الأهرام 23/8/2004
حكومة ذكية أم دولة منتجة؟
يحلم أهل الذكاء الاصطناعى – حاليا- أن يكتسب الحاسوب ما يتميز به الوعى البشرى وليس فقط العقل البشرى- من القدرة على الإبداع، وعلى الخطأ، وعلى الفلسفة، وعلى التساؤل، وعلى نبض الوجدان.. إلخ. نأمل أن تكون الوزارة الجديدة أقرب إلى الوعى البشرى منها إلى الحاسوب.
حين تم التغيير الأخير أمل الناس خيرا فى أن ضخ الدم الشبابى الجديد إنما يعلن أن ثمة اختراق قادم، وليس مجرد إسعاف طوارئ أو تصحيح أخطاء. لكن الحديث تمادى عن الوزارة الإلكترونية، والحكومة الذكية، والكفاءة الحاسوبية .. إلخ. هل هذه هى أولويات ما نحتاج إليه؟ هل هذا هو الذى سيجعل خريج الجامعة يكتب الجملة الفعلية دون فعل؟ هل هذا هو الذى سيغير قيمتين أصبحتا تميزان الثقافة المصرية المعاصرة فى كل مراحل العمر تقريبا من الابتدائى إلى المعاش!؟ وهما “الكسل” و “الغش”، وهما تدرجان تحت عنوان الشطارة، إن الجهد الذى نبذله حتى “لا نعمل” يكاد يفوق الجهد الذى كان يمكن أن يبذل فى العمل، إن المتابع لما آل إليه الحال لابد أن يدرك أن هناك خطأ جسيما قد تغلغل فى نسيج ثقافة مجتمعنا، لن تصلحه زيادة اعداد المحمول أوالمحطوط ولا توفير كابلات التواصل ولا تلفيق الأرقام لإرضاء البنك الدولى أو الكونجرس الأمريكى؟ نحن أصبحنا لا نعرف لا “ثقافة الإنتاج” ولا ” ثقافة الإبداع”.
لابد أن هناك شيئا فى ثقافة الصين على ناحية وثقافة الهند على الناحية الأخرى وصل بالإنتاجهما إلى المستوى الذى وصل إليه، لابد أن صاحب المصنع على الجانيين قد نجح أن يعرف أن ما يفعله فى مصنعه إنما يصب فى نوع وجوده مواطنا وشرف كونه بشرا،ليصب هذا وذاك فى نجاح ومكسب لتتواصل المثابرة ويطرد الإبداع، فيصبح لبنة فى صرح بلده، لابد ان العامل على الجانبين قد ربط بشكل ما، بين وقته وعمله ومهارته، وبين مبرر استمرار حياته كريما منتميا فاعلا.
“العمل- الوقت – المهارة – الإبداع – الانضباط – العدل”، لابد ان هذه هى القيم التى جعلت الصين الديمقراطية تنافس أمريكا اقتصاديا، يستحيل أن يوصف نظام ينجح أن ينتج كل هذا الانتاج وأن يصحح نفسه كل هذا التصحيح، وأن ينافس كل هذا التنافس، بأنه “شمولى بأنه شمولى كما اعتدنا أن نستعمل الكلمة، كما يستحيل أن تتفوق الهند بكل ديمقراطيتها كل هذا التفوق الإنتاجى والإبداعى ثم نتهم الديمقراطية بأن بها ثقوبا هى التى تسمح بتهريب رأس المال إلى الخارج أو شراء الأصوات، أن مجرد النظر هذين النموذجين المتناقضين ظاهرة لابد أن ينبهنا أن المسألة أعمق من تبريراتنا بكثير.
وصل الأمر من فرط حاجتنا الى حل برئ جديد أن أعلن أحدنا (جمال الشاعر الأهرام 10 الحالى) أن الشعب المصرى فى انتظار وزارة “المجانين”.. استقبلت ذلك باعتباره صرخة تحذر من لاجدوى الحلول الباهتة أو الترقيع أو التقليد أو الذكاء الكمى.
آن الأوان أن نكف ن ترديد الشعارات الجاهزة تبريرا لما نحن فيه، دون تمعن فى نجاح النظم المختلفة المتنافسة، ما أسهل إعلان ان الديمقراطية هى الحل، أو أن الإسلام هو الحل، وما أصعب ان نشترط أن نرى الحلوى انتاجا فى الأسواق، والتزاما فى العمل، واستمتاعا بالحياة، واحتراما لبعضنا البعض.
نحترم مثلا هيبة الدولة لأنها تحترم حقوق الناس، فننتج فنكافأ فنبدع، فيعيش، فنستمر، فننتصر فنرتقى و.. و.. و.. وهكذا!!