نشرت فى الدستور
12/12/1997
حلقة ذكر “نقدى” فى رحاب “مولد” نجيب محفوظ
لا يقام مولد سيدنا الحسين فى تاريخ خروجه -رضى الله عنه- من بطن مولاتنا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا مولد السيدة نفيسة, أو قطب الزمان سيدى ومولاى أحمد البدوى، فى يوم ولادتهما تحديدا, وكل من هذه المباهج والذكرى هو مولد وليس عيد ميلاد,
وقد شاءت ظروف هذه السنة الصعبة أن يأتى ما يسمى عيد ميلاد شيخنا الجليل نجيب محفوظ بعد كارثة ملأت قلوبنا حزنا ليس كمثله شيء, فكان ما كان من عزوفه عن الاحتفال به, وعجزنا عن الفرحة معه.
ومع تدهورنا المتنامى، ورقصنا على السلم بين تقاليد غربية مستوردة, وقهر دينى مكتسب (سلطوى وجماعاتى معا), بدأت قيمة الموالد التى تجمع الناس مع بعضهم البعض , الناس الأحوج إلى أن يحجوا من الصعيد إلى السيد البدوى، ومن وجه بحرى إلى سيدى عبد الرحيم القناوى، بدأت قيمة هذه الموالد تتضاءل لحساب أعياد الميلاد الزينة, وقطع الفطائر ذات الألف ورقة (الميل في), وإطفاء شموع لا تستحق الإضاءة أصلا.
وحين عرفت شيخى الجليل نجيب محفوظ, وجدت موقفه من عيد ميلاده هو موقف الإنسان الخجول المتواضع الذى لا يريد أن يحرجنا برفض صريح, وإن كان قد حكى لى – بعد أن صرت حرفروشا – كيف كانوا يحتفلون – أحيانا – بعيد ميلاد أحد الحرافيش فى خيمة بالهرم, ثم جاء عيد ميلاده هذا 1997 وكارثة اكتوبر ساخنة جاثمة قبيحة , ينبعث منها نتن التخلف و التسيب وعفن الغباء والعمى، فأعلنها شيخنا ببساطة وحزم أن “لا” – واحترم الجميع هذه الـ “لا”, وراح كل يتحايل على وسيلة يبلغه بها أمانيه الطيبه, وتذكره بدوره بيننا, ومن ذلك ما فعله “الدستور” من نشر بعض القراءات النقدية لأعماله, ورجحت أنه تقليد طريف, ومناسب, وبدأت أفكر فى طريقة أخرى للاحتفال بمثل هذه المناسبات لأمثال هؤلاء العظام أصحاب الفضل, فاكتشفت أن خير ما نبدأ به مثل ذلك هو أن نحتفل بأن الله سبحانه قد أهداهم إلينا فى هذه الدنيا, وتصورت أن هذا هو معنى المولد الذى يحتفل به الناس جماعة وليس معنى الميلاد وعيد الميلاد, وتصورت أن ما يناسب شيخنا أكثر هو أن ندور حوله يهتف أحدنا: “يارب ياربنا”, فنرد عليه معا: “حمدا لما منحتنا”, وابتسمت, ولم أجرؤ أن أبلغ هذه الصورة لشيخنا هكذا, ثم تدرجت بى الفكرة إلى نوع أفضل من حمد الله , وهو أن نعرف قيمة ما أنعم الله به علينا بوجود شيخنا هذا فى عصرنا هذا, وحتى تتضح الصورة حاولت أن أصور مصر, وأتصورنا, وأتصورنى بدون نجيب محفوظ, ياخبر أى نعمة فعلا أسبغها الله علينا بوجوده بيننا !!!!
كنت أعرف نجيب محفوظ روائيا, ولم أحضر – أو لعلى تجنبت أن أحضر- له أى لقاء مباشر, لا فى قهوة ريش ولا فى غير ريش, اللهم إلا لقاء عابرا فى أوائل السبعينات فى الأهرام, ويبدو أننى قد تجنبت ذلك لخوفى على صورته التى رسمها له خيالى، ,ثم عرفته مؤخرا إنسانا مثل سائر البشر, يأكل ويشرب, يبتسم ويقهقه, يتألم ويأمل, ومع زيادة اقترابى منه تحققت صورة كان خيالى قد رسمها لعلاقتى به وأثبتــها فى كتابى عنه (قراءآت فى نجيب محفوظ: الهيئة العامة للكتاب 1992).
وإذا بالسميع العليم يحقق هذه الصورة تحديدا, سبحان الله, ذلك أن من يرانا هو و وأنا الآن ونحن نخرج من موقع مجلسنا أيا كان, وهو مندفع بنشاط فتوة الشيخوخة اليقظة يكاد يسحبنى لألاحقه, ثم الذى يتتبع نقاشنا مع الأصدقاء والحرافيش, لا بد أن يوافقنى أن حدسى السابق لم يخطئ أية تفصيلة
ثم أرجع إلى المولد النقدى الذى فضل الدستور أن يقيمه لأستاذنا فى “حلقة ذكر” “مولده” (وليس ذكرى ميلاده) فشكرت لهم ما قامو به من حيث المبدأ, إذ شعرت أن أسعد ما يسعد مبدع هو أن يوصل لنا رسالته, ونجيب محفوظ له رسالة لا جدال حولها, غايتها الإيمان ووسيلتها الحرية, وحدث فى ذلك ما شئت, وصنــف من أشكال وسائلها ما يخطر على بالك وما لا يخطر, هو لم يفعل شيئآ فى حياته إلى أن يؤكد أن الحرية الحقيقة, الحقيقة جدا, الحقيقية جدا جدا, لابد وأن تصل بالإنسان إلى الإيمان الحقيقى، الحقيقى جدا, الحقيقى جدا جدا جدا إلى ما شئت, وقد استعان على ذلك بكل أداة ووقت, كان هكذا دائما كل دقيقة , فى صحوه ومنامه, فى حلمه ويقظته, فى إبداعه وسيره, لم يتخل أبدا عن هدف الإيمان , ولم يتنازل أبدا عن وسيلة الحرية, ولا أنكر أنه أغاظنى ويغيظنى أشد الغيظ من فرط يقينه بهذا وذاك.
وقد أعجبت بهذا التقليد الذى خطر لشباب الدستور وهو أن يحتفلوا بعيد ميلاد نجيب محفوظ بحسن قراءته, وإعادة قراءته, فصدر العدد الماضى من الدستور وبه ست قراءات فى ست أعمال هى اجتهادات محمودة كلها, جميلة أغلبها, وقبيحة ومرفوضة إحداها.
قلت فى نفسى، هذا هو, فلتكن تحيتنا له هى أن نضاعف الجهد فى حسن استقبال رسالته, وقلت إن خير ما أساهم به هو أن أعيد قراءة ما كتب فى الدستور عن هذه الأعمال الستة حيث أننى من المؤمنين بأن الأعمال الخالدة ينبغى قراءتها دائما دون توقف.
وهأنذا- فى حلقة ذكر مولد نجيب محفوظ- أقدم قراءتى لهذه القراءات الست:
أولا: إبراهيم عبد المجيد فى خان الخليلى
قدم ابراهيم عبد المجيد بمنتهى الحب والأمانة نجيب محفوظ باعتبار أن أدبه قد أسهم فى صياغة وتشكيل وعى جيله, بالصورة الأمينة التى حكى عنها, فتذكرت بدورى كيف تفتحت سنة 1948 على السراب بعد القاهرة الجديدة, وشكرت لإبراهيم كيف أبان كيف تحضر الكلمة الصادقة الجميلة فى وعى المراهقين والشباب حالة كونهم يتشكلون بكل هذا الحضور الحى الذى هو “أوقع من الواقع” , ولا يتم ذلك إلا حين تكون الكلمات كائنات حية لا مجرد رموز دالة , وبالتالى يكون خيال المتلقى وعيا حاضرا, لا فهما جافا, وهكذا يصبح الأدب هاديا ومعينا لإتخاذ قرارات مصيرية, وحين يستعمل القارئ (مثلما فعل إبراهيم عبد المجيد) أستاذه المبدع فى حواره مع حبيبته أو مشروع خطيبته, فهو يعايش شخوص الرواية وكأنهم أهل بيته, وهكذا يحضر المبدع بكل صدقة وجماله ووعوده وإيلامه فى وعى المتلقى فيصبح فاعلا رائعا بناء ماهرا لكيان إنسان يتخلق, ثم إنى لاحظت أمانة هذه القراءة التى قدمها إبراهيم وهو يعلن مدى تأثره بأستاذنا , تأثره الذى يعرفه, والذى لا يعرفه, حتى يصل به الأمر -من فرط الأمانة والمعايشة – إلى أن يتوقع تسحب نص جميل يملؤه إلى ما سيؤلف فيما بعد , لاحظ جمال الأمانة وهو يقول” والسطر الأخير فى خان الجليلي…. لايزال يخايلنى ولابد أنه سيتسرب إلى إحدى رواياتى يوما…. !!!
هكذا وصلتنى يا إبراهيم فرحتك بمولد شيخنا, ففرحت معك , وبك كما سبق أن احتلفلنا برائعتك “لا أحد ينام فى الاسكندرية” . وحين قرأتك يا ابراهيم وأنت تقرأ خان الخليلى كدت أسعل كما كان يسعل أحمد عاكف بلونه الشاحب ومرضه السارى، يا للمشاركة, كل عام وأنت هكذا جميل أمين ,وأستاذنا يحيط بنا أكثر حنانا وعطفا.
ثانيا: د. شاكر عبد الحميد يذكرنا بالسراب ولا يقفل الباب
أرجعنى الدكتور شاكر عبد الحميد إلى كامل رؤية لا أظن إلى السراب, وهى ثانى رواية أقرأها لشيخنا الجليل وأنا بعد فى الخامسة عشر من عمرى, وبدقته المعهودة, ورقته البادية ركز د.شاكر على وجه الوهم وأشكال السراب الخادعة المتعددة فى الرواية, كما ربط وقارن – لا أظن بوجه حق كاف – بين الشخصية التى حكى عنها المؤلف فى الواقع, وكيف ظهرت فى الرواية, ثم أنهى قراءته بما هو خليق أن يحفزنا للقراءة تلو القراءة من أكثر من زاوية حين قال: “و”تظل السراب قادرة على إلهامنا بتفسيرات جديدة للواقع والحياة, فى الماضى والحاضر وتظل السراب رغم كل ما قلناه من تفسيرات تتجاوز كل التفسيرات”
وقد تأكد لى فى قراءتى الأخيرة (1997), أن الفكرة المحورية فى هذه الرواية ليست فى انطوائية كامل رؤبة أو عجزه الجنسى، كما أنها ليست فى سراب حلمه وحلوله محل واقعه. ولا هى فى تعلقه بأمه (أورست أو أوديب) , وإنما هى فى رفض أمه أن تتركه يستقل عنها, هى رواية تفسر عسر الولادة النفسية التى طالت إلى ما يقرب من ثلاثين عاما, والولادة المتعسرة (البيولوجية) تحيط بها مضاعفات عديدة: إما موت الجنين أو موت الأم, أو موتهما معا, أو أية مضاعفات أخرى لاحقة وباقية. وقد كانت مضاعفات هذه الولادة النفسية المتعسرة طوال ما يقرب من ثلاثة عقود هى الفكرة المحورية فى رواية السراب, ثم لابد من إشارة لما جاء فى البداية حين بدأ كامل رؤبة يكتب ذكرياته, وكيف أن هذه الكتابة كانت بديلا عن الانتحار, وأحسب أنه لو نظر كل مبدع فى نفسه فقد يجد هذا البعد ماثلا بما يستحق الملاحظة والوعى فالتفجر. إما الكتابة أو الانتحار (جاهين: يا عندليب ماتخافشى من غنوتك- كتم الغنا هواللى حايموتك)
ثالثا: سيد خميس وهو ينهل من محفوظ ما يشاء, لا ما هناك
سعدت بربط سيد خميس بين سعيد مهران وأدهم الشرقاوى، وإن كنت لا أرتاح عادة لاستعمال نجيب محفوظ لتفسير كل شيء هكذا دون استثناء, الأمر الذى قلت فيه يوما: “خذ من محفوظ ما شئت لما شئت”, فإذا أراد غالى شكرى أن يجعله يساريا مائه فى المائة, فعلها وكتب ” المنتمي”, وإذا أراد د. محمد حسن عبد الله أن يجعله داعية إسلاميا, فلا بأس وهات يا روحانية. وهذا هو سيد خميس يوازى (دون تطابق) بين سعيد مهران (اللص والكلاب) وأدهم الشرقاوى (يالله!!)., حتى لو كان نجيب محفوظ هو ابن الحارة المصرية القاهرية جدا, ومعايش فتوات الحسنية, وعاشق الملاءة اللف, وأنه ليس له أى علاقة لا بأدهم الشرقاوى ولا بالزناتى خليفة إلا أنها تحية سيد خميس لاستاذنا فى عيد ميلاده وقد بدت لى مقبولة مثل الأصابع المملحة (باتون ساليه) يالله !!
رابعا: بلال فضل وهو يصلى فى محراب الليالى:
ثم كم فرحت ببلال فضل هنا, لأسباب كثيرة لن أستطع أن أعددها, فقد كنت أشفق عليه كلما حادثته فى الدستور أو قرأت له, حتى تصورت أنه ليس لديه الوقت ليقرأ حرفا لنفسه, وإذا بى أكتشفه هنا كذا, وقد قدم نفسه بإعتباره قارئا راح – بتواضع حقيقي- يقول أنه قرأ الليالى مرة, ثم قرأها وقرأها وقرأها, حتى أضاءت له ما قرأ بعدها, وهو يذكرنا ويعلمنا -دون قصد فى الأغلب- كيف ينمى الشباب وعيه الناقد, وكيف تضيء
قراءة سابقة القراءآت اللاحقة , ثم هو يلتقط بعدا رائعا فى الليالى حين يخلع عن شهريار قناع القاتل الغيور ليبدو إنسانا كلما جاءه الليل يتبين أنه رجل فقير, فقير إلى الناس, إلى الشوفان إلى الأمان
فرحت بك يا بلال لدرجة أننى قررت أن أحيلك إلى قراءة سابقة لى فى هذا العمل الرائع بعنوان” القتل بين مقامى العبادة والدم” (المرجع السابق) حيث أكتشفت من خلال هذا العمل الخاص, غور شيخنا القوى العنيد, هذاالغور الفتى المقتحم, وتعرفت من خلال الليالى على ذلك الانسان الجسور المحارب القاتل إذا لزم الأمر وتعجبت كيف نجح شيخنا أن يخفى كل هذا وراء حضوره الدمث الهاديء الطيب الرائق طول الوقت, وقد حاولت من خلال قراءتى هذه أن أشرح كيف يمكن أن يتحور الإقدام حتى القتل إلى مقام العبادة دون الدم, ليس بالتسامى الذى زعمه فرويد ولكن بالاقتحام الإبداعى، والحضور المتميز المقدام, وقد حضرنى هذا المعنى أكثر فأكثر بعد حادث الأقصر , وبعد كل مشهد من مشاهد ضياع الشباب , حين لا يعرفون سبيلا للتعبير وتأكيد الذات إلا بإراقة الدماء وقتل الأبرياء دون الإبداع واقتحام الغيب سعيا إلى وجهه تعالى .
فى هذا العمل يا بلال عددت القتلة: هكذا:,شهريار-صنعان الجمالي-جمصة البلطجي-(= عبدالله الحمال = عبد الله المجنون البري) -جلنار- سمار حفل سهرة اللسان الأخضر(شروع) -المعين بن ساوى (شروع)-فاضل صنعان, هذا فضلا عن أحكام الاعدام التى تبدو أحيانا قتلا, وأحيانا قصاصا, وأحيانا تكفيرا, هذه الأحكام التى اغتالت: علاء الدين أبو الشامات (شهيدا) وحسام الفقى، والمعين بن ساوى، ودرويش عمران وابنه , وحبظلم بظاظة عقابا, وفاضل صنعان (تكفيرا)- أما القتلى الضحايا فيشملون الأبرياء والمقتولين وبالصدفة من أول الطفلة المغتصبة ثم على السلولى، كرم الأصيل-زهريار-شملول الأحدب (مع وقف التنفيذ!!) يوسف الطاهر-قوت القلوب (مع وقف التنفيذ ثم القضاء عليها بالسم) علاء الدين أبو الشامات-المعين بن ساوي-درويش عمران-حبظلم بظاظة, توأم شاور العجان بائع البطيخ (إعدام بتهمة باطلة) (حتى وفاة قمر العطار بالسم كانت تعتبر قتلا أيضا).
ألست معى يا بلال أن من عاش هذا القتل إبداعا جميلا هكذا , لن يحتاج أن يمارسه فعلا مجرما منفصلا عن كل عبادة وكل رحمة وكل تكامل , فكيف نوصل هذا إلى شبابنا, أليست محاولاتنا هذه هى أحسن تهنئة لشيخنا يوم مولده؟ نجيب محفوظ يا بلال كما عرفته من إبداعه, ثم فى حضوره الإنسانى البشرى المتواضع, مؤمن إيمانا يملأ الأرض والسماء , وهذا الإيمان هو الذى ارتقى بالقتل فى الليالى ليظهر وجهه الآخر, فيستبدل إسالة الدماء بمعاناة واقتحام مسالك الإيمان ابتغاء وجهه, أليس هذا هو وجودنا البشري: بين مقامى العبادة والدم, دون تسطيح مثالي.
أكرم القصاص وحلم الفقراء فى الحرافيش
ولا أجد فى نفسى ميلا إلى الوقوف كثيرا أمام قراءة أكرم القصاص للحرافيش, فأنا لا أنكر هذا البعد الذى أورده عن العدل المنشود ومعاناة الفقراء, إلا أننى أخالفه إذ أننى لم أفتقد أبدا دور الحرافيش طوال الملحمة رغم التركيز على الفتوات وعائلة عاشور الناجى، ولست أدرى أين وضع القصاص عاشور الناجى والصالحين من ذريته, هل هم من الحرافيش أم لا , ثم إن الجزء الوحيد الذى تحفظت عليه شخصيا فى هذه الملحمة هو الفصل الأخير, فأنا لم أستسغ حكاية التوت والنبوت هذه , وأنا أعرف عن نفسى كيف أتحفظ على كثير من نهايات محفوظ, وأرجع ذلك إلى التزامه الشخصى بقضية العدل والناس المساكين حتى يكاد يجد صعوبة فى ترك النهايات دون إنصافهم, ثم إن الحرافيش بالذات, وهى خلاصة تاريخه, بها من الأعماق والدورات ومواجهة الموت والحياة وكشف سابع قاع فى النفس البشرية والوجود ما يجعل هذا البعد الجيد مجرد بعد جيد.
أيمن شرف: لا , عيب كذا !!
أجلت الحديث عن هذه القراءة حتى النهاية لأننى لو كنت بدأت بها لما أكملت تحرير المقال, فقد رفضت هذه القراءة جملة وتفصيلا, حتى أننى أشعر أنها لا تستأهل مجرد ذكرها بين القراءات فى حلقة مولد شيخنا, ومع ذلك فلا بد من تصحيح:
وقد بدأ رفضى منذ اكتشفت كذب العنوان على الصفحة الأولى ” من هم الأبطال الحقيقيون لرؤية أولاد حارتنا؟” فالقارئ يتوقع من العنوان أن يذكر الناقد أن أبطال أولاد حارتنا كانوا ممن عايش أستاذنا فى الحسين أو العباسية ..إلخ وليس كما أشاع السفهاء من أنهم الأنبياء وكذا وكيت, وإذا بالمقال يكرر هذا الخرف الذى شاع عن هذا العمل لا أكثر ولا أقل, وهو يكرره بشكل ساذج ومعاد, وينسى الكاتب توقيت نشره, وينسى الحادث وغباء مقترفيه وأنهم لا يقرؤون أصلا , وينسى كيف اختزت أولاد حارتنا بالذات إلى سوء الفهم الذى قدمه, وينسى أن الاختزال وسوء الفهم هذين هما ما أديا إلى محاولة الاغتيال , فقراءة أيمن هذا , فضلا عن أنها لم تضف جديدا إلى الخرف الذى شاع, فهى لم توفق فى التوقيت , فإذا كان قد تصور أنه اكتشف أن محفوظ كان يحاول فى هذا العمل أن يوفق بين الدين والعلم فإنه لم يضف أى جديد لما هو معروف عن محاولات محفوظ فى جل أعماله فى هذا الاتجاه.
أكثر من نصف صفحة يا أيمن لتقول كلاما مرسلا معادا مختزلا بلا عمق ولا احترام ولا تقدير لحادث الأقصر ولا فهم لمسئولية الكلمة , ولا تتذكر أن مثل هؤلاء الشباب المضلل الذى اعتدى على الأستاذ والسياح قد يقرؤون كلامك- مرة ثانية- ليبرر لهم ضلالهم يا أخى , ما هذا؟
أقسم بالله لو أننى أحبك أكثر, لحضرت إلى الدستور لآخذ حقى منك متسائلا ما الذى جعلك تسقط هكذا؟ ما هذا؟ من تخاطب؟ ومتى ؟ ماذ أضفت ؟ لماذا؟ ما وظيفة هذا الآن ؟ من أنت حتى تضع عنوانا فى الداخل وكأنك فى مولد تخلع الأسنان من غير ألم, وكأنك تسوق لشربة الحاج محمود, ما هذا ؟: موسى نبى عيسى نبى , محمد نبى، وكل من له نبى يصلى عليه.
يا أيمن يا إبنى: الجبلاوى هو الجبلاوى , وأدهم هو أدهم, وإدريس هو إدريس, وكل من يؤول أو يقول غير ذلك فعليه هو أن يتحمل مسئولية تأويله, المبدع يستلهم كل مصدر, وهو يلتفت حوله, فيجد قصة الإنسان والخلق والخير والشر تعيد نفسها فى كل دورة, فيطلق لخياله العنان , وينسج ما شاء من رؤى كما شاء, ويبدع بخياله ما يخطر له من شخوص, ثم يتلقى كل متلق من كل هذا ما شاء لما شاء, هؤلاء الأشخاص الذين فى أولاد حارتنا , هم الذين فى أولاد حارتنا, يمكن أن يوجدوا فى أى مكان وزمان , بهذه الصورة التى قدمها خالقهم المبدع, أما الاستسهال وإرجاعهم إلى قصص الأنبياء فهذه مسئولية من يفعل ذلك, مثل من رأى أن حميدة فى (زقاق المدق) هى مصر , فيبتسم الأستاذ ولا يعقب.
أرجع وأقول -بكل عشم وشجاعة ومسئولية- كما يقولون فى بلدنا: العيب ليس عيبك, ولكن العيب على من سمح لك بهذا, على من أعطاك هذه المساحة, على من لم يقرأ مقالك بمسئولية تناسب التوقيت والموقف, وأقسم بالله أنك لو رأيت الألم الذى اعترانى واعترى شيخنا الجليل وأنا أقرأ له بعض ما كتبت, لتوقفت عن الكتابة بعد ذلك عشرين سنة على الأقل حتى تعرف مسئولية الكلمة,.
ومع ذلك فلعلمى بشيخنا الذى غفر لمن طعنه أمام الله وأمامى فإنه لا بد مسامحك, لكننى أنا لا أكذبك, لو أحببتك أكثر , فسأحضرلاعاتبك, فإن أحببتك أكثر ربما صفعتك.
يا شيخنا الجليل , هل تقبل منا هذه الباقة من النقد, وهل تسمح لنا أن نختلف حولك هكذا ونحن نطلب منك أن تعيش لنا عاما آخر وأعواما كثيرة, ونبتهل إلى الله أن يستجيب.
يارب احفظه لنا, واحفظ مصر به وبأمثاله, واغفر لهم فإنهم لا يعلمون