو المهدد، لكن إذا زاد الخوف عن طبيعة وخطورة المثير له سمى بالهلع وأصبح وجدانا معوّقا ومعجزّا حتى الشلل عن الفعل وعن الحياة أحيانا، وهو شعور مُعدٍ ينتقل من شخص لآخر، وفى حالة مثل أزمة الكورونا التى نحن فيها حاليا يوجد مبرر للهلع، لأسباب عديدة، منها غموض نوع الإصابة، وتشتت أعراض المرض، وتذبذب مدى الخطوة، وجسامة بعض المضاعفات حتى الموت، أما أن يكون الهلع سببا فى زيادة سقف الإصابة فهذا احتمال بعيد فى الأحوال العادية، لكنه احتمال وارد لأسباب نفسية خافية عن صاحبها إذا كان به ميل لإيذاء نفسه، ولو تهربا من الهلع مصداقا للمثل القائل: “وقوع البلاَ ولا انتظاره”.
(6) ما تقييمك لتعامل الدولة مع حالات مرضى كورونا.. وهل تتوقع زيادة فى الحالات خلال الفترة القادمة؟!
د. يحيى:
أعتقد أن الدولة قد قامت بدورها بشكل طيب، حتى لو لم تكن الاستجابة كما نتمنى وتتمنى، لأن طبع المصريين بصفة عامة هو عدم الالتزام بالضبط والربط من أول نظافة الشوارع أو اتباع إشارة المرور، حتى التداوى العشوائى والمخاطرة بالأرواح بمناسبة وبدون مناسبة.
أما توقعى زيادة الحالات فهذا أمر خارج عن قدراتى، وما تحت يدى من معلومات علما بأننى لا يمكن أن أعتمد على الأرقام الرسمية التى تنشر بشكل رسمى فى مقابل الإشاعات التى تُرَوَّج نتيجة للخوف أو التخويف والتشويه والتآمر.
(7) ماذا تتوقع بعد انتهاء هذا الوباء وهل ستغير هذه الجائحة من سلوك المصريين؟
د. يحيى:
ما أتوقعه غير ما أتمناه.
فالشعب المصرى له قدرة رائعة على احتواء الصدمات والخروج منها بإيجابيات غير متوقعه، وإنى آمل أن نتعلم من هذه المحنة، مزيد من التقرب إلى الله الذى بيده إزاحه كل غمة وكارثة، وأن نتعلم المزيد من الحرص على النظافة الشخصية والعامة، ومزيد من التقارب فيما بيننا حتى لا يحل الخوف من هذا الضيف الثقيل – أعنى الوباء – (برغم خفه وزنه) محل التقارب الإنسانى الكريم الحميم.
(8) ما أهم الأسباب وراء اتجاه البعض لقتل النفس وتزايد معدلات الانتحار فى الآونة الأخيرة من وجهة نظرك؟
د. يحيى:
بصفة عامة: مازالت معدلات الانتحار فى مصر أقل من كثير من بلاد العالم، والحمد لله، ولست متأكدا أن ما يشير إليه السؤال هو يتفق قليلا أو كثيرا مع ما يبلغنى وأتابع من أرقام وإحصاءات رسمية، أو من خلال مصادرى الخاصة المتواضعة، ويمكن أن تعرَى الزيادة إذا ثبتت صحتها إلى ضعف الوازع الدينى، وزيادة اليأس من انفراجة كافية لتزايد مصاعب الاستمرار فى الحياة مع قسوتها المتزايدة اقتصاديا وإنسانيا.
(9) هل القلق من الممكن أن يؤثر على كفاءة الجهاز المناعى لدى الإنسان وسط الأنباء المتداولة عن كورونا؟!
د. يحيى:
نعم يؤثر، خاصة إذا زاد عن حجم المثير المُقلق، فلو ربطناه فى حالة كورونا بمتابعة أرقام الإصابة، فربما كان قلقا مقدورا عليه، أما إذا ارتبط بعدد الوفيات فإنه يقفز إلى درجات خطرة تؤثر على المناعة ونصف.
(10) هناك البعض من المصابين بالوسواس القهرى من يتوهمون إصابتهم بكورونا دون إصابة فيكف يمكن علاجهم؟!
د. يحيى:
هذا صحيح، لكن توهم المرض هو أخف من الإصابة به، وأيضا من التفاعل لفقد عزيز، ولا شك أن ما ذكرناه سالفا من غموض المعلومات، وغرابة الوفيات، والانتشار العالمى غير المسبوق كل ذلك مصدر للرهاب الاجترارى أو كليهما، وهذا يجعل من عنده استعداد للوسواس يضاعف مخاوفه، وحساباته أضعافا كثيرة، وبالتالى تظهر أعراض الوسواس القهرى التسلطى.
(11) ماذا عن دراساتك حول مفهوم (نقد النص البشري) كطريقة للعلاج النفسى وماذا تقصد بهذا المصطلح وكيف يكون الإنسان الفرد نصا؟
د. يحيى:
فى ممارستى النقد الأدبى على مدى نصف قرن، رحت أصاحب أى نص أدبى على أنه كائن حى، استلهمه واحاوره، واستخرج من بين سطوره ما لم يصرح به المؤلف، وكأنى أعيد تخليقه دون المساس ببكارة عطاء المؤلف وإبداعه، وقد حضرنى أثناء ممارستى مهنتى، وخاصة فى العلاج الجمعى أننى أقوم بنفس الدور مع هذا النص البشرى الرائع “الإنسان” الذى خلقه الله فى أحسن تقويم، ثم هو آل إلى ما آل إليه من مرض وسلبية بالعجز والضعف، والاستسلام والتبرير، فهو المرض سواء كان ذلك نتيجة سبب موضوعى أو بدون ذلك، فرحت أحاوره وعيا لوعى، فى حركية متتالية لأعيد تشكيله وتشكيل نفسى فكان هذا المصطلح.
(12) كتبت فى كتابك (تزييف الوعى البشرى) عن انقراض الإنسان فهل البشرية تنتكس ام تتقدم ولمادا وكيف النجاة من ذلك؟
د. يحيى:
بصراحة، لقد فرحت أن يقع هذا الكتاب بالذات فى دائرة اهتمامك ذلك لأنه صدر حديثا، برغم أنه كان تجميعا لسلسلة مقالات صدرت لى قبل ذلك فى مجلة سطور.
أما عن محتوى الكتاب فهو ترجمة لمخاوفى، التى نتجت عن ما وصلنى من حال هذا الكائن البشرى المعاصر مؤخرا، ومدى ما غرق فيه من غرور أعمى وقسوة عشوائية، وخصام مع الطبيعة، واستهانة بالأرواح وتسليم للمادة، وقد أرجعت أغلب ذلك إلى نشاز فى هارمونية وجوده حين طغى جزء أحدث من المخ على سائر الأمخاخ، التى تضاءل دورها حتى كادت تضمر، كل هذا هو ما جعلنى أطلق هذه الصيحة، ومن ثـَـمَّ هذا الكتاب.
(13) ماذا عن كتابك (عندما يتعرى الإنسان).. ما أهم فكرة أردت طرحها خلال الكتاب؟!
د. يحيى:
هذا هو أول كتاب حاولت فيه أن أبلغ رؤيتى الباكرة التى وصلتنى من مرضاى أبلغها إلى “من يهمه الأمر” لمن لم يمرض أساسا، وقد كتبته وأنا فى مهمتى العلمية فى فرنسا سنة 68/69، لمجرد أنه كان عندى الوقت الكافى للكتابة، وليس تأثرا بتعرضى لثقافة مغايرة، وهو مازال من أحـَـبِّ كتبى إلىّ رغم مضى نصف قرن عليه، كما أنه مازال الكتاب الأكثر رواجا من كتبى حتى الآن، وهو حوار بين “حكيم وفتى” يطلب المعرفة عن طبيعة الإنسان وكيف يتناول فرع الطب النفسى هذه الطبيعة فى الصحة والمرض، والرحلة ما بينهما.
(14) ماذا عن تجربة التصوف فى حياة الدكتور يحيى الرخاوي؟!
د. يحيى:
التصوف هو طريق معرفة أعمق وأشمل، وأصدق وأخطر، وأنا لا أدعى أننى سلكت هذا الطريق، لكننى فخور بأننى “مريد” لكل رائد سلكه بجدية وحب ومثابرة من أول “آنا مارى شيمل” فى كتابها بعنوان “الأبعاد الصوفية فى الإسلام ، وتاريخ التصوف”) منشورات الجمل: كولونيا بغداد 2006، ترجمة محمد إسماعيل السيد، رضا حامد قطب 2006)، وحتى كتابَىْ “المواقف والمخاطبات” لمولانا “النفرى” الذى استلهمه أسبوعيا، لأواصل الحوار معه أسبوعيا فى موقعى الخاص www.rakhawy.net منذ سنة 2009 وحتى الآن
(15) لك خمسة دواوين شعرية بالعامية والفصحى ماذا عن الشعر فى حياتك؟! وهل أردت توصيل رسالة من خلال الشعر لم تستطع توصيلها بالعلم؟!
د. يحيى:
طبعا، وإن كنت لا أدعى أننى شاعر، ولى قصيدة بعنوان “ياليت شعرى لست شاعرا”، وبرغم شهادة الراحل الجميل عبد الرحمن الأبنودى وهو يصدر إهداء بعض أعماله لى يصفنى فيها بكرم زائد قائلا: “إلى الشاعر الواعر” يحيى الرخاوى، ولعل هذه الشهادة هى التى شجعتنى أن اسمى بعض إبداعى شعرا، أما عجزى عن توصيل رسالتى نثرا فهذا وراد، فهى رسالة ثقيلة طويلة، والشعر أقدر على الإيجاز والاختراق، وحين حاولت أن أشرح ديوانى الذى حملته هذه الرسالة وهو ديوان “سر اللعبة” وقع الشرح فى أكثر من ألف صفحة، وخرج بعنوان “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” شرح ديوان “سر اللعبة”.
(16) اخيرا.. ما مشروعك الفكرى الذى مازلت تسعى لتحقيقه؟!
د. يحيى:
هو كل ما جاء فى هذا الحوار، وأنا أجمعه الآن لأنشره على مسئوليتى، وقد بلغ (62 كتابا) حتى الآن، ومازال الجمع والتنظيم والإعداد مستمرا لما تبقى ولم ينشر، ودعنى أرسل لك بيانا بالكتب المنشورة المتاحة حاليا دون الكتب تحت النشر والإعداد.
[1] – نشر الحوار بجريدة الوفد بتاريخ 14-1-2021