نشرت فى الاهرام
4-4-2005
حركية الناس بين “النت” والشارع
كنت هناك فى باريس عام 1969 حين اتخذ أو اقترح ديجول إجراء لا أذكره فقامت المظاهرات فى الحى اللاتينى، المعروف بشبابه وفنونه ويساريته وإبداعه، تعلن اعتراضها، وإذا بديجول يظهر على شاشة التليفزيون التى كادت لا تتسع لطول قامته، ويدعو من يؤيده إلى التجمع فى ميدان الإتوال، وفى خلال ساعات، يندفع الناس إلى هناك، فتقوم طائرات الهليوكوبتر بتصوير وبث كل من المظاهرات المؤيدة حول الإتوال، ثم المظاهرات المتجمعة فى الحى اللاتينى بالتناوب، فترجح كفة ديجول معلنة نوعا جديدا من الديمقراطية المباشرة، فيستمر ديجول بضعة أشهر، ثم يستقيل بعد حركة فى الاتجاه العكسي.
ببساطة: إن النظام الأصلح هو النظام الأقدر على تصحيح نفسه، وليس النظام الحسن بما هو كذلك. إن ميزة الحضارة الغربية (الشمالية) ليس فى أنها أرقى الحضارات أو أصحها أو أنبلها، وإنما فى أنها تملك فى عمق تكوينها آلية نقد فاعلة قد تصحح مسارها. أغلب الذين ينقدون الديمقراطية الغربية ويبحثون عن مستوى أقدر وأكثر فاعلية وعدلا واستقلالا عن ألعاب السلطة وجرائم المافيا، يخرجون من عباءة نفس الحضارة التى يقومون بتعريتها ومراجعتها دون أن يتخلوا عنها. لا يوجد مفكر عاقل عبر العالم، وبالذات فى العالم الغربى، لا يعرف عبث وزيف وهشاشة ما يسمى “الديمقراطية بالإنابة”. بدائل هذا النوع من الديمقراطية ليست بالقطع الحكم الشمولى حتى لو كان على رأسه من يسمى المستبد العادل.
يطرح مفكروا المعلوماتية والشفافية والتواصلية بدائل عملية واقعية لأنواع أخرى من تنظيم المشاركة فى اتخاذ القرار، ومراجعته. هو نظام أقرب إلى الديمقراطية المباشرة على مستويات متصاعدة، بحيث يسمح بعد إزاحة المركزية الجاثمة المشبوهة أن يقوم كل أفراد مجموعة نوعية بالمشاركة فى اتخاذ قرارات تخصها فى مسألة بذاتها، وفى نفس الوقت أن تشارك المجموعة، ككل، غيرها من مجموعات أعلى وأعقد فى شبكية نشطة، مرنة وعادلة ومبدعة، متصاعدة: ذاهبة راجعة طول الوقت (وهذا ما تسمح به التكنولوجيا الأحدث).
على مستوى الفعل السياسى العام لم ينتظر الناس، عامة الناس، فراحوا يمارسون ديمقراطيات أخرى صغيرة متباعدة ضامة فى آن، من أول قياسات الرأى العالم حتى مواقع النت المتكاثرة، بسلبياتها وإيجابياتها، إلى أن ظهرت مؤخرا ديمقراطية واعدة منذرة معا، وملونة (برتقالية، قرنفلية ..إلخ). ظهرت لتمارس ضعطا حقيقيا قادرا على تصحيح سريع لانحراف أكيد. إن ما حدث فى أوكرانيا ثم فى قرغيزستان ليس بعيدا عما حدث فى لبنان فى الاتجاهين الواحد تلو الآخر، ثم سرعان ما انتشرت العدوى وراحت موجات البشر تملأ الشوارع وتتزايد تحت رعاية الفضائيات. صحيح أن الخوف من استغلال اندفاعات القطيع قائم حيث لا يمكن التيقن ممن وراء اللعب بغرائز المجاميع بشكل علنى أو خفى، لكنه صحيح أيضا أن المحاولات مستمرة وأن التصحيح ممكن فقط بضمان ألا تفرض أية سلطة مركزية وصايتها على الآن أو المستقبل بما يحول دون النقد المتجدد، فالتغيير الحتمى باستمرار .
للأمانة، أنا لست من أنصار الديمقراطية بصورتها المعروضة من واقع معرفتى بألعاب شركات الأدوية العملاقة وتربيطاتها مع مجالس إدارة الجمعيات ومجالس تحرير المجلات العلمية لحساب أسواقهم ومنتجاتهم على حساب المرضى، حتى صار كثير من العلماء والأطباء أشبه بوكلاء الشركات أو مندوبى المبيعات (دون أن يدروا غالبا)، فما بالك فى السياسة والمرشحون يشترون أصوات الناس الانتخابية بوعود وهمية بشاليهات فى القرى السياحية، أو قصور فى الجنة.
برغم كل ذلك، فليس أمامى إلا أن أدفع ثمن هذه الديمقراطية الناقصة المشبوهة متألما مثابرا، حتى نجد معا ما يمكن أن نحقق به ما يضمن للإنسان أن يستمر نوعا متميزا: بالوعى والإبداع.