الوفد: 3/7/2001
حريقٌ القش فى دوامة الفراغ
التساؤلات التى دارت حول مسلسل “الراهب والصحيفة”، هى أهم من الإجابات التى تبرع بها المجتهدون. هذه التساؤلات وردت بشكل محدد، ويكاد يكون كافيا فى مقالى د. يونان لبيب رزق (المؤامرة: المصور المصور 29 يونيو 2001)، وفهمى هويدى (هوامش على مشهد الغضب،الأهرام 27 يونيو). الخلاصة تقول:
حدث خطأ جسيم، وصل لدرجة الجريمة، خطأ لم يصدر من الدولة، ولا من مؤسسة دينية (رسمية أو شعبية)، ولا من شخص يمثل أىا من هذا أو ذاك. فى نفس الوقت لم تقصر جهة رسمية أو شعبية أو نقابية أو ثقافية فى المسارعة برفض وشجب ما حدث.
من هنا قفزت التساؤلات المنطقية مباشرة تقول : لمن -إذن- يتوجه شباب الأقباط بالاحتجاج؟ هذا الغضب:ضد من؟ يقول ماذا؟
ثم إن ما تلى ذلك من تفسيرات، وتبريرات، وتصريحات، وبيانات، كلها، أو أغلبها، قد صدر ممن لم تُوَجـه إليه اتهامات أصلا. لقد بادر كل من يهمه الأمر، و من لا يهمه الأمر، يصيح : “تحيا الوحدة الوطنية”، يا صلاة النبى، مالك أنت يا سيدى المدافِع؟ وما الذى جاء بسيرة الوحدة الوطنية أصلا؟ لماذا هذا الشعور بالذنب؟ لماذا هذه المبادرات بالدفاع دون تهمة؟
ينهى صلاح جاهين قصيدته “المحاكمة” بقوله: سيادى القضاه،سيادى الحدادى اللى حايمه على رمتى، حاقول كلمتى، لكن قبل ما انطق واقول كلمتى، قولولى انتو.إيه تهمتى؟
لم يتساءل أغلب هؤلاء عن التهمة التى أخذ يدافع عنها، ومع ذلك فقد راح كل منهم يؤكد: ” إننى، والله العظيم ثلاثا، مع الوحدة الوطنية”. يا سيدى المدافِع : هل مسّ أحدهم طرفك شخصيا، أو طرف الوحدة الوطنية؟
الأرجح عندى أن هذه الأحداث قد جعلت عددا كبيرا من المدافعين والشاجبين والمصرّحين بالبيانات الحماسية يكـتشف البطحة التى على رأسه، حتى لو كانت خفية، حتى على نفسه، فراح “يحسس عليها”، وهو يدافع عن جريمة اقترفها فى السر، ليس لها أى علاقة بالتهم الظاهرة التى لم تـُلق فى وجهه أصلا.
التفسيرات النفسية الخائبة
أرجو ألا يأخذ القارئ اجتهادى تفسيرا لسلوك المدافعين باعتباره تفسيرا نفسيا يصدر من مختص، فأنا أتجنب مثل هذه الوصاية المسطحة من الأطباء النفسيين الجاهزين بالفتوى، بأقل قدر من المعلومات.
هاتَفَنِى رئىس تحرير إحدى الصحف الأسبوعية المستقلة، عارضا علىّ – بترحيب وكرم يستحقان الشكر- أن أساهم بـإبداء رأيى – من وجهة نظر الطب النفسى- فى التحقيق الذى تُعدّه مجلته (أو صحيفته الأسبوعية) والذى سوف يتناول، كما فهمت، “الرهبنة، والجنس، والنساء”، كان يطلب رأى الطب النفسى – فى تفسير سلوك الراهب المخلوع، وضحاياه..إلخ، وبعد شكره على كريم ثقته، ذكّرته أننى نادرا ما أكتب للقارئ العام بهذه الصفة، صفة الطبيب النفسى، بل إننى أبذل جهدا جهيدا حتى أتجنب عامدا أن أستعمل مصطلحات مثل العقد النفسية، أو المركب النفسى الفلانى، أفسر بها هذا الحدث أو أرسم بها ذاك الشخص. مع أن لكل حدث، ولأى شخص، سياسيا كان أو غير سياسى بعدا نفسيا لا يمكن إغفاله، ثم إنى لاحظت أن كثيرا ممن يستعمل هذه اللغة “النفسية” الجاهزة للغواية والتبرير معا، والقادرة على التفسير أحيانا، هم هواة غير مختصين. انتبهت إلى ذلك بدءا من مقالات محمد حسنين هيكل فى الستينيات بعنوان ” العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط” حتى كتاباته مؤخرا عن السلاطين والرؤساء، مرورا بالاختزال الذى تورط فيه السادات حين اعتبر كارثة إسرائيل “مشكلة نفسية “(الله يسامحك يا عمّنا السادات ويجزيك، عنا خيرا، رغم شطحك المتكرر)، أقول على الرغم من هذا الإغراء الذى يغرى كل الهواة والمحترفين بالمبادرة بالتفسير النفسى، فإننى أجاهد طول الوقت ألا أستسلم لهذا الإغراء، اللهم إلا انطلاقا من تقمص وعى الناس.
القش الهش، والفراغ المفجِّر
حضرنى تفسير لهيجة شباب القبط الحالية، كنت قد اهتديت إليه من قبل وأنا أكتب عن ظاهرة أحداث الأمن المركزى (فبراير 1986)، وأيضا وأنا أحاول تفسير انفجارات الجماعات الإرهابية (1994). كان خلاصة ما وصلت إليه من هذا وذاك، مما سوف أقتطف بعضه بعد قليل، أن هذه الأحداث تدلنى على أمرين:
أولهما:أننا تهمَّشنا حتى صار وجودنا هشا.
وثانيهما : أننا نعيش فى فراغ سياسى وقيِمَىِ خطير.
إذا أُفرغ شعب من حضوره، وحرم دوره فى المشاركة، أصبح مثل كومة قش لايجمع أعوادها إلا جذب دوامة الفراغ، ومن ثم فإن أى شرارة عابرة يمكن أن تشعل حريقا، سرعان ما ينقلب انفجارا حين يلامس الفراغ الدوامة.
إعادة النص
الحكاية قديمة، وهذا النص الـ (سكريبت) أصبح يتكرر فى مجتمعنا بانتظام، نفس الخطوات تتابع متى أتيحت الفرصة لظهورها، إنه هو هو بشكل أو بآخرمع اختلاف الأسماء والظروف.
بلدٌ حُرم ناسُه من أن يجدوا صدى لما يقولون أو يكتبون، التعبير رغم السماح بالتفريغ اللفظى فى رطان عال النبرة، كما حُرموا مساحة للاختلاف، اللهم إلا بادعاء “قبول الآخر “(وهو وليس إلا تفويتٌ فاتر، وما فى القلب فى القلب). بلدّ حرمت الغالبية فيه، من المشاركة فى اتخاذ القرار، حتى المسئول التنفيذى قد تكون غاية مناه أن يحصل على الرضا بنجاحه فى تنفيذ التوجيهات. بلدٌ يردد حكامه كلاما أكبر من قدرات الإمكانات الضرورية لتحقيقه، ويعِدون وعودا يستحيل الوفاء بها، بلد انفصل فيه الناس عن الحكومة، ثم انفصلوا بعضهم عن بعض، ثم انفصل كل واحد عن ذاته نفسها، ماذا يمكن أن ننتظر من سلوك أهل هذا البلد وشبابه استجابة لأى ضغط عابر؟
تكملة لمعالم الفرْض الذى حاولتُ أن أفهم من خلاله الأحداث، هو أن هذا الوجود الهش الذى فُرض علينا، يدور فى فراغ مخلخل، ذلك لأنه محظور علينا أن نفهم أى حقائق واضحة عن الجارى بشكل موضوعى أمين، وبالتالى أصبح كل مواطن، بوعى أو بغير وعى، لا يهمه إلا ذاته، أو مجموعته الخاصة، يتضاعف هذا التمركز حول الذات أو الفئة المحدودة إذا انتمى أحدنا إلى أقلية تستشعر الاضطهاد حقيقة أو تصوُّرا، سواء كانت هذه الأقلية بسبب انتمائه إلى دين بذاته، أو إلى جماعات نافرة نشاز على الجانبين: من عبدة الشيطان إلى المتشنجين تدينا زائفا: تكفيرا، أو هجرة، أو إرهابا
رحت أبحث فى أوراقى، وذاكرتى عن أصل هذا الفرْض، ووجدت أنه قد حضَرَنى مرتين، ورغم تحرجى من تكرار الاستشهاد بما سبق أن كتبتُه، إلا أننى أرانى مضطرا إلى اقتطاف فقرات بالنص، أحاول أن أثبت من خلالها كيف يشارك مواطن عادى فى رؤية الجارى اجتهادا، المرة تلو المرة. المسألة قديمة قديمة، مكررة ومعادة، وبالتالى ما حدث الآن ليس له علاقة لا بالوحدة الوطنية، ولا حتى بالصحيفة الصفراء. هو نص يتكرر مع اختلاف الأسماء والمناسبات.
جاء فى قراءتى السابقة لأحداث الأمن المركزى (فبراير 1986)، والتى لم أنجح فى نشرها إلا فى مجلة خاصة مجهولة توزع بضع مئات كل بضعة أشهر، جاء ما يلى نصّا تحت فقرة بعنوان ” دلالات من انفجار جهاز الأمن المركزى: (1) إن هيبة الدولة قد اهتزت. (2) إن كبتا خفياً قد تراكم. (3) إن منطقاً سطحياً يتعامل مع نبض البشر.
وتحت فقرة أخرى فى نفس المقال بعنوان “المعادلة الخطرة” جاء ما نصّه:
“…. وحين رحت أراجع حقيقة القوى، ومصدر الشرارة، وطبيعة الغاز الرخو الذى كان يملأ الفراغ فاشتعل، بدت لى الصورة فى تكثيف متلاحق (على الوجه التالى): (1) ثمة قوى ظاهرة على السطح بأقل درجة من الفاعلية. (2) وقوى فِعْلية محركة بأخطر وسائل الظلام. (3) وقوى كامنة فارغة ملأها الغاز المجهول القابل للاشتعال. (4) وقوى انتاجية مُهدرة أو عاجزة رغم أنها ليست ميتة وما زالت واعدة” (انتهى المقتطف).
دون الدخول فى التفاصيل، دعونا نسأل : هل تغير أى حد من حدود هذه المعادلة الخطرة التى فسَّرتُُ بها االفراغ الذى أدى إلى انفجار الأمن المركزى؟ وبالتالى: ألا يمكن أن تصلح نفس هذه الكلمات،التى كتبَهَا مواطن مصرى منذ عقد ونصف، تفسيرا آنيا لانفجار الشباب هذه الأيام؟
ثم إنه بعد ثمان سنوات من ذلك التاريخ طلبتْ منى مجلة العربى الكويتية مقالا أفسر به انجذاب الشباب إلى الجماعات الإرهابية، أقتطفُ منه ما يلى(نوفمبر 1994).
“إن ما يجرى تحت ما يسمى الإرهاب أو التطرف هو ظاهرة عنف انفجارى خطير نشأ وينشأ نتيجة تفاعل ثلاثة عوامل، الأول: تراكم فجوات الوعى فيتخّلّق فراغ سلب جاهز للتفجير، والثانى: تسكين الوجود البشرى (وخاصة للشباب) بمنع الحركة (أو بالتحريك الزائف فى المحل)، والثالث: استمرار حتم الحركة بطبيعتها، وبالتالى اندفاعاتها العشوائية المدمّرة.
تتراكم فجوات الوعى بشكل خطير حين يتجمع الشباب ليكوّّن فصيلا دينيا متحمسا وأعمى فى نفس الوقت، ومع تزايد الفجوات يحرم الشباب من الحوار ومن المرونة ومن الخيال ومن السماح” (انتهى المقتطف).
هذا التفسير، الذى كتبته قديما أبين به رأيى فى غضب الشباب المسلم حتى الإرهاب، ألا يصلح لقراءة نفس الظاهرة التى حدثت هذه الأيام من الشباب المسيحى؟
إن هذا التشابه قد يكون دليلا على الوحدة الوطنية، وليس العكس !!!!
يا سادتى الكرام، إن النصّ هو هو، يتكرر، ونحن مازلنا فى غفلة خائبة.
إننا بتطبيق هذا النص لتفسير ما حدث مؤخرا، يمكن أن نقرأ الفقرتين المقتطفتين، وكأنهما كتبا اليوم لتفسير هيجة الشباب المصرى (= القبطى) دون أية إضافة إلا تغيير اسم الفئة الغاضبة والتاريخ.
نفس التفسير يمكن أن يمتد لينطبق على أحداث سابقة مثل ما سمى “انتفاضة الجوع” أو الحرامية !!) ( 18، 19 يناير)، ومثل هيجة الشباب أمام الجامع الأزهر فيما سمى “أزمة الوليمة”، وغير ذلك كثير، كلها يمكن إرجاعها إلى هذا الفرض الذى يُظهر كيف أن جموع الناس، والشباب خاصة، قد أصبحوا قشا هشا قابلا للاشتعال، يملأهم فراغ مخلخل، قابل للانفجار.
ليسوا أقباطا وليسوا مصريين
أنا لم أسمع بأذنىّ هتاف الشباب المصرى (أى القبطي)، لكن ما بلغنى منه هو أمرٌ- لو صحّ- فإنى أقول دون تردد: هؤلاء ليسوا أقباطَ مصر، بل إننى لا أستبعد أن يكون قد اندس بينهم مواطن مسلم لا يجد مسكنا، أو وظيفة، أو إرهابى من الجماعات أراد أن يشعلها على الجانبين، أو شاب مسلم ضبط وهو يصلى الفجر حاضرا فى المسجد، فنزل ضيفا عند أولى الأمر عشر سنوات دون محاكمة حتى جاعت أمه وانحرفت أخته، ولا أتمادى وأقول، وربما وجد بينهم بعض عملاء الموساد.(مع حذرى الشديد من التفسير التآمرى).
حسن البنا
فى أواخر الأربعينات حين بدأت حركات الإرهاب الإخوانى بحادث السيارة الجيب، ثم مقتل الخازندار ثم النقراشى باشا، أصدر المرحوم حسن البنا “بيانا للناس” يقول فيه “ليسوا إخوانا، وليسوا مسلمين”، وقد تصورت أن البابا شنودة بانزعاجه الصادق ووطنيته العميقة يقول للشباب القبطى المخطئ، إذا لم ينتبه إلى أىن ذهب بهتافاته، يقول لهم أنهم “ليسوا أقباطا، وليسوا مصريين”.
حين أسمع كلمة قبطى تقفز إلى وعيى أسماء كثيرة متزاحمة من أول أخناتون حتى إيهاب الخراط، ووالده إدوار، وبينهما قائمة لا تنتهى تزاحمنى الآن حتى لا أستطيع أن أنهى مقالى دون أن أذكر بعضها مثل د.يونان لبيب رزق، ود. أنور عبد الملك، ورفعت ناشد أرمانيوس (جارى فى التختة فى سنة رابعة ثان فى مدرسة مصر الجديدة الثانوية)، ومكرم عبيد، ود. صليب بطرس، وعم سعد الأشرجى فى محطة قطر الدلتا فى بلدنا سنة 39، بل وعم على السباك صديقى ومعلمى.
يا حضرة الحكومة:
“دى مش دبانة دى قلوب مليانة”.
معظم النفوس أصبحت هشة،فى فراغ محيط.
كانت النيران فى بلدنا تنتشر بسرعة بسبب تخزين القش الجاف على أسطح المنازل، فلا تخزّنوا جموع المواطنين الجوف، خاصة الشباب، بعيدا عن المشاركة المسئولة، فالجو ملىء بالشرر المتناثر. وربنا يستر.
ربنا يستر.