مركز نجيب محفوظ
و
المجلس الأعلى للثقافة
دورية محفوظ:
دورية نجيب محفوظ 2015
حركية الوعى بين الحلم والإبداع (الشعر) والجنون
دروس من “أحلام فترة النقاهة”
الموجز:
هذه المداخلة هى جماع من أغلب فروضى عن علاقة الحلم بالشعر وبالجنون والإبداع، وهى الفروض التى سجلت أصولها منذ ثلاثين عاما (1)، وقد وجدت فى هذا العمل البالغ الأصالة “أحلام فترة النقاهة” ما يدعم بعضها ويضيف إليه ما نحن فى أشد الحاجة للكشف عنه فيما يتعلق بطبيعة عملية الإبداع، وذلك بالاستعانة باستشهادات مما أسميته “أجنـَّة” هذه الأحلام كما ظهرتْ فى تدريبات محفوظ للعودة للكتابة، وأيضا عرض جانب من ماهية “وعى الحلم” من واقع تجربة عملية فى العلاج الجمعى تحت مظلة الوعى الجماعى، وأخيرا هى تقدم عينة من مستويات النقد المختلفة لإحدى هذه القصائد (الأحلام) دعما أيضا لفرض آخر يقول: إن الشعر لا يُنقد إلا شعرا
استهلال:
لم يرحل عنا شيخنا إلا بعد أن ترك لنا – بعد كل فيض إبداعه طول عمره – هذه الثروة النادرة التى يمكن أن تمكننا أعمق وأرحب من الكشف عن الطبيعة البشرية، وبالذات عن حركية الإبداع وما يقابلها من خطى النمو البشرى النوعى والشخصى، ترك لنا محفوظ بعد المجموعة الأولى من أحلام فترة النقاهة، وهى المجموعة التى نشرت فى حياته: هذه المفاجأة الطيبة التى ظهرت مؤخرا ككنز ثمين.. أحسن حاملو أمانته حمله إلى من تعهد بنشره، ثم نَشَره فعلا فظهر باسم “الأحلام الأخيرة” (2)، وقد تواكب ذلك مع ما عثرتُ عليه مما استطعت أن أحفظه من “كراسات تدريباته” التى أودعتُها مع آثاره للجنة المختصة برعاية تراثه، ثم حصلتُ من اللجنة على نسخة منها للدراسة والبحث بما أستطيع، وقد اكتشفت فيها مؤخرا تداعيات طليقة، أراد الله أن تكون فى متناول من يريد أن يتعرف عليه، وعلى معنى التداعى الحر كتابةًً من مبدعٍ نادر مثله، وعلى كيفية بدايات حركية الإبداع، علما بأن هذه قد تواصلت بفضل مثابرته وإرادته سنين عددا، وقد تابعتُهَا يوما بيوم وهو يدرب يده على الإمساك بالقلم كمجرد وسيلة للعودة للكتابة بأى درجة من الوضوح، فإذا بالوسيلة تصبح كنزا فى ذاته يكمل كل ما تركه لنا وحمَّلَنَا أمانته.
تمهيد:
بعد محاولاتى نقد المجموعة الأولى من أحلام فترة النقاهة بأسلوبين مختلفين، وهو ما ظهر فى كتابى الأول “عن طبيعة الحلم والإبداع” (3) فوجئت أثناء كتابة تداعياتى (4) على تداعيات تدريبات الكتابة التى أشرت إليها حالا، فوجئت بدءًا من صفحة رقم (176) (5)بما يشبه الحلم، صحيح أنه عمل ناقص، وصحيح أنه لا يصح تناوله بالنقد ما دام صاحبه لم يُتِمُّه، وهذا ما أكدته مرارا فى تداعياتى عليها، لكننى اكتشفت من خلال ذلك بعض ملامح عملية الإبداع وكيف كانت تجرى فى وعيه كأعظم ممثِّلٍ للمبدعين كافة!
مستويات الإبداع من جذور التطور إلى أحلام فترة النقاهة
يتواجد التركيب البشرى فى حالة نبض متناوب طول الوقت، وهى حالة تشمل فى أحد أطوارها تفكيكا مرحليا، يهدف إلى إعادة التنيسق والولاف على مستوى أعلى، على أن الإبداع ليس مقتصرا على نشاط من يسمون المبدعون، ولا على نتاجهم، ذلك أن له تاريخا أقدم قدم الحياة ذاتها: وتجلياته عبر التاريخ هى إعلان عن تطور تشكيلات مستويات الوعى التى هى اصل الإبداع: فهو يبدأ من إبداع النوع: يقول فى ذلك سيلفانو أريتى (6)رائد الغوص فى الإبداعية كولاف سحرى: “إن الإدراك عملية نابضة وهو يحوّل الأحداث الفيزيقية إلى خبرات ذاتية، وبالتعرف على المتشابهات والاختلافات والمتعلقات يبدأ تكوين الفئات، ومع نمو نماذج تشكيل الوقت والمكان التى يتعلمها الكائن الحى من بيئته الخارجية تتكون برامج تتنقل من جيل إلى جيل، وتُستبعد كل التركيبات غير الملائمة للبيئة والمحيط جيلا بعد جيل”، ثم يضيف أريتى: “…يظل الشخص المبدع حارسا لسر ما يجعله مبدعا، هذا السر الذى لا يمكن الإفصاح عنه حتى للمبدع نفسه ناهيك عن الآخرين، أما ما ليس سرا فهو ما ينبسط فى صورة تصل إلى الناتج المتاح مع احتمال معرفة الظروف التى تسهل ذلك”.
ثم إن الإبداع إنما يشمل أيضا مفهوم “النمو” المتصل فى دوراته الإيجابية على المستوى الفردى، حيث يعاد تخليق الإنسان على مسار النمو فى كل أزمة نمو بلا انقطاع ولعل “أعمار الإنسان السبعة”، كما قدمها إريك إريكسون هى أوضح ما يمثل ذلك (7).
ثم يمثل الحلم إبداعا بيولوجيا آخرعلى مستوى الدورة الليلنهارية (اليوماوية). (8) وهذا غير ما نعرفه عن الحلم العادى المَحْكى، ناهيك عن تفسيره المُفِّسِدِ عادة لجوهره، وأخيرا تتوج هذه السلسلة الشاملة لطيف العملية الإبداعية منذ بدء الحياة بالإبداع المعروف ناتجا مُعْلنا بأى شكل من تشكيلاته، لنصل إلى أرقى وأصعب مستويات الإبداع، وهو الشعر الشعر، ومنه: إبداع أحلام فترة النقاهة!
الأحلام (العادية) إبداع الشخص العادى!
موجز الفرض المحورى الذى بدأت به باكرا يقول: نحن لا نحلم بالمعنى الذى شاع من حكْى الحلم أو من تفسيره، نحن نؤلف أحلامنا التى نحكيها وكأننا نتذكرها، نؤلفها تأليفا فى الثوانى (أو البضع ثانية) التى تسبق اليقظة مباشرة، نؤلفها ونحن فى حالة من يقظة غير كاملة قبيل الاستيقاظ، أما ما يحدث قبل ذلك فهو ما أسميتُهُ “الحلم بالقوة” وهو النشاط الإيقاعى التحريكى التنظيمى الذى يسجَّل برسام المخ الكهربائى أثناء ما يسمى النوم النقيضى أو النوم الحالم والذى يعرف أيضا باسم نوم “حركية العين السريعة” REM أو نوم الريم (9)وهو إيقاع نوبى منتظم: 20 دقيقة كل 90 دقيقة، طوال ساعات النوم، أما الذى نتصور أنه الحلم، كل الحلم، (الحلم الذى نحكيه) فما هو إلا نتاج ما التقطنا من مفردات ما تحرّك فى هذا الوعى الحالم النشط، لتصبح هذه المعلومات (بالمعنى الأشمل) التى التقطناها قبيل الاستيقاظ هى الأبجدية التى ننسج منها – تلقائيا فيما تحت الوعى الظاهر – ما تيسر من تشكيلات وتربيطات نعيد صياغتها، على أنها الحلم الذى نحكيه، أو لا نحكيه، نفسره، أو لا نفسره.
مغزى الفرض الذى وضعتـُه من قديم لماهية الأحلام وطبيعتها ووظيفتها هو أن ما يحدث أثناء الليل، سواء حكيناه أم لم نحكه، هو نوع من الإبداع الطبيعى لا نعرف إلا آثاره وبعض ملامحه، يحدث ذلك تلقائيا للشخص العادى على مسار إيقاعه الحيوى الدائم، فنحن نولد به من جديد كل ليلة (10)
الحلم الإبداع، والإبداع الحلم
ترددتْ أسئلةُ كثيرة حول أحلام النقاهة، مثل علاقتها بالحلم الأصل وأيضا علاقتها بما يسمى “أحلام اليقظة”، وقد طُرِحَت هذه الأسئلة على المختصيين فى العلوم النفسية وغيرهم كما طرحت على صاحب الأحلام شخصيا، وكذلك حاولتُ الإجابة بدورى على بعضها لبعض الإعلاميين (11)، وحين ظهر الجزء الثانى من الأحلام عادت الأسئلة تلح، فوجدت لزاما أن أبدأ أطروحتى الحالية بعرض موجز لهذه الفروض عن الحلم والشعر والإبداع، كمدخل إلى النظر فى هذا الكشف الفريد عن طبيعة عملية الإبداع التى تتيحه لنا أحلام النقاهة وتجارب التدريبات معا.
المنطلق: الإيقاع الحيوى المشتمل:
هذه المداخلة بما تُقَدَِمُ من فروض تنطلق من منطلق بيولوجى (12) شديد الارتباط بظاهرة تناغم الإيقاع الحيوى امتدادا على متدرج يبدأ مما هو قبل الجزىء إلى الكون الأعظم، يستتبع ذلك أن يظل التركيب البشرى فى حالة حركية متناوبة نابضة، تشمل فى أحد أطوارها تفكيكا: يهدف إلى إعادة التنيسق والولاف على مستوى أعلى، مستعملا فى ذلك المتاح من المعلومات الموروثة والمكتسبة معا، فى تصعيد تدريجى متناوب من خلال دورات الاستيعاب والبسط، وقد يتجلى بعض نتاج ذلك فى نوع الإبداع الذى يظهر فى صوره المختلفة، والذى يصنف فى النهاية بحسب اللغة المستعملة (الأدوات – والأبجدية)، أو النتاج الظاهر، أو كليهما، أو لا يصنف أصلا.
ويتناول المخ معلوماته (محتواه/تركيبه/ذواته…إلخ) بطرق متعددة لامجال لتفصيلها هنا، وسأكتفى بالإشارة إلى تنظيم نشاط الحلم من جانب، ونشاط الإبداع من جانب آخر، وهما محور هذا التناول الحالى:
مع مراحل التنشيط الإيقاعحيوى حتى حـَكـْى الحلم
يمكن تقديم المراحل (المستويات) التى يمر بها الحلم المحكى، من أول التنشيط الفسيولوجى، وحتى حكايته (فى قصٍّ مسلسل أو صورة مُشَكَّلَة) كما يلى:
تبدأ العملية بالظاهرة الأساسية التى تتمثل فى التنشيط الإيقاعى بالتناوب، الذى يسجل أكثر تحت مايسمى نوم الريم REM (13) وهو الحلم فى حضوره الفسيولوجى، وفيها يتم التحريك، والقلقلة، والتناثر، للمعلومات، وذلك بالخطوات التالية:
- تتحرك الكيانات المكونة للدماغ/المخ (حالات الذات: حالات العقل) (14)، تأهبا للتأليف، والتمثل، والتعزيز، وهذا المستوى المبدئى إنما يمثل حدة التنشيط الدورى فى طور البسط.
- إن المحتوى الفج الذى يتحرك فى هذا المستوى لايظهر أصلا فى وعى اليقظة، فهو بالتالى أبعـد عن أن تتناوله قدرة الحكى من حيث المبدأ، أما محاولة تسجيل المراحل الأسبق فتبدو مستحيلة بالأدوات، الحالية.
- قد يظهر هذا النشاط الفج بأقل قدر من التأليف الضام أو المسلسل، وهو ما نستنتج بعض ملامحه فيما يظهر فى شكل ما يسمى “الأحلام الذهانية” أو شبه الذهانية، ولكن ما يسمى بالأحلام الذهانية ليس دليلا أن الحالم ذهانى (مجنون)، لكنها قد تعتبر فى بعض الأحيان إرهاصات بالنكسة أو إنذارات تـَفسًّخ قادم، وفى نفس الوقت هى التى قد تكون المادة الأكثر أصالة لما سوف يسمى فيما بعد “الإبداع الفائق” أو “الإبداع الخالقى”، إذا ما تحمل الشخص مسئوليتها توليفا وجدلا وتصعيدا (إبداعاً).
يمكننا، إذن، صياغة عملية الحلم فى مراحل ثلاث أساسية، هى:
المرحلة الأولى: يتم فيها الحلم، دون إمكان حكايته، وهو ما سوف نسميه هنا: “الحلم بالقوة”، أو الحلم الخام (حركية الحلم الأولية).
المرحلة الثانية: يغلب فيها “الرصد” على “التأليف” مع احتمال حكاية الحلم. “هكذا”، بقدرٍ مَا من تناثره وتكثيفه، ونسميها: “الحلم بالفعل”، أو “الحلم الحركى”.
المرحلة الثالثة: هى المرحلة التى تسمى عند العامة (وعند الخاصة أيضا) ”حلما” من حيث إنها الحلم كما يحكيه الحالم تأليفا عادة، ونسميها: “الحلم بالتأليف”، على أن هذه المرحلة الأخيرة ليست واحدة، عند كل الناس، ذلك لأن التأليف يختلف أصالة وتزييفا، بحسب درجة وصاية نوع التفكير االذى يقوم بعملية الإبداع قبيل الاستيقاظ، أى الذى يتولى مهمة إعادة التشكيل من المادة (المعلومات) المتاحة عند الاستيقاظ مباشرة.
وتقل جرعة الإبداع فى الحلم كلما اقتربت حكاية الحلم من اللغة العادية والتسلسل التتابعى العادى، حتى تصل بعض الأحلام إلى حد تكاد عنده ألا تكون لها علاقة أصلا بالنشاط الحالم الذى أثارها. مثل هذه الأحلام هى التى تستحق أن يقال عنها “الحلم بالتزييف”، وبقدر اختلاف جرعة القدرة على الإحاطة، جدلا بالمعلومات والكيانات المنشطة، وبقدر نشاط التأليف الضام للمادة المستثارة من ناحية أخرى، فى مقابل التسجيل المَلَّفق، دون وعى كامل: يبدو الحلم إبداعا أصيلا، أو تفسخا غامضا أو تسطيحا بديلا.
خلاصة القول:
أن ما أسميناه “الحلم بالقوة” هو الحلم الأبعد عن التناول، وعن الحكى أصلا، وهو شديد التكثيف، سريع النقلات، متعدد الطبقات، واهـى العلاقات، أما ما أسميناه “الحلم بالفعل” (= الحلم الحركى) فهو حلم أقرب إلى الحلم المحكى لكنه ليس هو هو، وعادة ما يصعب أو يستحيل ترجمته حرفيا إلى لغة اليقظة، فهو لا يُحكى عادة بما هو، فإذا حُكى فإنه يحكى بشكل غامض ومتداخل واحتمالىّ، وليس بشكل حكى واضح مسلسل، كما اعتدنا أن نسمع حكاوى الحالمين، ثم ننتقل إلى مستوى الحلم المحكى الذى نحكيه وكأننا نتذكره، مع أن الواقع غير ذلك، فحـَكْى الحلم بمعنى التذكّر يكاد لا يكون من عمل الذاكرة أصلا.
إن فهم مستويات النشاط الحلمى بهذا التصعيد هو المنطلق لمعرفة طبيعة “الحلم الإبداع”، وهو ما تمثلهُ أحلام النقاهة.
الحلم الإبداع:
إن المبدع الأصيل هو الأكثر قدرة على احتواء كل مراحل الحلم السالف ذكرها بطريقة تلقائية جدلية هى أساس عملية الإبداع وهذا ما أسماه “أريتىArieti. S “: العمليات ” الثالثوية” (15)، وهى العمليات التى تجمع بين العمليات الأولية (البدائية – الانفعالية – الفجة) والعمليات الثانوية (التجريبة الحسابية المنطقية) فى وُلاَفٍ ضام(16).
فأين تقع أحلام النقاهة من كل ذلك؟
إنه (17)هذا الإبداع القادر المسئول الذى احتوى أغلب ما تحرك أثناء النشاط الحلمى، واستطاع أن يجمع نبضه وتناقضاته الظاهرة فى تشكيل أصيل بادئا بما يتصور أنه تذكـُّر لما جرى فى الحلم، مشتملا لكل ما يتناسق معه ويضاف إليه ويصقله: ليصبح إبداعاً فائقا فى ذاته، ولصاحبه أن يطلق اسم الحلم عليه، فى حين أنه إبداع فائق أصيل، استطاع استعمال آليات الحلم بوعى مشتمل ليقدم لنا هذه المأدبة البالغة الثراء، أو ذلك “الوُلاف السحرى” كما يقول أريتى، هكذا تخلقت أحلام النقاهة.
علاقة الإبداع الأدبى (الشعر كمثال) بظاهرة الحلم:
إن حركية الحلم هى القادرة على أن تفسر عملية إبداع الشعر ثم إن عملية تشكيل الشعر يمكن أن تشرح الكامن من حركية إبداع الحلم! هذا الموقف الدائرى صعب التناول، لكنه ضرورة معرفية لازمة، وهكذا، يمكن إعادة النظر فى مستويات الشعر – بمعناه الأشمل- قياسا على مستويات الحلم بدءًا بافتراض أن عملياته الأساسية إنما تبدأ باستيعاب العملية الإبداعية للطاقة الخلاقة فى فعل تنشيط، وتحريك فتفكيك فتنظيم مستويات الوعى ومفردات المعلومات، فى نمط يتميز بالإيقاع، والتصوير، وإعادة تخليق البنية الأساسية (بها جميعا). حيث الأداة الغالبة فى الشعر هى التشكيل بالأبجدية اللفظية الحاضرة أساسا (وليس تماما)، وهو يتم بدرجة من الإرادة والتوجه فى وعى فائق، وقياسا على مستويات الحلم يمكن النظر فى مستويات الشعر على الوجه التالى:
ثمْ شعر لم يُقَلْ أصلا، وهذا مايقابل التنشيط المبدئى للداخل فالخارج، هو لم يُقَلْ، لكنه تخلّق وهو يمر سريعا بمراحله الإبداعية الطبيعية، من تفكيك، وتحريك، فولاف داخلى، دون أن يتمكن الشاعر من اللحاق به، للإمساك بمادته، وتسجيلها، وتطويرها فى صياغة معلنة، هذا المستوى هو ما يمكن أن يسمى: “القصيدة بالقوة”، ولعل هذا هو ماعبر عنه ت. س. إليوت، بقوله: “لم يتعلم المرء إلا انتقاء خير الكلام للشئ الذى لم تعد ثمة ضرورة لقوله، وبالطريقة التى لم يعد ميالا لقوله بها” (18)
يلى هذا المستوى ما يمكن أن أطلق عليه مرحليا “الشعر-الشعر”، أو “أقصى الشعر”، وهو الذى يبدو -لأول وهلة- فجا متناثرا، لكنه حاضر مخترق، وهو إذ يمثل أول خطوة ممكنة تعلن نجاح محاولات عبور الموت/التحلل/الجنون؛ فهو الشعر الذى ينجح فى أن يلتقط عمق التفكك وبدايات الـَّلم فى آن. ثم هو الذى يستطيع أن يعلنها فى مسئولية غائية هائلة، حيث القصيدة لم تزل فى عنفوان المفاجأة والتكثيف، فى محاولة احتواء الهجوم على حواجز اللغة والزمن، وحيث يطل الموت كتنظيم بديل ليس له معالم، فيواجهه الشعر ليبعث فيه، ومِـنه، حياة مجهولة ومستكشِفة، فى حالة تشكيل (19) لا يكتمل إلا فى وعى القارئ (المتلقى: شاعرا).
هذا المستوى يحتاج إلى قدر هائل من الإرادة والمغامرة معا، لأنه يتناول عمقا غائرا من عملية التفكيك فالتركيب، ذلك أنه بدلا من أن يستسلم للتسجيل والرصد بأقل قدر من الإرادة الواعية المسئولة عن استمرار فعل الإبداع، فهو يتحمل هذا التنشيط التفكيكى ويتجاوزه به… ويغامر فـ “يقول”، فيكون شعرا، وبألفاظ أخرى: إن الشاعر لا يكتفى بتسجيل ما تنشَّطَ (ونَشِطَ) من صور وكيانات الداخل، إذ هو مازال محتفظا بوعى اليقظة الراصد المتحمِّل، بل إنه يتواجد فيه اقتحاما، ثم يستسلم له ليسيطر عليه، ويخاف منه متقدما إليه، غير مضطر إلى الإسراع بترجمته أو بتقريبه إلى أقرب “واحد صحيح” كما تعودنا نحن الحالمين دون شعر يقال، وهذا غالبا هو ما فعله محفوظ فصار حلما من أحلام النقاهة.
الشاعر يقتحم ويهاجم ابتداءً، محطّما البنية القديمة ليولد بنية جديدة جميلة ومتفجرة معا، على الشاعر – ليكون شاعرا- أن ينجح بعد جولات من الصد، والمناورة، والمخاطرة، والإحباط، والتصالح، فالتوحد، أن تعود علاقته بالكلمة إلى التوازن فالتربيط الجديد، لتخليق البنية التى تعطى الطعم الجديد؛ والشكل الجديد، والمعنى الجديد، والنبض الجديد، والصورة الجديدة، هذه هى القصيدة، قيلت أو لم تـُقـَلْ.
هذا، وقد خطر لى، خاصة بعد قراءة الجزء الثانى من أحلام النقاهة أن محفوظ قد سمح لعدد من الأحلام أن تظهر فى مستويات مختلفة، وهذا ما جعل بعض المتحفظين على مجموعة الأحلام الأخيرة يتشككون فى نسبتها إليه، وهذا تفسير متعجل، وتعميم سطحى، لأن المطلوب هو السماح بكل المستويات حسب متغيرات مختلفة لا يمكن معرفتها تفصيلا، كما لا يمكن تثبيتها طول الوقت.
شعر محفوظ ليس قاصرا على أحلام النقاهة:
دعونا نطرق باب نجيب محفوظ (حتى قبل أحلام فترة النقاهة) لنراه وقد تجول فى طول إبداعه وعرضه، بما هو حلم، وبما هو شعر وفيما هو حلم، وهو يحيط بأغلب مستويات وعيه معا، من: القصة الحلم، إلى اللقطة الحلم، إلى الحلم فى القصة، إلى الحلم التنبؤى، إلى الحلم الأضغاث، مما يحتاج إلى دراسة مستقلة. وقد يكون مناسبا أن أكتفى بالإشارة إلى مقتطف من قراءاتى الباكرة فى مجموعته: “رأيت فيما يرى النائم” (20)، مما يشير إلى بعض ذلك حيث قلت: إن “الحلم ليس وجودا سلبيا، كما أنه ليس نفيا للوجود، لكنه وجود آخر، وجود مُنَاوِب، فالإنسان ليس هو مايعى ظاهرا، وإنما هو ما يتكامل بتوليفة من مستويات وعيه: بعضها فى “مركز وعى اليقظة”، وبعضها على “هوامش اليقظة”، والبعض منها فى “وعى الحلم”، والبعض الآخر داخل “وعى النوم” (بلا حلم ظاهر)، ثم أضفت.”ونجيب محفوظ من خلال حدسه الفنى وقدرته الروائية يعلمنا أن الحلم هو وجود كامل فى ذاته، قائم بذاته، غير رمزى بالضرورة، بل هو أيضا رؤية ورؤى عيانية مباشرة.. (21)” ”إن نجيب محفوظ قد اقتحم فى هذا العمل مستويات الوعى الأخرى حتى تبينت له معالمها “كما هى”، لا كما تشير إليه أو تدل عليه فقط، فنسج منها إبداعه المتجاوز لكل ذلك لكنه احتفظ باسم أو صفة الحلم….” (22).” وحين نواجه العمل الذى أعلن أنه رؤى “… فيما يرى النائم” فإننا نجده قد أخذ شكل الحلم، ولكن التسلسل دار حول محور غائى مركزى قام بتوظيف شكل الحلم لغاية محددة: هى رحلة الحياة” (23)
ثم إننا نجده فى هذين العملين الأخيرين قد تجاوز حتى هذه المرحلة التى حددت انطلاقه نسبيا فى عمله الباكر هذا.
تفسير الحلم ونقد النص الأدبى:
يحق لنا - الآن- أن نأمل فى عقد مقارنة بين تفسير الحلم والنقد الأدبى فى محاولة التعرف على طبيعة ووظيفة وأهداف هذا العمل: أحلام فترة النقاهة، وبصفة مبدئية، علينا أن نعلم ابتداءً أن شكوكا متزايدة بدأت تظهر بوضوح فى إمكان تفسير الأحلام تفسيرا يقربنا من حضور “الوعى الآخر بما هو”، ذلك أن ما شاع من محاولات تفسير الحلم – سواء التفسير الشعبى أو التحليل النفسى - سواء بفك الرموز أو بوصل الأحداث أو بترجمة الإشارات إنما يبعدنا عن الحلم الأصل: إذْ يحضرنا فيه أو وبه، ولعل مثل ذلك هو ما يحدث فى كثير من النقد التقليدى، إذا استعملنا كلمة “تفسير” (بدلا من كلمة نقد أو قراءة)، حيث أن أغلب النقد المنهجى الأكاديمى الحديث قد يبعدنا فى كثير من الأحيان عن حضور النص بما هو لازم للوفاء بالإحاطة بأبعاده كما تحاول هذه الدراسة أن تبينها، إن كلا من فرويد ويونج قد اجتهدا، كل بطريقته فى محاولة وضع نهج لتفسير الأحلام، لكن فرويد حاول أن يكون عالما أكثر (وبنائيا كما قيل فيما بعد) فأعلن التزاما، وحدد منهجا، وزعم تعميما. والواقع أنه أفاد كثيرا بهذا، إلا أنه لم يخرج كثيرا عن دائرة نظريته ولا عن دائرة ذاته الشخصانية (لا ذاته الموضوعية، أداة البحث الفينومنيولوجى)، وهذا هو ما كان أيضا بالنسبة لمحاولات فرويد فى النقد، فى حين أن يونج قد أكد العامل الشخصى الموضوعى فى التفسير بالمعنى الإبداعى الأصيل مما لا مجال لتفصيله هنا.
من منطلق تطور النقد إلى مستوى “الإبداع على الإبداع”: علينا أن نتذكر أن الإبداع فى القراءة النقدية مثله مثل الإبداع الأول: إنما يمثل موقفا دقيقا بين الحرية والالتزام، فالحرية غير المحدودة تجعل جرعة الشخصنة (الذاتية الإسقاطية، اللاموضوعية) كبيرة وخطيرة، فى حين أن فرط الالتزام المنهجى قد يسجن ناقد النص (أو مفسر الحلم) فى جدول ضرب خانق، محاط بسياج من الرموز الجاهزة.
قصيدة القوس العذراء: الشعر ينقد شعرا!
إذا كان الحلم ليس حلما بل إبداعا مكثفا (أو مسطحا)، وإذا كان تفسيره ليس قادراً أن يكشف أبعاده، فالنقد الأدبى التقليدى قد لا يتجاوز أن يكون وصفا للنص لا يصل إلى مستوى الإبداع مهما بلغته دقته، النقد الأصيل هو إبداعٌ تالٍ من وحى حركية الوعى الأصلى استلهاما مما يصله من الوعى المنبعث من النص الأول، فهو إبداع على إبداع، يكاد يوازى حركية الوعى البينشخصى بين المريض والمعالج فيما أسميته “نقد النص البشرى”. (24)
وصلنى ذلك من قديم إلا أنه لم تتضح معالمه إلا مؤخرا، كان ذلك من خلال فرصة باكرة لمعايشة القصيدة الرائعة للشاعر الأديب المحقق “محمود محمد شاكر”: وهى قصيدة “القوس العذراء” (25)على قصيدة الشماخ بن ضرار الغطفانى فى قوس عامر أخى الخضر (26)، هذه القصيدة الفريدة، التى وصف فيها قصّة قوّاس صنع قوسا فأتقنها حتى كانت رميتها لا تخيب، ثّم اضطره فقره إلى بيعها، فأخذ شاكر هذه القصة ونسج عليها رائعة من روائع الشعر المعاصر.. جعلها واسطة بينه وبين صديق له لم تبلُ مودته وصداقته (27)
النقد بوصفه إبداعا هو مواكبة النص الأدبى: إبداعا مواكبا مشاركا من خلال حركية الوعى البينشخصى، إن نتيجة مواكبة النص الأصلى تلقيا مبدعا هى خليقة بأن تنشط إمكانية الإبداع النقدى، بما فى ذلك أن يكون نقده إبداعا منشئا فى ذاته (28).
خلاصة القول حتى الآن: إن النقد “الإبداع على إبداع” ليس غوصا إلى بنية تحتية مسئولة عن المفردات الفوقية الظاهرة فى العمل الأدبى، وإنما هو - بعد الغوص أو بدونه - صعودا بالنص الأول إلى ما يتجاوزه بالنص الناقد إبداعا، وقد تتاح الفرصة أكثر فأكثر كلما كان النص شعرا أو اقترب من كونه كذلك.
التطبيق على أحلام النقاهة (وغيرها وقبلها):
مرة أخرى: هى قصائد بكل ما تعنى القصيدة، وهى أحلام بكل ما يتجاوز الأحلام، وقد سبق لى أن تناولت بالنقد أعمالا بدت كأنها روايات أو حتى حكايات، لأكتشف أنها شعر خالص، ومثال ذلك حين تعاملت مع حكايات هانز كريستيان أندرسون بعنوان “قصص وحكايات خرافية” (29)، فهو شاعر أساسا، لكن شهرة أندرسن ارتبطت بكتاباته للأطفال أكثر من كونه شاعر، كتاباته للأطفال سميت خطأ (ربما مقصودا) “خرافية”، وقد اعتبرتُ ذلك بمثابة الخدعة الذكية، حتى لو كان هو الذى أطلق عليها هذه الصفة. كما أننى رجحت أنه سماها كذلك ليستدرجنا إلى عمق الحقيقة، فيفوّت علينا أن نسارع فندمغها بالخرافة، إن مبادأته بتسميتها “خرافية” هى نفى ضمنى لاحتمال اتهامنا إياها أنها كذلك، (فهل يا ترى فعل محفوظ مثله حين بادر بتسميه هذه الأعمال الأخيرة “أحلام فترة النقاهة” كما سمى عملا سابقا “رأيت فيما يرى النائم”؟).
ثم نأتى إلى حدس نجيب محفوظ كما تجلى أخيرا فاستطاع، بجهد فائق، اقتحام التركيب البشرى بنشاطه المتناوب، وإسقاطاته المجسمة، وهو يتنقل بين وعى الحلم ووعى الإبداع: مرورا بوعى اليقظة فنجد أنه بذلك قد صالح كل مستويات وعيه حين استطاع أن ينسج من حركية الحلم رؤية قصصية شعرية بوظيفتها التحريكية الكشفية، قبل مستواها الرمزى وبعده، وقد بدأ هذا الغوص فالإحاطة فالجدل باكرا منذ “رأيت فيما يرى النائم” (30)وأيضا – كما ذكرت – فى أعمال لم يسمها أحلاما صراحة مثل “ليالى ألف ليلة” (31) ثم يأتى نجيب محفوظ بعد أكثر من عشرين عاما، وبيده التى عادت إليها الحياة بفضل تدريب ست سنوات متصلة، بعد فضل الله، يأتى ليبدع لنا فى سطور معدودة، هذه الصور -وأغلبها شعرا – ذات النهاية المفتوحة بكل هذا التكثيف المحرك للوعى. هذا إنجاز بشرى فريد ليس له علاقة بنوبل، بل بمحفوظ هذا الذى تشرُفُ به نوبل.
أجنَّة أحلام فترة النقاهة، والمعرفة الهشة:
لما وصلتنى من أحلام فترة النقاهة كل هذه الاحتمالات، وكنت – ومازلت- مثابرا على كتابة تداعياتى على تداعياته فى كراسات التدريب، رحت أتامل هذا الكنز الآخر من لآلىء وعيه المتناثرة، وأنا أتحسس طريقى إلى حركية تلقائيته فى إبداعه العفوى هذا: ورويدا رويدا اكتشفت أننى عثرت على مفتاح كنز الإبداع بفضله، ذلك أننى عثرت فى تدريباته للكتابة بدءا من صفحة التدريب رقم (176) على عدد من الجمل الأكثر تماسكا، وقد وصلنى من نبضها ما هو أقرب إلى ما أسماه أريتى: “المعرفة الهشة”، ولأن المعرفة الهشة – كما سنرى- لا تعلن عن نفسها بما هى أبدا، فقد وجدت فى ما عثرت عليه هكذا فى تدريباته أننا فى مرحلة تتخطى قليلا مرحلة المعرفة الهشة (أصل الإبداع والحلم والجنون)، ولم أجد لما وجدته مسمى جاهزا فسميتها “أجنّة أحلام النقاهة”، وهكذا رحت أحاول أن أتابع كيف تعهدها مبدعها بحمْل سليم، حتى وضعها أحلاما بديعة كاملة النمو، وعلى ذكر المعرفة الهشة لابد من الإشارة إلى معنى وأهمية هذا المصطلح الذى صكه سيلفانوا أريتى فى كتابه “الإبداعية: الولاف السحرى”، (32) لأنه الأصل فى هذه الظواهر الثلاث التى نحن بصدد النظر فيها.
عرّف سيلفانو أريتى (1976) المعرفة الهشة بأنها نوع من المعرفة التى تتم دون تمثيلات، أى دون أن تظهر فى صور أو ألفاظ أو أفكار أو أفعال من أى نوع، واعتبر أن تنشيط هذه المعرفة هو أصل الظواهر التى أشرت إليها حالا: الحلم والإبداع والجنون، وهذا ما سبق أن استشهدت به فى حالة الإبداع من شهادات المبدعين، وقد انتقيت منها ما سوف أورده دون تعقيبى عليها، وكان سبب انتقائى لها هو ما بها من إشارات إلى “ما لا يقال” (إبراهيم أصلان) وإلى “ما يفتقر إلى التجسيد” (أبو المعاطى أبو النجا)، “وإلى “سديم الاحساس الداخلى” (يوسف أدريس) وإلى “البرق الذى يظهر ويختفى” (نزار قبانى) وإلى “سديم آخر يفلت منك حين تحاول أن تحضن موجاته. (أدونيس).
(1) إبراهيم أصلان: (33)
”… لكن بقية التفاصيل التى لا تـكتب (مثلها مثل كل الكلمات التى لا تكتب) تظل موجودة وحاضرة فى قلب ذلك القليل الذى يكتب. أقول لنفسى أحيانا: إن مايقال يكتسب قيمته الباقية من تلك الأشياء المجهولة والتى لا تقال أبدا”.
(2) أبو المعاطى أبو النجا: (34)
“.. فأكتب القصة لأعبر عن شىء، أو لأمسك بشيء يتململ فى داخلى، ويعجزنى أن أتعرف عليه قبل أن أضعه فى شراك الصيغة القصصية الملائمة، لأجسد شيئا هلاميا، يفتقر إلى التجسيد، ليكتسب معنى “.
(3) يوسف إدريس: (35)
”.. الإبداع عندى أشبه مايكون بخلق الكون..، سديم من الإحساس يتكون داخلى، ثم يبدأ حركة هائلة الضخامة، بطيئة الوقع. وتتخلق الأفكار من هذه الحركة السديمية للأحداث والشخصيات.. وبتوقف الحركة تكون القصة قد تخلقت فيما أسميه القصة -الكون – الحياة التى هى أعلى مراحل السديم “.
أما شهادات الشعراء وهم الأقرب إلى إبداع الحلم فأقتطف منها ما يلى:
(1) نزار قبانى: (36)
”تأتينى القصيدة -أول ماتأتي- بشكل جمل غير مكتملة، وغير مفسرة، تضرب كالبرق وتختفى كالبرق. لا أحاول الإمساك بالبرق، بل أتركه يذهب، مكتفيا بالإضاءة الأولى التى يحدثها… أرجع للظلام وأنتظر التماع البرق من جديد، ومِـن تجمع البروق وتلاحقها، تحدث الإنارة النفسية الشاملة… وفى هذه المرحلة فقط أستطيع أن أتدخل إراديا فى مراقبة القصيدة ورؤيتها بعقلى وبصيرتي”.
(2) – أدونيس: (37)
“…إنها (القصيدة)، عالم ذو أبعاد، عالم متموج متداخل كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ،… تقودك فى سديم من المشاعر والأحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص ، تغمرك، وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج”
ثم نصل إلى شهادة نجيب محفوظ ونصها يقول (38)
”… تدب حركة من نوع “ما” (التنصيص من عندي) فينشط الكاتب لتوصيلها إلى القاريء بعد أن تتجسد له فى شكل معين، ما هذه الحركة ؟ قد تكون “أى شيء”، أو “لا شيء “بالذات… “.
فنلاحظ هنا أن محفوظ كان أبسطهم وفى نفس الوقت أقل قدرة على وصف تفاصيل عملية إبداعه، مع أنه من أقدرهم بل أقدرهم، هم وغيرهم على احتواء هذه المعرفة الهشة لتخليقها إبداعا، وخاصة فى مثل هذا العمل: أحلام النقاهة، ومع ذلك جاءت شهادته هنا بهذا التواضع والبساطة، وهذا يدل على عمق وأصالة المبدع، وليس العكس.
وقد ظهر بعض هذا القصور الإيجابى فى العجز عن وصف ما لا يوصف، وهو يشرح مضطرا بعض خطوات هذا الإبداع الأخير الذى تجلى فى أحلام فترة النقاهة، فالمبدع الأصيل جدا هو الذى يعجز عادة عن وصف طبيعة وخطوات عملية إبداعه، وربما هذا هو بعض ما لاحظته فيما ورد فى العمل الأمين الذى صدر مؤخرا باسم “حوارات نجيب محفوظ” التى أجراها وجمعها الأستاذ محمد سلماوى (39)، وإن كان قد جاءنى تفسير أخر لإجاباته المتواضعة فى هذا العمل، فهو حين تكلم مع الأستاذ سلماوى لابد أنه كان يضع فى اعتباره أنه يتكلم بما يمكن أن ينشر فى صحيفة يومية (الأهرام) فاضطر أن يبسِّط ما لا يتبسط، أو هذا ما وصلنى، وهذا يعود بنا إلى ما بدأنا به وإلى ما قدمناه فى المقدمة وكيف أن المبدع ليس ملزما، وعادة ليس قادرا على الإلمام بتفاصيل خطوات إبداعه، (كما أشار أريتى هامش رقم (5)) وبالتالى تكون إجابات محفوظ عن أحلامه فى هذه الحوارات ليست هى فصل الخطاب ولا هى الأهم أو الأدق وصفا، وهذه بعض الملاحظات حول ذلك:
– صفحة (307) من كتاب حوارات نجيب محفوظ: (40)يقول محفوظ: “لاحظت أن الأحلام الجديدة أصبحت أكثر ارتباطا بالواقع، وهى تبدو متأثّرة جدّا بالأحداث الجارية”…. “الأحلام التى أكتبها الآن تبدو لى انعكاسّا مباشرّا للأحداث التى نعيشها”
وقد وصلنى أنه بهذا التصريح قد ابتعد قليلا أو كثيرا عن طبيعة الأحلام وعمق إبداعها، وخاصة حين أردف “يبدو أن ما ننكوى به نحلم به.”، وهذا وارد ومقبول، ولكنه يظل بعيدا عن زخم الشعر الذى يتميز به مجمل هذا العمل، إنه استنتاج من حقه، لكنه قد يكون أبعد ما يكون عن أصل العملية الإبداعية، وعن عى الحلم بالقوة، أو الحلم الأصلى، أو الحلم الشعر، وبالتالى عن معظم أحلام فترة النقاهة (وإن كانت بعض الأحلام، وخاصة فى المجموعة الجديدة فيها بعض ذلك مما قلل عندى من شاعريتها ومن حُلميتها).
وأيضا فى صفحة (309) قال: “إن الأساس المحرك فى هذه القصص هو حلم حقيقى، لكنه حلمٌ ليس مساويّا للقصة كما تنشر، فالحلم قد يمنحنى الفكرة لكنى أعمل على هذه الفكرة طويلا….الخ”
وهذا طيب أيضا لكنه من ناحية أخرى يجعلنا نتساءل عن ما هو الحلم الحقيقى وما هو الحلم غير الحقيقى، ونتوقف هنا عند تعبيره “المحرّك” وهذا رائع كذلك، ولكن بمراجعة ما سبق عرضه فى التنظير يمكن أن نرجح أن ما يتذكره المبدع مما اسماه حلما له أصول وأعماق أبعد وأشمل من تصريحاته الطيبة المتواضعة هذه:
وأخيرا: وفى صفحة (311 نفس الكتاب) ردا على سؤال سلماوى “ما الذى لا يرضيك فى القصص التى لم نقرأها، يرد محفوظ: “يقلقنى أن القصة لا تصب تماما فى القالب الذى أردته لها، فالمهم عندى فى هذه القصص التى سميتها أحلاماً أن ينتهى هذا الحلم بفكرة عامة، لا أن يظل حلما خاصا، والفكرة التى يقوم عليها فكرة خاصة”
وهذا أيضا التزام طيب، لكنه لا ينبغى أن يلزم المبدع نفسه به، والأرجح عندى أنه ربما كان يريد أن يرسل رسالة طيبة للمحاور أو للقارئ وهو يعلم تماما – ويمارس دائما- أنه لا يوجد حد فاصل بين ما أسماه الفكرة العامة والفكرة الخاصة فى الإبداع.
تداعيات من صفحات التدريب تغوص أعمق:
حين أتيحت لى فرصة الاستجابة لهذه الدعوة بالتداعى على ما تركه لنا سطورا بخط يده على صفحات التدريب، فوجئت – كما ذكرت – بالعثور على إرهاصات الإبداع الدالة على حركية هذه المعرفة، واعتبرت أننى عثرت على “أجنّة” جميلة لم تكتمل، فى أعمار مختلفة، ولم أثبت هذا الاحتمال إلا بعد أن تأكدت لى بدءًا من صفحة التدريب رقم “176” معالم أوضح لهذه الأجنة، وقد رأيت أن أورد فيما يلى عينة مما اعتبرته “أجنّة لم تكتمل”، وقد وصلتنى باعتبارها محاولات تجريبية سمحت لنا التدريبات بالإطلاع عليها وهى بعدُ بهذه البكارة، ربما نتعرف من خلالها على بعض معالم حمل الجنين، وهذه المقتطفات لا ينبغى أن تتعرض لأى نوع من النقد ما دام صاحبها لم يسمح بنشرها على أنها انتهت، اللهم إذا درست باعتبارها مسودة لا نعرف ترتيبها: هل هى الأولى أم الخاتمة أم قبل الأخيرة، علما بأن دراسة مسودات المبدعين عامة بالغة الأهمية والإفادة. وهاكُم بعض هذه الأجنة:
نشرة “الإنسان والتطور” 13/11/2014 صفحة التدريب رقم (176)
النص الأصل:
…”لم يكن فى الغرفة بصيص نور،
وجاء هو من آخر البيت يسعى،
فاعترض سبيله شيطان رجيم،
وتواصلا، يتقدم فى المسير،
فعلم ان المسير ينتهى إلى خير
صمم على المسير،
وفقد الآخر نذيره،
وزادت المآسى واحدة جديدة”
مقتطف من تداعياتي عليها (41):
“…تصورت أن كل هذه العبارات التى طفت على سطح وعى شيخنا طوال فترة تدريبه كانت تمثل هذه النبضات الإبداعية المتفرقة، وأنه حين بدأت تتبلور فكرة احتمال العودة إلى السماح لها بالتآلف فى إبداع قد يصلح للنشر تماسكت هذه الإرهاصات أكثر لتمثل: مشروع قصة قصيرة” (لعلها بعض أحلام فترة النقاهة).
نشرة “الإنسان والتطور” 20/11/2014 صفحة التدريب رقم (177):
النص الأصل:
“اجتمعوا على سبيل ليناقشوا
المسألة من كافة وجوهها، وانبرى
رجل من الجماعة قاذفا بأقبح التهم
وجوه الأبرياء، فوقع التلاحم المقصود
وسيقوا جميعا إلى القسم، وحرر محضر
بالحادث، ولكن انتهى الأمر بالقبض
على الابرياء لحين تقديمهم إلى النيابة
وتجمهر ناس فقذفوا القسم بالطوب
وخطب رجل بينهم بحاجة الناس
إلى الثورة”
مقتطف من تداعياتي عليها (42):
“…هذا جنين آخر يتميز بما تميز به جنين الخميس الماضى، بلا فقرات، اللهم إلا نثرات سيقان وأذرع، الجنين فى بطن أمه بدءًا من الشهر الخامس، وحروف العطف جاهزة والتسلسل وارد، لكنه ليس تسلسلا خطيا، ولكن عموما هو قد تجاوز مرحلة المعرفة الهشة (43).
نشرة 18/12/2014 صفحة التدريب رقم (181):
النص الأصل
..ذهبت إلى السوق فلم أجد
موضع لقدم وجاءنى العون من
صاحب خبرة بالزحام فشق بى
سبيلا إلى غايته، واقنعنى بأنها غايتى
لم أجد فى ذلك بأسا وكانت
سبب الكثير من افراحى وحزنى
ولكن صاحب الخبرة اختفى فى
زمن يسير وتركنى أبحث عن
شىء كنت أبحث عنه”……”(؟) (44)
وجاء فى تداعياتى عليها ما يلى: (45)
“…..المفاجأة ليكون إبداعا: هى أن صاحبنا اقتنع بتغيير غايته إلى غاية من سهّل له سبيله، ولا نعرف ما هى غاية هذا المرشد الماهر، ولا يمكن استبعاد الخير كما لا يمكن استبعاد الشر، لكن صاحبنا كان من الطيبة والوعى وربما الرغبة فى الاستكشاف ألا يجد فى ذلك بأسا، ومثل أى طريق مجهول نسبيا لابد من أحزان وأفراح لتكون حياة، وتبدو الصحبة معقولة وبغض النظر عن الموقف الحُكمى: خيراً أو شراً، لتصبح الصحبة فى ذاتها مأربا جيدا. لكنها لا تدوم….الخ
ها هو ذا إبداع “آخر يتخلق” أمام ناظرينا
وهو بعدُ جنيناً.
“نقد الشعر شعرا”: ليس معارضة شعرية ولا هو نوع من التناص:
حين تذكرت ما تعلمته باكراً من قصيدة “القوس العذراء” (46) من أن “الشعر لا ينقد إلا شعرا” (47)، رحت أحاول تطبيق ذلك وخاصة بعد أن جعلت أعامل نصوصا لا تحمل اسم “الشعر” على أنها شعر خالص مثل هذه الأحلام القصائد، وربما هذا هو الذى شجعنى فى الفصل الثالث من كتابى لنقد هذه الأحلام أن استلهمها فأضيف لها ما أسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى” من الحلم (52) إلى الحلم (208) فرحت أترك النص يفعل بى ما يشاء، ثم أواصل ما تبينت فيما بعد أنه “حوار بينشخصى” على هذا المستوى من الوعى. وهذا بعيد تماما عن ما يسمى المعارضة حيث المعارضة الشعرية: عارضَ شاعرًا: باراه، جاراه في شِعره وأتى بمثله أو أحسَن منه عارَض بمثل صنيعه: فعل مثلَ فعله، أتى إليه بمثل ما أتى، كما أنه بعيد بدرجة أقل عن ما يسمى “التناص“، إن كانت هناك نقطة عميقة مشتركة، لأن الشاعر المبدع اللاحق فى التناص يظهر فى أعماله ما يقال عنه “التناص نتيجة لتفاعله مع النص الأصلى، وهذا يكاد يتداخل مع ما يحدث فيما اسميته نقد الشعر شعرا (أو نقد الحلم حلما) إلا أنه فى التناص يحدث أكثر ذلك لا شعوريا، وقد تذكرت حوارا دار مع شيخنا محفوظ ومع صديقه القديم مصطفى أبو النصر (48)فهمت من خلاله موقفه من فكرة التناص، والفرق بينه وبين الإقتباس والسرقة والمعارضة الشعرية وكل ذلك بعيد عن مفهوم أن الشعر لا ينقد إلا شعرا.
قبل الخاتمة:
قدرت أنه قد يكون مفيدا بعد كل هذا التنظير والتداعى أن أختم بنموذج قمت به نقدا لنص واحد من أحلام فترة النقاهة قمت بنقده على ثلاث مستويات مختلفة لعلها تشرح بعض ما سبق: المستوى الأول: بالإحالة إلى رمز سياسى، والثانى: وهو يدخل فيما يسمى التفسير النفسى للأدب، أما المستوى الثالث: فهو ما تحرك فى وعيى وأسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى”.
نص الحلم رقم (11) من أحلام فترة النقاهة الأولى:
“نص: حلم 11” (49)
“فى ظل نخلة على الشاطئ استلقت على ظهرها أمرأة فارعة الطول ريانة الجسد وكشفت عن صدرها ونادت. يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخيل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب علىّ أن أفعل شيئا أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى، وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم، التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل.
المستوى الأول: بالإحالة إلى الرمز (السياسى) المباشر:
هذه المرأة هى مصر هى “البقرة السودا النطّاحة” التى ناح عليها الشيخ إمام منذ 1968 وهو يدندن كلمات أحمد فؤاد نجم: “ناح النواح والنواحة، عالبقرة السودا النطاحة، والبقرة حلوب….حاحا، تحلب قنطار….حاحا، لكن مسلوب….حاحا، من أهل الدار….حاحا؟؟”…الخ. والرمز فى هذا الحلم أكثر وضوحا ومباشرة، فالنيل أكثر حضورا بنخيله وطوله الفارع، وجسده الفيضان، (= الريّان!!) والناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل، ماذا يتبقى بعد ذلك لتكون هذه المرأة هى مصر “هبة النيل”؟ والعظةُ واضحة من أن الجشع سوف يعود على من يمارسه التهاما بالجوع والخراب والتقاتل فيما بين الطماعين، التقاتل حتى الهلاك.
نقد النقد:
هل هذا يكفى؟ هل يكون الإبداع إبداعا إذا اكتفى بوصف الحاضر رمزا، مهما بلغ إتقان التشكيل، وجمال التوليف؟ ما الجديد فى أن نقول إن هذه المرأة هى “مصر” (50)، ثم نقرأ الحلم وكأنه رمز صريح مباشر لمصر وما يفعله بها بعض أبنائها، كل أبنائها، فوجا بعد فوج هل هذا يكفى؟ إن نجيب محفوظ أبدع وأعمق من ذلك بكثير، إن مثل هذه القراءة تبدو الأقرب لتفسير الأحلام بالرموز، فى رأيى أن هذا المستوى من النقد لا يضيف إلى الإبداع كثيرا، بل ربما يقزّمه.
المستوى الثانى: التفسير النفسى للنص!!
المرأة هنا هى التى تنادى، وهى لم تنادِ أطفالها بالذات، هى الأم أصل الحياة ومصدر الحب، وهى التى تكشف عن صدرها وتنادى فقط، ربما هى إشارة إلى وفرة العطاء الذى فاض عنها فيضانا لا تريد بحكمتها أن ينتهى إلى البحر، فناسها أولى بعطائها، بل الأرجح أن النداء موجه لكل الناس. ينفتح العطاء ويغمر حين لا يتحدّدُ المُنَادَى (بفتح الدال) المرأة “كشفت عن صدرها ونادت” وهذا هو تجسيد “لما يسمى” صورة الأم الحسنة” (51) الأطفال – وليس الناس – هم الذين زحفوا نحوها وتزاحموا على ثدييها، بينما الناس كانوا “يغطون فى النوم على شاطئ النيل”، أطفال بلا حصر، مختلفوا الهوية، ليسوا أطفالها بالضرورة، أما ناسها فهم نيام نيام، إنها الأم الحياة، أما الأطفال فهم يمثلون الجوع البدائى الذى يلتهم الأم مع علمه بأنها مصدر الحب والحياة، ثم يشعر بالذنب لقتل الأم وهو أساس ما يسمى بالموقع الاكتئابى Depressive Position فى هذه المدرسة التحليلية، وقد عبرت عن هذا الموقع شعراً فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (52) قائلا:
أضغط تحلب، أترك: تنضب، أضغط تحلب، أترك تنضب، لكن هل تنضب يوما دوما؟؟ أفلا يعنى ذاك الموت؟ ملكنى الرعب .. واللبن العلقم ..، يزداد مرارة
فكرهت الحب، وقتلت البقرة
يبدو أن هذا الحلم قد جاء ليكشف عن هذا الموضع الاكتئابى (53) فى مراحل النمو ويصوره أدق تصوير هكذا، وتكملة لهذا الكشف فإن هذا الموقف نفسه قد يرتد إلى موقف أسبق فى النمو وهو موقف أكثر بدائية وتسميه نفس المدرسة “الموقف البارنوى”، وهو الذى يمثل عدم الأمان البدائى المطلق، وقد أظهره الحلم أوضح حين راحت الطفولة المسعورة تنطلق من جوعها الذى لا يُشبع لتطلق عدوانيتها وقسوتها مادامت قد انفصلت عن الفطرة المتكاملة، فانقلبت إلى بدائية جائعة مسعورة، هذا ما يعبر عنه السعار المتتالى جيلا بعد جيل، وهو أقرب إلى سعار التكالب على السلطة، والاستغلال، والاستعمار جميعا، وفى حالتنا هذه: هى سلطة بدائية بلا قانونٍ يردعها، وبلا عدلٍ يزن تصرفها: (الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم)، إن الأطفال هنا إذن يمثلون سعار “عدم الأمان البدائى” الذى وصفتُه شعرا أيضا فى نفس العمل (54)وأنا أرسم هذا الموقف البارنوى قائلا:
من فرط الجوع التهم الطفلُ الطفلْ،……،
فإذا أطلقتُ سُعارى بعد فواتِ الوقتْ، مَلَكِنَى الخوف عليكم:
إذْ قد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر، دون شبع” (55)
وحين يمتد الالتهام من الرضاعة إلى امتصاص وجود الأم مصدر الحب والحياة، ثم نهش لحمها، حتى تصير هيكلاً عظمياً، ثم يرتد النمو إلى مرحلة أدنى تتصف أساسا بالتقاتل بين القتلة المسعورين، فهو منظر ذو دلالتين: أولا: أنهم بدلا من أن يرعو الأم احتراما لكرم ندائها دون تمييز، وحفاظا عليها لتظل تفيض عليهم من جسدها الريان، غلبهم الجشع والجوع الذى لا يُشبع، فذبحوا الدجاجة التى تبيض ذهبا، وهذه هى معالم الموقف الاكتئابى ثم إن ذلك لم يحقق لهم شيئا، خاصة بعد أن أهلكوا المصدر الأصل عدما، فانقلبوا يتقاتلون مع بعضهم البعض، وهذا هو طبيعة الموقف البارنوى الذى ارتدوا إليه، وهو موقف الكر والفر والعدوان والخوف والتوجس معا، وقد صوره الحلم بشاعرية بالغة: صوّر تحولهم من أطفال إلى مسعورين من أكلة لحوم البشر.
هل كانوا كلهم كذلك؟ الإجابة بالنفى، لأن الذى استغاث بالراوى (الحالم) كان “بعض منهم ” أقبلوا نحوه يطلبون منه عمل المستحيل، دور الراوى هنا هكذا كشف لى عن دلالة مستقلة، فهو منذ البداية يشعر أنه ما هكذا تكون الرضاعة، وما هكذا تكون الاستجابة لكرم نداء الأم (الحياة) المِعْطاء، وهو لايكتفى بهذا الحدس المتخوِّف، بل إنه يشعر بالحاجة إلى التكاتف لإجهاض هذه الجريمة المتمادية، وذلك حين خيل إليه – ومن البداية – “أن الحال تستدعى التنبيه أو الاستغاثة”،
وحين استغاث به الأطفال بعد ما جرى جاءت استغاثتهم بعد فوات الأوان: انتهت البقرة، ولم يشبع الأطفال بل ازدادوا سعاراً وتقتيلا فى بعضهم البعض. وحين يصل الأمر إلى مثل ذلك، لا يكون أمامنا إلا المستحيل المجهول.
نقد النقد: هذا النص برغم غوصه إلى أغوار التركيب البشرى، ورصده للتوقف عند مراحل بدائية فى النمو مطابقا بذلك مدرسة أحدث من مدارس التحليل النفسى، إلا أننى مازلت أرجح أنه قد يبعدنا – مهما أضاف – عن القصيدة الأصل، وهو يظل أقل من حركية الوعى التى يمكن أن تثيرها القصيدة، وبالرغم مما أظهر هذا النقد من عاقبة التقاتل الأعمى والردة إلى الطمع البدائى، إلا أنه كاد يفرغ القصيدة من نبضها المفيق ليحل محله معلومات علمية هامة ومواعظ ليست هى وظيفة الإبداع الأولى.
أما المستوى الثالث: النقد الإبداعى باستثاره الوعى البينشخصى (شعر على شعر)، فقد نسجته على منوال ما فعلت فى كتابى فى نقد الإصدار الأول من أحلام النقاهة (56): الفصل الثالث من الحلم “62” إلى الحلم “208” وخطر لى أن أكمل التجربة الآن، حيث كان هذا الحلم رقم 11 ضمن الأحلام الأولى التى لم أسمح لنفسى فيها بما اسميته “تقاسيم على اللحن الاساسى”، لكننى عدت أجرب الآن من جديد ربما يمكن إجراء مقارنة مفيدة بين المستويات الثلاثة لقراءة نفس الحلم.
وحيث أن هذا المستوى الثالث لا يقرأ إلا متصلا بالنص الأصلى مباشرة (اللحن الأساسى)، فلا مفر من إعادة كتابة نص الحلم (القصيدة) مرة أخرى، تأكيدا لفكرة ضرورة التتابع والتلاحم لضرورة تنشيط الوعى البينشخصى الذى يمكن أن يعين على عزف: “التقاسيم على اللحن الأساسى”، فحين تتم قراءة النصين متصلين “فى نَفَسٍ واحد”، ربما تصل فكرة الوعى الممتد أوضح.
حلم (11)
فى ظل نخلة على الشاطئ استلقت على ظهرها أمرأة فارعة الطول ريانة الجسد وكشفت عن صدرها ونادت. يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخيل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب على أن أفعل شيئا أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل.
تقاسيم على اللحن الاساسى (شعر على شعر)
…. ولم أعرف ما هو المطلوب منى بالضبط بعد أن أفرغوا المرأة من لبنها ثم من لحمها وشحمها، أى مستحيل يطلبه هؤلاء الأطفال المفترسون الأوغاد بعد ما صنعوه بأمهم، حتى لم تعد إلا هيكلا عظميا مخيفا لا يصلح لشىء، ومع يقينى بعجزى واستحالة المستحيل، تقدمت نحو الهيكل العظمى وأوسع لى الأطفال وهم يتلمظون جوعا، ويتزاحمون، وتخيلت أن المستحيل الذى طلبوه هو أن أحيى هذه العظام وأكسوها لحما لتدر لبنا من جديد، فتصبح جاهزه للامتصاص ثم الالتهام من جديد، وطلبت منهم مهلة فلم يسمعوا، وتملـَّيت فى وجوهم فوصلنى جوعهم المتجدد ونهمهم المسعور، وملكنى خوف على نفسى واستدرت، وبداخلى صوت يردد “نفسى” “نفسى”، وحاولت اختراقهم عدْوا فى الاتجاه الآخر فحالوا دون ذلك، فعدت أنظر إلى الهيكل العظمى وأنا ممتلئ رعبا، فإذا بصوت واضح يأتينى من ناحيته، فأسمعه وحدى وهو يقول:
الجوع كافر،
فقلت لها: وأنا مالى،
قالت: وأيضا! أنت مَالَك ؟؟!! هل هذا كلام؟!!
****
خاتمة: بتجريب عملى:
مرة أخرى: ليس معنى أننى أفترض أن الشخص العادى يبدع أحلامه أننى أحاول أن أقارنه بهذا الإبداع الفائق الذى تمثله أحلام النقاهة هنا، محفوظ هو الذى علمنا عظمة الشخص العادى وكيف أنه الأصل حتى فى الإبداع: يقول محفوظ فى فقرة “78” فى أصداء السيرة الذاتية: .. تذكرت كلمات بسيطة لا وزن لها فى ذاتها مثل: ”أنت“, ”فيم تفكر“؟ “طيب“,. ”يا لك من ماكر”… ولكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس,.. وثمُل آخرون بسعادة لا توصف…” فهو يفتح لنا الباب على مصراعيه لأىِّ من خلق الله، أن يكون مبدعا حين يعنى ما يقول “هنا والآن”، فيكون له سحره الغريب الغامض الذى يُجن له ناس، ويثمل آخرون بسعادة لا توصف ….!!
أنا على يقين أننى لو حكيت لشيخى ما قمت به من تجريب فى العلاج الجمعى لاستحضار “وعى الحلم” على هامش “وعى اليقظة” خلافا لما يسمى أحلام اليقظة: لاستقبله بنفس الدهشة المبدعة الفرحة التى عوّدنى عليها حين كنت أحكى له بعض خبرتى التى تصلنى من ممارسة مهنتى.
نصوص من التجربة:
انطلاقا من هذه الفروض، وأننا جميعا نؤلف (نبدع) أحلامنا، لا نستحضرها من الذاكرة، حضرنى تساؤل يقول: هل ما اسميته “وعى الحلم هو منفصل تماما عن وعى اليقظة”؟ و”هل لابد أن ننام حتى يحضر وعى الحلم بالتبادل مع وعى اليقظة”؟ وهل يمكن أن نستحضر وعى الحلم، أو هذه المرحلة الانتقالية بين وعى النوم ووعى اليقظة، أن نستحضرها ونحن فى حالة اليقظة بعيدا تماما عن ما يسمى أحلام اليقظة؟
التجربه وعينات محدودة:
للإجابة على هذه الأسئلة وبعد استبعاد ما يسمى “أحلام اليقظة” كما ذكرنا لأنها أقرب إلى التفكير التسلسلى والخطى والتفكير الآمِلِ، ولأن زمنها هو المستقبل عادة وليس “هنا والآن”، وبرغم أنها توصف أنها نتيجة نشاط الخيال، وبعد أن نتذكر أن الخيال ليس مرادفا للإبداع، وبعد استبعاد ما يسمى التنويم (المغناطيسى) (57)لأنه انشقاق فى الوعى السائد واستبداله بوعى آخر غامض مخدَّر، بعد كل ذلك جرت التجربه فى محاولة استحضار وعى الحلم على حافة وعى اليقظة النشط، تحت مظلة تخليق الوعى الجماعى فى علاج يسمى العلاج الجمعى: كل ذلك سمح بإمكانية التجريب فى إحدى جلسات العلاج الجمعى الذى أمارسه مع مجموعات من عامة عامة الناس (58) وكان مفتاح التجربة ونحن نمارسها بما يشبه المونودراما مع سماح محدود بالمشاركة، كان المتاح هو أن تكون البداية تحديداً وإلزاماً بـ: “أنا” و”هنا والآن”، وكنت أصرّ على بداية محددة أنبه إليها كل مشارك قبل أن يبدأ مباشرة، وهى أن يقول: “أنا دلوقتى…” ثم يكمل، وهذه هى القاعدة الأساسية فى هذا العلاج عامة.
المقتطف من نص التجربه:
…………….
…………….
د.يحيى: (مخاطبا د. دينا: متدربة) شكراً يابنتى، انتى اللى اقترحت تعبير “نعمل حلم” ياللا ورينا شطارتك، بس لازم نفتكر إن اللى حانعمله مالوش دعوه باللى بيسموه “حلم يقظة” ده لعبة وتمثيل “هنا ودلوقتى”،
بدأت د.دينا (قائلة): انا دلوقتى فى محطة قطر عماله اجرى، بدّور على أختى الصغيره، عماله ادخل من قطر لقطر، قطر يقف، اروح داخله القطر اللى بعده، ….. قلقانه وخايفه على اختى الصغيره تنداس او تتوه منى، وباقابل ناس كتير فى النص، بس ما بابقاش مركِّزه معاهم، ولا شايفاهم (تسكت، ويطول الصمت)
د. يحيى: ما شوفتيش القطر اللى كان جاى غلط على نفس القضيب….؟ د.دينا: آه شفته، د.يحيى: طيب حاتعملى ايه لما يتصادموا بقى؟ د.دينا: مش عارفة
*****
ثم تلاها المريض صبرى (وهو عامل فى العشرينات، يقرأ ويكتب)، قال:
صبري: انا دلوقتى فيه حد بيطاردني، شبح، وبعدين طبعا جريت منه وانا باجرى كده لاقيت نفسى وقعت وما وصلتش لأى حاجه وفجأه لاقيت نفسى باطير فى الفضا، كده خلاص. د.يحيى: كمِّل كمِّل …..كملّ يا راجل. صبري: خلاص ما انا باقول لحضرتك لاقيت نفسى وقعت، ولاقيت نفسى باطير … د.يحيى: بِجْنِحَه، ولا من غير جِنِحْه ؟ صبري: مش عارف
****
ثم تلته المريضة سارة (وهى فى منتصف العمر، ربة منزل، أم لبنتين، حاصلة على دبلوم متوسط، وهذا الحلم شارك فى إبداعه تلقائيا أكثر من فرد فى المجموعة، فأظهر معنى حضور الوعى الجمعى معا!)
ساره: انا دلوقتى ماشيه فى الشارع وحاسه ان الناس كلها بتتكلم عليا وحاسه ان اخواتى حايقتلونى(تسكت) د.يحيى: قوم حصل ايه؟. سحر: حد قتلك فيهم ؟. ساره: حاسه وانا نايمه حايقتلونى بالسكينة، بأى حاجه علشان ….. (تسكت). رضا: مين فى إخواتك اللى كان بيفكر يقتلك فى الحلم. ساره: كلهم. رضا: كله كله؟ ماحدش حاول يدافع عنك؟. ساره: لأه. رضا: ولا ماما ولا أى حد؟. د.دينا: صرخـْتـِى أو جـِرِيتىِ؟. ساره: صرخت وجريت، وحد لحقنى وأنقذنى منهم، بس بس خلاص، أنا باحس إن الناس كلها بتحبنى. د.دينا: ده حلم ده؟. ساره: آه.
****
ثم جاء الدور على شخصى، وعادة أنا ألعب فى الآخر كما اعتدنا لتجنب أى إيحاء أو تقليد:
د. يحيى: أنا دلوقتى راكب فوق صبرى فى السما قاللى إبعد إنت تقيل، قلت له أبعـِد دا إيه أنا جاى أركّب لك أجنحة يا مغفل، قالى ما أنا طاير من غير أجنحه، قلت له ما هو إنت لما تنزل حاتدشدش، فراح نازل من قبل ما أركّب له الأجنحه وأنا لسه فوق عرفت إن احنا حاندشدش إحنا الإثنين، راح أبويا طالع لى وقال لى إنت ندل ولا معاك أجنحه ولا نيله، قلت له إمشى ياَ لـََهْ، فراح صبرى مختفى فرحت نازل لقيتنى فى مدرسة رياض أطفال ولاقيت الأبله حلوه، جيت أبصبص لها، العيال زفـونى وهما بيغنوا “يا راجل ياعجوز مناخيرك أد الكوز….”
أين تقع أحلام إبداع محفوظ من هذه التجربة؟
ربما كان هو الأقدر على الإجابة على هذا السؤال، تمنيت لو أننى كنت أجريت هذه التجربة – ومثلها- وهو معنا وحكيت له عنها، كما كنت أفعل فى أحيان كثيره حين تصلنى خبره أو معلومة من مريض أو قراءة، وأود أن يشاركنى فى معايشتها، أتساءل الآن: يا ترى ماذا كان سيعلق على ما فعلنا، وعلى أحلامنا التى عشناها فى وعى الحلم الذى تصورت أن التجربة استجلبته حاضرا على حافة وعى اليقظه دون نوم أو تنويم؟
الأرجح عندى أولا: أنه كان سوف يصدقنى من حيث المبدأ كما اعتدت، ثم قد يسألنى سؤالا أو اثنين عن كيف استبعدنا حلم اليقظة بمجرد التركيز على “هنا والآن”، وأيضا قد يستوضح رأيى معترضا بطيبته وحب استطلاعه، على أننى أستبعد الخيال من فعل الابداع، وحين أقول له أننى اكتشفت أن الإبداع أقرب إلى حركية الإدراك ونشاط العقل الوجدانى الاعتمالى (59) وجماع حركية مستويات الوعى معا، أما الخيال فهو نوع من التفكير المتسلسل المنطقى برغم بعده عن الواقع، يهز رأسه ولا يوافق ولا يعترض، فأنتقل بدورى لأكرر سؤالى له عن ما وصله من هذه التجربة وعلاقة ذلك بابداعه لأحلام النقاهه وابداع الشخص العادى، فيعتدل فى جلسته ثم يميل إلى الخلف قليلا، ويصمت مليا، ثم يربت على كتفى ويدعولى قائلا: أكمِلْ فتح الله عليك، ولا تُضِعْ وقتك فى غير كتابة خبرتك هكذا.
[1] – يحيى الرخاوى “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول- المجلد الخامس. العدد (2) سنة 1985 ص (67 –91).
[2] – نجيب محفوظ: “أحلام فترة النقاهة” الأحلام الأخيرة – دار الشروق 2015.
[3] – يحيى الرخاوى، عن طبيعة الحلم والإبداع دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ ، دار الشروق، 2011
[4] – يحيى الرخاوى: من نشرة “الإنسان والتطور”: بتاريخ 31/12/2009، صفحة (1) إلى نشرة “الإنسان والتطور”بتاريخ 3/12/2015 صفحة (215) www.rakhawy.org
[5] – عدد صفحات التدريب المتاحة بلغ 1050 (ألفا وخمسين) صفحة وصلتُ فى تداعياتى عليها واستلهامى لها حتى الصفحة 215 خلال أكثر من أربع سنوات!!
[6] – Silvano Arieti: (1976) Creativity The Magic Synthesis. Basic Books, Inc. Publishers، New York, p12.-13
[7] – Erik Erickson: Eight Ages of Man Childhood and Society, London, Paladin, 1977, pp. 75 – 90.
[8]- أنظر هامش رقم (1)
[9] – هذه الكلمة الجديدة “ريم” نحتها المرحوم أ.د. أحمد مستجير لتصف هذا النوم النقيضى Paradoxical وهو نوم حركة العين السريعة Rapid Eye Movement Sleep REM ، الدال على نشاط حـُلمى دورى خاص، وقد قبلتها مرحبا برغم أنها تعريب للاختصار الانجليزى.
[10] – “الحمد لِله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور”
[11] – يحيى الرخاوى “إبداع الحلم وأحلام المبدع” مجلة الهلال – عد مارس 2005،
يحيى الرخاوى “أحلام نجيب محفوظ تعد من قبيل المنامات..أم هى أحلام يقظة” العدد الأول (يناير- مارس) 2002 – مجلة إبداع
[12]- أعنى بكلمة “بيولوجي” طوال هذه الدراسة، المعنى الأشمل للكلمة، وهو “علم الحياة ”، بادئا بما هو دون الجزيئى، شاملا التفاعل البيوكيميائى، حتى الوجود الواعى فى حالة الظاهرة البشرية.
[13]- أنظر هامش (6).
[14]- تستعمل كلمتى: المخ ـ الدماغ بالتبادل كمؤشر دال على التركيبة البشرية الرائدة، بيولوجيا، إلا أنها ليست بديلة عن كلمات: الذات ـ الوجود ـ التركيب، باعتبار أن لغة هذا المقال تركز على كلية الكيان البشرى، وإن ظلَّ المنطلق المبدئى بيولوجيا كما اسلفنا.
[15] – أنظر هامش رقم (5) Tertiary Processes
[16]- Converging synthesis
[17] – أو “أغلبها” إن شئت الدقة.
[18]-. ت.س. إليوت فى م.ل. روزنتال: “شعراء المدرسة الحديثة” ص 20، ترجمة جميل الحسنيى، بيروت (مقتطف من محمد فتوح) هامش49.
[19]- يقول البياتى “..إن الثورة والإبداع كلاهما عبور من خلال الموت.. حيث الإنسان يموت بقدر مايولد، ويولد بقدر مايموت”. مفهوم الشعر، عبد الوهاب البياتى، تجربتى الشعرية، منشورات نزار قبانى، بيروت، ص30، 31 اقتطفه: عز الدين اسماعيل: مفهوم الشعر فى كتابات الشعراء المعاصرين، فصول، المجلد الأول، العدد الرابع، يوليو 1981
[20]- يحيى الرخاوى. قراءة فى: رأيت فيما يرى النائم، الإنسان والتطور، المجلد الرابع، العدد الرابع، ص103-136 وأيضا فى (قراءات فى نجيب محفوظ) الهيئة العامة للكتاب عام 1991
[21]- نفسه ص119
[22]- نفسه ص122،121.
[23]- كثيرا ما فعل ذلك نجيب محفوظ فى تحايله على تقديم تاريخ البشرية كما يظنه، ولكنه هنا استعمل لغة الحلم بنجاح فائق، ولكن لخدمة نفس الفكرة المحورية “حكاية مسيرة الحياة”.
[24] – يحيى الرخاوى، نقد النص البشرى، أخبار الأدب، 17 فبراير 2013 ، وأيضا نشرة الإنسان والتطور: بتاريخ 5/7/2015، نشرة 20/9/2015 www. rakhawy.org
[25]- محمود محمد شاكر: (1392هـ) القوس العذراء. مكتبة الخانجى القاهرة. الطبعة الثانية.
[26] – وقد وقف جمهرة من النقاد وقفة احترام وتقدير لهذه القصيدة، وكثرت الدراسات حولها، ومن هؤلاء النقاد: الدكتور إحسان عباس، والدكتور مصطفي هدّارة، وزكي نجيب محمود، ومحمد محمد أبي موسى..
[27] – على قدر ما أذكر أنه ذكر لى اسم هذا الصديق وهو فرح انطوان صاحب المقتطف.
[28]- مثلا: إعتدال عثمان (1984): نحو قراءة نقدية إبداعية لأرض محمود درويش، المجلد الخامس، العدد الأول ص191-211. (حاولت القراءة أن تؤكد مقولة أوسكار وايلد أن “النقد يتعامل مع الأدب بوصفه نقطة البداية لإبداع تال)
[29] – يحيى الرخاوى: “أطفالنا: بين روح الشعر ونظم الحكمة” عدد مارس – مجلة وجهات نظر – 2005.
[30] – أنظر هامش “20” : ص103-136
[31] – ذكرت ذلك فى نقدى لهذا العمل بعنوان “القتل بين مقامَىْ العبادة والدم فى ليالى ألف ليلة” نشرت فى مجلة “الإنسان والتطور”يوليو”1984 وأيضا فى كتابى “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة العامة للكتاب سنة 1991
[32] – انظر هامش رقم (6)
[33] – القصة القصيرة من خلال تجاربهم، ص 260، المجلد الثانى – العدد الرابع 1982، مجلة فصول.
– يحيى الرخاوى، حركية الوجود وتجليات الإبداع، جدلية الحلم والشعر والجنون، المجلس الأعلى للثقافة، ص 168، 2007
[34] – نفسه .
[35] – أنظر هامش رقم (38) ، ص 307
[36] – عز الدين اسماعيل، 1981، مفهوم الشعر فى كتابات الشعراء المعاصرين، فصول، المجلد الأول، العدد الرابع، ص50 وأصل المقتطف ورد فى نزار قبانى، قصتى مع الشعر، ص 186 – 187، 1974، بيروت
[37] – نفسه، أدونيس، زمن الشعر، ص 235، 1972، دار العودة، بيروت
[38] – انظر الهامش رقم (33)، ص 303
[39]- محمد سلماوى ، حوارات نجيب محفوظ ، مركز الأهرام للنشر، 2015
[40]- نفسه.
[41] – نشرة “الإنسان والتطور” بتاريخ 13/11/2014 صفحة التدريب رقم (176) الكراسة الأولى. www.rakhawy.org
[42] – نفسه: بتاريخ 20/11/2014 صفحة التدريب رقم (177) .
[43] – وقد تحقق ذلك لاحقا بعد صدور كتاب “حوارات نجيب محفوظ”
[44] – الكلمة ما بين تنصيص هى تقريبية غير مقروءة
[45] – انظر هامش: بتاريخ 18/12/2014 صفحة التدريب رقم (181) الكراسة الأولى..
[46]- أنظر هامش (25)
[47] – مرة أخرى إذا صح أن الشعر لا ينقد إلا شعراً، فقد صعبنا المهمة على الناقد بشكل غير جائز، إذ ليس مطلوبا من أى ناقد أن يكون شاعرا بالضرورة، لكن الشاعر ليس بالضرورة هو من يقرض الشعر، وإنما الشاعر هو من يستطيع أن يتلقى أى نص بإبداعه النقدى فيجده شعرا حتى لم يسِّمِه مبدعه كذلك، وفيما يلى عينة من شعر الأستاذ الشاعر محمود شاكر على زائية الشماخ فى قوس ابن عمر:
يقول الشماخ
ـ تَخَّيرَهَا القَوَّاسُ مِنْ فَرْعِ ضَاَلِة *** لَهَا شَذَبٌ مِنْ دُونِها وَحَوَاجزُ
ـ نَمَتْ فيِ مَكَانٍ كنهَا، فَاسْتَوتْ بِهِ، *** فَمَا دُونَها مِنْ غِيلِهَا مُتَلاَحِزُ
ـ فَمازَالَ يَنْجُو كُلَّ رَطبٍ وَيَابِس *** وَيَنْغَلُّ..، حَتَّى نَالـَهَا وَهْوَ بَارِزُ
ـ فأَنْحَى عَلَيْها ذَاتَ حَدّ، غُرَابُهَا *** عَدُوٌّ لأِوْسَاط العِضَاهِ مُشَارِزُ
ـ فَلما اطْمَأَنَّتْ في يَديْهِ..، رَأَى غِنًى *** أحَاطَ بِهِ، وَأَزْوَرَّ عَمَّنْ يحُاَوِزُ
فيقول الشاعر الرائع محمود شاكر نقدا شعرا على شعر ما يلى:
ـ تَخَّيرهَا بَائِسٌ، لَمْ يزل يُمَارِسُ أَمْثَالهَا مُذْ عَقَلْ
ـ تَبَيَّنَهَا وَهْيَ مَحْجُوَبةٌ، وَمِنْ دُونِها سِتْرُهَا المُنْسَدِلْ
ـ حَمَاهَا العُيُونَ فأَخْطَأنَهَا، إلىَ أنْ أَتَاهَا خَبِيٌر عَضِلْ
ـ رَأَى غَادَةَ نُشَّئَتْ في الـظِّلاَل، ظِلالِ النعيِم، فَصَلَّى وهَلّ
ـ فَنَادَتْه مِنْ كِنِّهَا ([47]) فَاسْتَجَابَ: لَبَّيْكِ! [يَاقَدَّها المُعتَدلْ]
ـ سُتُورٌ مُهَدَّلَةٌ ([47]) دُونَهَا، وَحُرَّاسُها كَرِمَاِح الأَسَلْ
[48] – مقتطف من كتاب: “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” كتاب إلكترونى، www.rakhawy.org ، لم يصدر بعد فى طبعة ورقة، النص من نشرة “الإنسان والتطور”: بتاريخ 16/12/2010، “فجأة وجدنا أنفسنا فى حديث عن الإبداع وحتم وجود جرعة من الحرية تسمح بالجديد والصريح، ويُبدى مصطفى أبو النصر عدة ملاحظات أهمها أن روسيا لم تنتج أدبا ذا بال منذ قيام الثورة 1917 حتى انهيار الاتحاد السوفيتى، ولم يكن هناك غير شولوخوف الذى لم يفعل شيئا إلا تقليد تولستوى، …… وكان الأستاذ قد سبق أن قال لى فى إحدى جلسات الحرافيش ونحن نتكلم عن الاقتباس وما إلى ذلك، أن المسألة ليست فى الفكرة، وإنما فى تناول الفكرة، وأن كل الأفكار التى يمكن أن تدور حولها الأعمال الروائية مثلا هى بضعة أفكار محدودة، ثم يدورها ويشكلها الإبداع بأدواته وتنويعاة بما يجعله إبداعا، ثم إن النقاد يسيئون للعمل وللكاتب حين يركزون على المغزى، إن المسألة كلها فى كيفية التناول، كيف يقول الكاتب ما يقول وهو يتناول نفس الفكرة، فمثلا خذ عندك شكسبير: فى “عطيل”، ماذا يريد أن يقول، أو ماذا يمكن أن يقول، إنه يقول إن “الغيرة مهلكة”، وهل هذا يحتاج إلى كل هذا الشعر وهذه المسرحة حتى يقولها، إن أى بائع بطاطا او منادى سيارات إذا سئل عن الغيرة أو حتى دون أن يسأل يمكن أن يقولها ببساطة هكذا: إن الغيرة مهلكة، أما كيف قالها شكسبير، وكيف يقولها غيره: هذا هو الإبداع”.
[49] – أنظر هامش رقم (3)
[50] – حتى حميدة فى زقاق المدق قالوا عنها – تعسفا- إنها مصر!! فما بالك بهذه المباشرة هنا؟
[51] – “Good Mother Figure Melanie” Object Ration Theory British Analytic School.
[52] – يحيى الرخاوى، دراسة فى علم السيكوباثوولجى، شرح ديوان سر اللعبة، 1979، دار عطوة للنشر، القاهرة.
[53] – نفسه 466
[54] – نفسه 468
[55] – نفسه، الفصل السابع
[56] – أنظر هامش رقم “3”
[57] – إضافة كلمة المغناطيسى خطأ شائع فى العربية الحديثه، وقد اضطررت لإثباته مرحليا وما يقابل التنويم المغناطيسى بالانجليزية هو Hypnosis فقط بلا مغناطيس!!
[58] – وصف أفراد المجموعة بـ “عامه عامة الناس” قصدت لاستعماله لأن المجموعة كانت تمثل: عامة الناس فعلا الذين يعالجون بالمجان فى مسشتفى عام “قصر العينى”، وهم غير متعلمين أو تعليمهم متوسط وبعضهم لا يقرأ، وحتى الذين يقرأون منهم لا يعودون حتى إلى كتبهم المدرسية… فلا شبهة فى تدخل أى خلفية نفسية أو “تحليلية”.
[59] – Emotionally Processing Mind