نبذة: تأكيد جديد على أن حقوق الانسان تتجاوز تلك المرصودة فى المواثيق المكتوبة، وأن الوعى بالحق (المكتوبة والمعترف به من خلال التقاليد وفهم ماهيه النظرة السليمة (هو السبيل لإقراره حتى لو لم يمكن التمتع به “الآن”
الاهرام: 12-8-2002
حقوق الإنسان: بين الإعلان والتطبيق
حين كتبت فى هذا الموقع عن “الحق فى الحلم”، ثم أشرت فى المقال السابق إلى “حق الدعاء” و”حق الاستجابة”، كنت أنتظر بعض ما جاءنى من تساؤلات، مما يحتاج إلى إيضاح.
أعلم أن أى اختلاف عن النمط الموضوع لنا – فى معظم أمورنا – هو أمر يثير القلق، وأحيانا الحذر، وكثيرا الرفض. . غير أن الكتابة فى صحيفة يومية، فى حيز محدود، ليس مطلوب منها الإحاطة والتفصيل، بقدر ما يرجو صاحبها أن يسهم فى تحريك للوعى، والدعوة للتفكير.
الحديث عن حقوف الإنسان هو حديث حضارى طيب، وبرغم كل ما شاب هذا النشاط من شبهات، وبرغم التحفظات التى تثار بين الحين والحين على الممارسات التى تسمى به، وعلى السلطات والدول التى تتولى احتكار إصدار أحكامه من منصتها، والتى لا تتورع عن التمييز فــى التطبيق، فإن إيجابيات هذا النشاط تربو على سلبياته عامة. ومع ذلك فلا بد من إعادة النظر فى أساساته وتطبيقاته على السواء . الصعوبة فى ذلك تنشأ من مصادر متعددة
أولا : يتصور معظم الناس أن حقوق الإنسان هى ما سجل فى مواثيق مطبوعة بحروف مكتوبة (أشهرها إعلان الأمم المتحدة فى 10 ديسمبر 1947) مع أن المسألة أوسع من ذلك وأشمل. إنها جزء لا يتجزأ من الوجود البشرى كما خلقه الله “..فى أحسن تقويم”، ما دام سبحانه قد كرمه بخلافته (ولقد كرمنا بنى آدم)، ثم تصدى هو لحمل الأمانة دون الجبال والسماوات والأرض، (فحملها الإنسان) باكتساب الوعى، وارتياد مغامرة الحرية.
من هذين المنطلقين : تكريم الله للبشر، وتصدى الإنسان لحمل الأمانة، اكتسب الإنسان كجزء حقوقه.
ثانيا: يستتبع ذلك أنه ينبغى اعتبار المواثيق المكتوبة هى الحد الأدنى لما يسمى “حقوق الإنسان”، وأن تكون دراسة الطبيعة البشرية بما هى وبما تعد، هى السبيل الأمثل لتحقيق هذه الحقوق. خذ مثلا هذه الهيجة العلمية، وشبه العلمية، حول فك رموز الشفرة الجينية (الجينوم). إن أهم ما يمكن أن يترتب عليها لا يكمن فى استنساخ بشر حسب مزاج وحسابات واحتياجات الأقوى (مثل كل تصنيع معاصر)، وإنما ما يمكن أن يترتب على هذا الاكتشاف من قراءة إمكانيات الإنسان العادى التى حرم من ممارستها لأنه لا يعرف أبعادها(مثل: حق الإبداع للعامة وليس فقط للموهوبين)
ثالثا: إن الحقوق الحقيقية هى التى تمارس على أرض الواقع، وليست هى المرصودة على ورق المواثيق. خذ مثلا “حق التنقل” المثبت فى وثيقة الأمم المتحدة (المادة 13) . إنه حق لا ينبغى أن يقتصر على حق السفر للخارج مثلا. إن كثيرا من البشر الأمريكيين لا يتمتعون بهذا الحق بعد السابعة مساء. لا يمكن مقارنة الرعب الذى يعيشه الأمريكى سائرا فى الشارع بعد الثامنة مساء، بما يتمتع به المصرى وهو يسير فى الواحدة صباحا على كورنيش روض الفرج، أو فى حارة السكر واللمون، منفردا، ليس معه سوى نصف جنيه، وهو يصفر بفمه “أول همسة” (هذا ليس تصبيرا للمقهور المصرى، لكنه حق يمارس برغم كل شيء).
رابعا : إن حقوق الإنسان تنتمى إلى الأعراف والتقاليد، أكثر من انتمائها إلى مبدأ الشرعية. إن فلسفة القانون تشير إلى أسبقية العرف، وتوظيفه، وغائيته، قبل وبعد نصوص القانون.
خامسا: إن اختلاف الثقافات، طولا(تاريخا)، وعرضا (جغرافيا) يـلزم بوضع هيراركية عامة شاملة لهذه الحقوق هذا هو العدل الأمثل: فحق الإنسان أن يكون له وطن (جنسية : المادة 15) (الفلسطينى مثلا) لا بد أن يسبق حق الأمريكى أن يأكل الهامبورجر، أو أن يخرق ثقب الأوزون، أو أن يستثنى جنوده من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، ناهيك عن حق اليهودى فى العودة إلى أرض لم يطأها لا هو ولا أجداده المعروفين. وفى النطاق الأضيق : لا بد أن يأتى حق العمل والسكن والتعلم، قبل حق الرفاهية والتنزه.
* * *
كل هذا من حيث المبدأ، لكن هناك ما هو أهم من حيث التطبيق. مثلا : إنه لا ينبغى أن تتولى مسئولية تنظيم التطيبق، ومتابعته والحكم عليه دولة واحدة، أو هيئة دولية موصى عليها بالفيتو
كذلك علينا أن نتعلم كيف نربى النشأ الإنسانى علي”الوعى بحقوقهم” ليتميزوا بما كرمهم الله به “بشرا سويا”. إن أخطر الخطر لا يكمن فى أن يحرم إنسان من حقه، ولكن فى أن ينكر عليه حقه أصلا، فينكـره على نفسه (العبيد والمرأة قديما، والشعوب المقهورة بالاستعمار الاستهلاكى الاستعمالى حديثا.)
إن الوعى بالحق لا بد أن يظل فى بؤرة انتباه كل كائن بشرى، حتى لو لم يتحقق، حتى لو سلب منه بعد اكتسابه، حتى لو صنف بشرا أدنى. علينا أن نعى أنها حقوقنا لمجرد أننا خلقنا بشرا، وليس لأنهم أصدروا لنا شهادة بحسن السير والسلوك بمقاييسهم.
قيل وكيف كان ذلك ؟ “الوعى بالحق” ؟
هذا ما سوف نعود إليه فى المقال القادم.