نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 13-5-2015
السنة الثامنة
العدد: 2812
مقالات قديمة!! (ثقافة وثقافة أخرى!! 5 من 7)(1)
حضارة بديلة: كيف؟
الاختلاف حقيقة فى الجوهر والمظهر [3 من 5]
إن أى بديل حضارى انما يقدم نفسه من خلال بعدين أساسيين يكمل أحدهما الآخر. البعد الأول: يرتبط بتحديد الموقف الكيانى العام من الحياة: ماذا يعنى ما هو انسان، من حيث ماهيته ومساره ومصيره، فإذا نجح هذا البديل أن يقدم معنى يختلف به عن غيره أو يتقدمه حق له أن يأخذ مكانه اللائق. أما البعد الثانى المترتب على الأول فهو يتمثل فى الآثار العملية لما يمكن أن يتحقق من خلال الالتزام بهذا البعد الأول فى السلوك اليومى. إذ لابد أن نتوقع سلوكا يوميا مختلفا إن كان الموقف المبدئى مختلفا عما تعرضه النماذج الأخرى.
بناء على ذلك: لا يمكن الحديث عن بديل لحضارتهم ونحن نكرر حياتهم على مستوى أقل وبمحتوى أضحل، ولن يغير من الأمر شيئا أن نضيف إلى نموذجهم نشاطا خاصا بالجانب الوجدانى القلبى المتدين.
إننا إذا اكتفينا بتغيير اللافتة مع بقاء النظم، والمواقف، والبرامج، والمرجعية هى هى، فإننا نخدع أنفسنا، ونؤكد تبعيتنا. ما دمنا لا نريد أن نحذو حذو تركيا – مثلا - ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا مفر من البحث عن موقف آخر، وتوجه آخر، يترتب عليه نوع آخر من الحياة، لنبحث فيه، ولنعمقه، ولنضع المحكات التى نقيسه بها، ثم نمارسه، ونختبره، وقد نسوقه لهم إن أرادوا، فقد يحتاجونه إذا فشل نموذجهم. علما بأنه إذا صح أن إسرائيل هى الممثل النموذجى لحضارتهم فهذا أول نذير بإعلان فشلهم فى نهاية النهاية، وفشلنا إذا سرنا على نفس الدرب تماما.
لن ينفعنا أن نشق أنفسنا نصفين (متعادلين أو متظاهرين) فنعيش حياتنا العلمية والسياسية والاقتصادية بأسلوبهم وقد تمت صياغته هناك، ونعيش حياتنا الإبداعية والوجدانية بتسليم عاطفى حالم.
لن يصلح من شأننا أن نستغل الحماس للأصل، وللتراث، وللمجد القديم، ليكون مجرد دافع لنزيد من سرعة لهاثنا وراءهم بنفس قيمهم لنفس أهدافهم حتى لو تصورنا غير ذلك لمجرد أننا نستعمل ألفاظا محليا ورموزا مختلفة لكنها دالة على نفس المضمون
إن حضور إسرائيل بيننا يعلن بلا مواربه فدعونا نقرأ كيف أن حضارة الإسرائيليين أو رحمتهم تتمثل فى أن يسمحوا للعمال الفلسطينيين أن يقوموا بالأعمال القذرة (أعمال البناء وجمع القمامة مثلا)، وبالقياس فلعل غاية ما يسمح به أهل الغرب والشمال لنا هو أن نقوم بنشر الأبحاث التقليدية المكررة، بنفس منهجهم لنفس هدفهم، دون أية إضافة أصيلة، أو خاصة.
السؤال الأول إذن هو: هل عندنا موقف كيانى مغاير فعلا؟ وهل هذا الموقف له انعكاسات على السلوك السائد، حتى يظهر سلوكا ظاهرا مقاسا فى الفعل اليومي؟ أم أنه مجرد تغيير لافتات، وادعاء اختلاف لا وجود له؟
ليس الهدف من هذا المقال أن يطرح بديلا محدد المعالم، ولا هو فى استطاعته أن يفعل ذلك، ولكنه مجرد تنبيه إلى ضرورة الحذر من ممارسات قد تزيد من غفلتنا اذ تخدعنا عن البديل الحقيقى. إنه لابد من محاولة استقراء بعض ملامح البديل الذى نتصور أننا نمثله.
أطرح رؤيتى لما يمكن أن نتميز به أو لعلنا تميزنا به ثم نسيناه، أو أنسانا الشيطان أن نذكره. وأكتفى بأمثلة محدودة تحدد بعض توجهات الاختلاف:
1- عندنا (أو المفروض أن عندنا): إن الانسان ليس هو غاية الوجود، ولكنه بعض مظاهره، وإحدى وسائله.
(الغالب عندهم أن: الإنسان قد ألم بقدر كاف من الوجود يجعله سيد العالم، بل ومحوره، وصانع مصيره).
2- عندنا (أو المفروض أن عندنا): أن سلامة (أو سعادة) الفرد، هى فى تعميق وعيه وتأكيد امتداده فيما بعده، متمثلا فى السعى ابتغاء وجه الله، والكدح للقائه، والإيمان بالغيب الذى يحفز باستمرار إلى البحث بعد النهايات المفتوحة.
( الغالب عندهم أن غاية الوجود هى: تمام صحة الجسد، وإطالة العمر، وتحقيق رفاهية السفر والأجازات، وتأمين حق المتعة حتى بالتفريغ الجميل فى ما هو فن لا أنكر رقيه ثم فى النهاية يؤدى أغلبه إلى إعادة إطلاق شارة التوجيه إلى ما يريح ويبهج).
3-عندنا (أو المفروض أن عندنا): إن الاقتصاد والسياسة والعلم والتكنولوجيا.. الخ ليسوا سوى وسائل إلى تحقيق الغاية الواعية المتميزة المتمثلة فى الظاهرة البشرية (الانسان فى الكون سعيا إلى وجه الله) بطريقة عملية على أرض الواقع.
(الحادث عندهم أن أصبح الجمع، والتراكم، والنجاح الاقتصادي، والتسويق، هم غاية الاستمرار رغم الزعم بغير ذلك).
4-عندنا (أو المفروض أن عندنا): إننا نرتاح حتى يمكننا أن نسعى فى الأرض أفضل وأصبر. بمعنى: إننا نرتاح لنعمل ونبدع. أعنى أننا ننتمى – المفروض يعنى – إلى حضارة السعى المستمر والاكتشاف المتجدد مع الاحتفاظ بحقنا فى الراحة لنعاود العمل.
(الغالب عند أغلبهم: أن العمل خمسة أيام فى الأسبوع يحقق هدفه الذى هو إتاحة الراحة فى نهاية الأسبوع، وأن العمل حتى سن الخمسين، يحقق هدفه بالمعاش المبكر الذى يسمح بالسياحة الحرة، والتمتع ببقية سنوات العمر متفرجا سعيدا !!
(ملحوظة: أحذر القاريء من التعميم)
إن نموذج حضارتهم الذى تصور أنه تجسد مؤخرا فى إسرائيل، يضع الإنسان الفرد سيدا للكون بلا امتداد، إنه يجعل الرفاهية هدف الوجود، والوفرة مقياس التقدم، والتميز السرى أو العلنى وسيلة ترتيب البشر إلى سادة وعبيد، فإذا تقاعس العبيد عن اللحاق بالسادة على نفس الطريق بنفس المقاييس، فهم لا يستحقون العيش أصلا، لا تعود بهم حاجة إلينا.
الحضارة البديلة التى أتصور أننا ننتمى إليها (أو أتمنى أن نحاول أن نعود إليها) تضع الإنسان حلقة وسط فى نظام كونى أشمل، كماتضع استمرار الرقى والإضافة المتجددة (لا الرفاهية) هدفا لها، وهى تقيس نجاح المسعى بتحقيق التوازن التصعيدى ( لا مجرد زيادة عدد لفات الحركة). وهى لا تكون كذلك، إلا إذا كانت قيمها متاحة لكل الناس، بقدر ما يستوعبونها ويسعون كدحا إلى التميز بها وحمل أمانتها.
كل هذا كلام إنشائى يضع لا معنى له إن لم يترجم إلى محكات حقيقية يمكن قياسها فى الفعل اليومى كما أصر منذ البداية.
لا بد أن أعترف فى هذه المرحلة من الاجتهاد أن هذا البعـد ليس بنفس الوضوح الذى تمثل لى فى المبادئ العامة التى عرضتها حالا، ربما لأننا قد سـرقنا ونحن نعيش نموذجا آخر، يقاس بمقاييس أخرى، ويصب فى أهداف أخرى. ومع ذلك فلا أملك إلا محاولة الإشارة إلى أمثلة من سلوك يومى يمكن أن يعلن بعض معالمنا ربما يكون نواة لتفاصيل لاحقة. خذ مثلا:
أولا: حين لا تستطيع النوم وأنت شبعان وجارك جائع، فأنت متحضر.
ثانيا: حين لا تسمح لنفسك أن تأكل أكلا له رائحة ممتدة إلى جارك دون أن يشاركك فيه (رائحة الشواء، أو حتى رائحة قلى الطعمية بالمنزل) فأنت متحضر.
ثالثا: حين لا تستطيع أن تتخلى عن إنقاذ مريض أو جريح حتى لو كان عدوا لك، رغم أن إقدامك على ذلك فى ظروف غير منضبطة قد يعرضك للخطر، أو للمسالة القانونية. فأنت متحضر.
رابعا: حين تعيش فى يقين أن ما تملكه ليس ملكك فعلا، ليس لأن القانون يحرمك منه، وإنما لأنك لست إلا أمينا على صرفه، تنفق مما استخلفك الله فيه لتعمير الأرض فأنت متحضر
خامسا: حين تأبى أن تقتل مجهولا عن بعد، لمجرد أنك تملك القدرة على ضغط زر موجه، فأنت متحضر (كما فعل الجنود الجزائريون مع جارودي).
أعرف أن كل هذه أمور أخلاقية، ودينية، لا يمكن ضمان تحقيقها بمجرد النصح والإرشاد، وخاصة بعد أن خربت النفوس، وتشوهت الفطرة، لكننى أصر أننا مهما ابتعدنا عن مثل ذلك، ومهما بررنا استحالة تطبيقه على المدى الأوسع، فهذا هو أصل شرف التواجد البشرى، وهذا ومثله هو ما نجحت الأديان أن تحققه فى الفعل اليومى، وحين حدث ذلك، تخلقت حضارات دفعت بالمسيرة البشرية شوطا كبيرا فى الاتجاه الصحيح.
إنه مرفوض بداهة أن نزعم أننا كذلك دونهم، أو أن ندعو أن تحل حسن النية محل القوانين المكتوبة، أو أن نسمح للقوانين الداخلية أن تغنى عن التنظيم الخارجى المحكم. إن الجهاد الأكبر هو ألا نتخلى عن جذور الموقف الإنسانى الذى يحقق ما هو حضارة بديلة لمجرد أننا أحكمنا كتابة القوانين، وتنظيم المعاملات على الورق. لا أعرف سبيلا إلى تحقيق ذلك تفصيلا، لكننى على يقين من أن ديننا يدعونا إلى جهاد أكبر يمكن أن يحل هذه المعادلة الصعبة.
قيمتان أتصور أنهما الأصل فى نوعية وجودنا الحضارى المتميز والذى أتصوره بديلا حقيقيا هما: الامتلاء، والامتداد.
أما الامتلاء فهو يتحقق بالتكوين الهادئ المتنامى لما هو فطرتنا الداخلية، الأمر الذى يحققه الموقف الدينى من خلال ممارسة العبادات بشكل تصعيدى منتظم، وتدعيمى مستمر، يتجاوز، ولا يحل محل الالتزام المعلن.
الامتلاء يتحقق أيضا بأن يكون ‘الآخر’ هو جزء من وعيى طول الوقت. لا حضارة بدون حضور هذا الآخر معى، بداخلى، جزء منى، طول الوقت.
أما الامتداد فهو الوجود المستكشـف الذى يكسر غرور الإنسان وغوايته بنفسه، وقدراته، وهو يأتى من الإيمان بالغيب (الذى هو ليس تسليما للخرافة)، كما يأتى من الاجتهاد المفتوح النهاية كدحا إلى وجه الله تعالى.
والعلاقة بين الامتلاء والامتداد هى علاقة وثيقة، لأن الامتلاء يسمح بكل طبقات الوعى أن تعمل معا، مرة بالتكامل، وأخرى بالتبادل. وهذا بالضبط هو ما يسمح لهذه الطبقات مجتمعة أن تخلق الفرد الحضارى القادر على الجهاد الأكبر الذى سوف يحل إشكالة الجدل بين الخارج والداخل، بين المكتوب والمنطوق، بين القانون والعرف، بين الماضى والحاضر.
أنـا لم أقدم حلا، ولم أحدد اقتراحا بذاته، ولم أطرح بديلا يمكن أن نبدأ فى تنفيذه الآن أو حتى غدا. لكنى على يقين من أننا أهل لذلك، وأننا نملك مقومات الحل بشكل أو بآخر لو غامرنا بحمل مسئولية هذا الجهاد الأكبر، كما أعلم أن الوعى بأن حلهم ليس هو الأمثل، وأن ما صرنا إليه ليس هو نحن. خليق أن يفجر فينا طاقة مبدعة، يمكن أن تطرح حلولا عملية فعلا، لعل فيها إنقاذا للبشرية كافة، وليس فقط لنا، من مصير لا يسر أحدا مهما لوح بتقدم ليس له جذور.
فى النهاية لا بد أن نتفق على أن ما حققوه ليس شرا كله، وأننا شركاء ـ بشكل أو بآخر ـ فى الإنجاز الذى حققوه، حتى لو لم نشارك حالا فى إنتاجه، وأن نقطة بدايتنا هى ما انتهوا إليه لا ما كنا فيه، ولا ما نحن فيه، وأن باب الاجتهاد فى تحسين الحياة مفتوح لكل مجتهد مثابر، وأن الله سبحانه قادر أن يلهمنا كما ألهم الذين من قبلنا إذا ما كنا أهلا لذلك من خلال اجتهاد متجدد، وسعى متصل، وكدح لا يستسلم حتى لو لم يجد الحل قريبا.
وحتى يتفجر ذلك الحل المجهول، هل ثمة مقاييس صغيرة يمكن أن نقيس بها مدى قربنا أوبعدنا عن ماهو حضارة فعلا، وخاصة بعد أن شككنا فى أن مجرد امتلاك آلات المدنية ليست ضمانا كافيا أن نتحضر؟ هذا هو موضوع المقال التالى.
[1]- نشرت فى جريدة الوطن: 12/12/2000