نشرت فى مجلة الهلال
عدد نوفمبر 2005
حركية الموت ضد الخلود العدم
“فى ملحمة الحرافيش“
تحديث لبدايات دراسة مطولة عن: “دورات الحياة وضلال الخلود”[1]
فى ملحمة الحرافيش: “نجيب محفوظ”
أما قبل:
ينشغل الروائى المبدع بأسئلة الحياة والوجود الجوهرية تماما مثلما ينشغل الأطفال والفلاسفة، نفس الأسئلة، ونفس البحث، ونفس الحيرة، ونفس السعى، ونفس الفروض، لكن تختلف اللغة والمنهج والأدوات، ويظل السعى مستمرا أبدا. كلما زادت أصالة إبداع المبدع، طال باعه، وعمق انشغاله، وغاص فى وعيه ووعينا، ليشير إلى بعض ما تراءى له صورة أو حكاية أو فرضا أو نظرية، ثم تضطرد المسيرة نقدا، فمراجعة، فعودة بلا نهاية.
نجيب محفوظ خير مثال على ذلك، وتحديات غموض وواقعية وحتم الموت كفيلة أن تثير عنده بوجه خاص تلك الأسئلة البديهية التى لا تجد لها أية إجابات بديهية. يتنازل محفوظ أو يتبسط أو يضطر حين يقدم لنا الموت فى صورة رمزية مباشرة مثل ما فعل فى مسرحيته: “المطاردة”، وإلى درجة أقل: “المهمة” ، لكن هذا هو الاستثناء، وهذا ما طمأننى أنه لا يمكن أن يكون الأمر كذلك أساسا. كثيرا ما يقرن محفوظ الموت بالزمن، أو بتعبير أدق، بمرور الزمن (فالزمن الكيان عنده شئ آخر)، حتى ليمكن فى العمل الواحد أن يفسرّ نفس الرمز على أنه الموت، أو على أنه الزمن، دون اختلاف كبير (لاحظ ذلك فى مسرحية “المطارد” تحديدا)، وهذا أيضا أبسط من معايشته الرائعة طول الوقت لسؤال (أسئلة) الموت، هذه المعايشة التى تجلت كأروع ما يكون فى ملحمة الحرافيش بوجه خاص.
(1) فى البدء كان الموت
فى ملحمة الحرافيش حضر الموت باعتباره: البداية، واليقين، والتحدى، والدفع جميعا: لم يحضر الموت العدم إلا وهو يخلق الحياة من داخلها: “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”(ص 64). منذ السطر الأول يعلن محفوظ أن الملحمة تدور “.. فى الممر العابر بين الموت والحياة”، لم يقل الممر العابر بين الحياة والموت، أو بين الولادة والموت، كما يفترض بحسب التتابع الزمنى المنطقى. قدم محفوظ الموت باعتباره الأصل، وأن الحياة هى احتمال قائم، الموت بمعنى العدم – كما يشيع عنه – لا وجود له. حين راح شيخ الزاوية (خليل الدهشان) يصبر جلال (الأول) بعد موت خطيبته قمر (ص 403).
– كلنا أموات أولاد أموات.
فقال بيقين: لا أحد يموت.
لكن جلال يعود ليقول لأبيه فى الصفحة التالية مباشرة (ص 404)
– يوجد شئ حقيقى واحد يا أبى، هو الموت.
وفى الصفحة نفسها: “كلهم يقدسون الموت ويعبدونه فيشجعونه، حتى صار حقيقة خالدة”، وفى الصفحة التالية: “نحن خالدون، ولا نموت إلا بالخيانة والضعف”.
تواجهنا الملحمة من البداية بحراك الموت اللحوح المتواصل. (ص 51): “ميت جديد، ما أكثر أموات هذا الأسبوع”. (ص 52): “، ولا يفرق هذا الموت الكاسح بين غنى وفقير”.
حتى الخوف من الموت هو رعب محرك أكثر منه جمود عاجز: “جرّب عاشور (الاول) الخوف لأول مرة فى حياته، نهض مرتعدا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت. تساءل فى أسى وهو ويقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور؟”(ص 54)
ثم اقترنت رؤية الموت رأى العين – منذ البداية – بالحلم، فعاشور حين قرر شد الرحال هربا من الشوطة (الطوفان)، كان ذلك بناء على حلم رآه، فهم منه أن الشيخ عفرة زيدان ينصحه أن يشد الرحال، فكان قوله الموجز المكثف لحميدو شيخ الخارة: لقد رأيت الموت والحلم (ص 58) كان ذلك ذا دلالة خاصة لدىّ، رجحت أنه ربما استعمل فعل “رأيت”، ليفيد البصر والبصيرة معا، وحينئذ جاء رد شيخ الحارة: هذا هو الجنون بعينه، الموت لا يرى(ص 58):
(2) الموت الوعى الحاضر الغائب
يأتى اختفاء عاشور الناجى (الأول) دون موت، يذكرنا بشكل ما بالحضور الممتد للجبلاوى، ويظل عاشور طوال الملحمة هو الحاضر الغائب مثل الجبلاوى فى أولاد حارتنا، ولكن هذا الاختفاء هنا له وظيفة أخرى غير السعى إلى الأصل، والحنين إلى المطلق؛ فهو من جهة يترك الباب مفتوحا للتواصل بين نزلاء التكية الحاضرين الغائبين أيضا، وهم الذين لا يعرف أحد هل يموتون أم لا، وإن ماتوا فأين يدفنون موتاهم (جاء هذا التساؤل فى الملحمة).
بعد ذلك، وطوال فصول الملحمة، تحدث المواجهة بالوعى بالموت حتما حاضرا ملاحقا. ها هو ذا شمس الدين الناجى: (ص 127) “لأول مرة يتساءل عما فات، وعمَّا هو آت، ويتذكر الأموات”.
يواجه شمس الدين سؤال الموت، وهو يعى تماما مغزى الدعاء: “أن يسبق الأجل خور الرجال”، يواجهه أكثر فأكثر بعد موت حميه، المعلم دهشان، ثم عنتر الخشاب صاحب الوكالة، “فهذا (الأخير) رجل يماثلة فى السن، يقف معه فى صف واحد”، يواجه السؤال فيجيب عنه:: “ولكن الموت لا يهمه، لا يزعجه بقدر ما تزعجه الشيخوخة والضعف، وأنه يأبى أن ينتصر على الفتوات وينهزم أمام الأسى المجهول بلا دفاع”(ص130).
ومع التسليم للقدر الزاحف تمنى شمس الدين حسم الموقف: “أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة؟” (ص 137). وبموت “عجمية” زوجته يرى الموت (رأى العين) كما رآه أبوه من قبل، فيهرب منه إلى الخلاء: (ص 138): “رآها وهى تغيب فى المجهول، وتتلاشى”. ولكن هل الموت هو مجهول بهذه الصورة، أم أنه مازال اليقين الذى مابعده يقين؟ فيكرر (الصفحة نفسها): “إنه لا يخشى الموت ولكن يخشى الضعف“. ويكرر: “ما أبغض قفا الحياة!”.
موت سليمان، (ابن شمس الدين وعجمية) أحضر لنا وجها آخر للموت، وهو الانقطاع. وحين أدرك سليمان، من الواقع ومن ردّ بكر ابنه الذى يعلمه مسبقا، أدرك أنه لا يوجد من بين ذرّيته من يكمّله؛ من يحمل رسالته، حتى لو كانت رسالة الشر والطغيان، قالها مباشرة: “إنى أودع الدنيا مثل سجين.. أستودعك الحى الذى لا يموت”. (ص 178) ما البديل لذلك؟ وكيف يمكن أن يودّع الناس الدنيا وهم طلقاء أحرار؟ إن النظر فى عكس مقولة سليمان هو الذى يمكن أن يوضحها بشكل ما.
وحين تحرّك فى عزيز (إبن قرّة البنان) الوعى الآخر، الوعى: الحياة، الجنس، الطبيعة، الفطرة (هل بوسعه أن يحول بين المطر وبين أن ينهمر؟) قفز السؤال حول الموت (مع الاسئلة الأخرى): سؤال هو أقرب إلى الجواب حيث تقدمته صيغة: “هل عرف أخيرا: لم تشرق الشمس، لم تتألق النجوم فى الليل، عم تفصح أناشيد التكية؟ لم نحزن للموت؟” فيحضر التساؤل حول الموت هنا مع البصيرة المتفجرة بمضمون آخر، أكثر منطقا، وموضوعية وحيوية.
وحين نلقى الموت وقد انقض على ثلاث شخصيات فى صفحة واحدة، بل فى بضعة سطور متتالية، يمكن أن نشعر كيف يلقى محفوظ بالموت فى بؤرة وعينا كالصواريخ الموجهة المتلاحقة: “يموت رمانة فى سجنه، وتنتحر رئيفة هانم حزنا عليه، مشعلة النار فى نفسها، ويقتل العريس الفتوة نوح الغراب برصاصة من مجهول (ص 370)“.
لكن الموت لا ينقض دائما، فقد يتسرب حين ننبذ الحياة ، نراه وهو يتسحب على كيان عزيز (زوج زهيرة الثالث) فيسرقه استجابة لنبذه “جسد الحياة” هو الذى نبذ جسد الحياة، قبل أن تنبذ الحياة جسده،…. يسرع الفالج بالإيقاع، فيقضى عزيز نحبه فى أسابيع(ص 381)؛.
(3) حركية الموت تنشط بالتساؤل
لاحظنا حالا كيف تقفز التساؤلات البدئية: لم نحزن للموت؟ ومن قبل ذلك أثار تساؤل عاشور الأول: لماذا تخاف الموت يا عاشور. موت عزيز قد أثار تساؤلات مقابلة، مناقضة، ومكملة.. تساءلت (الحارة): “لم يضحك الإنسان؟ لم يرقص بالفوز؟ لم يطمئن سادرا فوق العرش؟ لم ينسى دوره الحقيقى فى اللعبة؟ ولم ينسى نهايته المحتومة؟(ص 382). ملحمة الحرافيش برمتها تطرح هذا التساؤل: لم ننسى الموت؟ ولكن ماذا نفعل لو لم ننسه؟ هذا ما تصاعدت منه وبه الملحمة حتى وجدنا أنفسنا، من ناحية وجها لوجه أمام يقين الموت: ومن ناحية أخرى وجها لوجه أمام الزمن الزاحف، وهما صنوان يكادان أن يترادفا، وأن يتزامنا أمام تعرية أوهام الخلود (فى الدنيا).
ثم ماتت قمر ….، فاستيقظ (فى جلال) بموتها خطف أمه مضرجة بدمائها. ومن ثم: ، تفجرت القوة/الخرافة/المستحيل فى كيانه. “شعر جلال كأن كائنا خرافيا يحل فى جسده، إنه يملك، حواسا جديدة، ويرى عالما غريبا،(ص 401) ….،” وها هى ذى الحقيقة تكشف له عن وجهها”. واخلتط الوجود بالعدم: “طوى الغطاء عن الوجه، إنه ذكرى لا حقيقة؛ موجود وغير موجود: ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع؛ غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أى معرفة له. متعال متعلق بالغيب؛ غائص فى المجهول، مستحيل غامض مندفع فى السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير، مخيف، لا نهائى، وحيد.
وغمغم بذهول وتحد. كلا.”. (ص 402)
وإذا كان التساؤل الباكر يقول: لماذا نخاف الموت، ثم يليه التساؤل التالى: لم نحزن للموت؟ فإن التساؤل المحورى هنا يقول: لم ننسى الموت؟ من هذه الاسئلة الثلاثة نستطيع أن نصوغ التساؤل الجمّاع المتحدى أنه: فما العمل؟ إذا كان الخوف من النهاية ماثلا، وكان الهرب مستحيلا، أو فى أحسن الأحوال مؤقتا، وكان الحزن أقوى من الحياة، والنسيان أبعد عن التناول، فما العمل فعلا؟ هنا قفزت إجابة جلال صريحة أنه: “كلا”.
(4) التمادى فى إنكار العدم، حتى العدم.
تكاثفت صور الموت كما ينبغى. جلال: “رأى رأس أمه مهشما، وكأنها ما ماتت إلا هذه اللحظة” (ألم يسأل أباه منذ زمن غير بعيد: متى تعود؟). وحين نبهه الآخرون أن وحّد الله! فزع لوجودهم حتى أنكره، وكأنه، وهو يلغى الموت، قد ألغى الناس والحياة جميعا بضربة واحدة. وهو إذ يتساءل: “من قال إذن إن الحياة خالية، خالية من الحركة واللون والصوت، خالية من الحقيقة، خالية من الحزن والأسى والندم”، لا يتساءل متراجعا، ولكنه يشير إلى قراراته الصاعقة ضمنا، فالجواب المتضمن فى هذه الأسئلة هو: إنه هو الذى قال ذلك ، قال وقرر كل ذلك، فى هذه اللحظة الصاعقة المولدة معا، قرر، فتقرر، ولا راد لقراره، وبقراره هذا تحرر فعلاً من كل شئ؛ من الموت ثم من الناس، ثم من المشاعر:(ص 402): “إنه فى الواقع متحرر. لا حب ولا حزن ذهب العذاب إلى الأبد. حلّ السلام“. لنا أن نتساءل: كيف؟: بالانسحاب والتبلد؟ يأتينا الرد: أبدا، بل بالمحال والتوحش المتحدى: (ص 402): “وثمة صداقة متوحشة مطروحة لمن يروم أن تكون النجوم خلانه، والسحب أقرانه، والهواء نديمه، والليل رفيقة”. وللمرة الثالثة يغمغم “كلا”، فيعلن إنكاره للموت (وللناس والأحياء معا) وحين يرد على شيخ الزاوية: “لا أحد يموت”. هام جلال بالمستحيل” (ص 404). وحين كانت تعاوده ذكريات الحب كان يحتمى منها بالكراهية: “أكره قمر، هذه هى الحقيقة. هى الألم والجنون، هى الوهم”. لكن مشاعر الكراهية نفسها هى مشاعر، وهى أفضل من اللامبالاة على أية حال، وهو إذ يتمادى فى الكراهية لا يستطيع فيلجأ إلى التشوية ليجسد ما يسهل له كراهيته: “كيف هى الآن فى قبرها؟ قربة منتفخة تفوح منها روائح عفنة، وتسبح فى سوائل سامة ترقص فيها الديدان “. ثم أن هذا التشوية قد سهل عليه الاحتقار: “لا تحزن على مخلوق سرعان ما انهزم.. لم يحترم الحياة، فتح صدره للموت”. ثم ينسلخ إلى المستحيل: “إننا نعيش ونموت بإرادتنا نحن خالدون، ولا نموت إلا بالخيانة والضعف”.(ص 405)
وحين أنكر جلال الموت، محا الحياة، والناس، وراح يستعمل الجميع وهو يحتقرهم فعلا: فبعد أن اعتلى عرش الفتوة، وجاء أبوه يذكره بالعدل الذى يتساءل عنه الناس، فيرد عليه “بازدراء”. إنهم يموتون كل يوم وهم مع ذلك راضون (؟؟؟).
ويجئ موت زينات (الشقراء) أم جلال الثانى، كالزلزال، ليقول لنا إن الموت أكبر من كل رتابة، وأقوى من كل هروب. وعلى العكس من موت قمر (خطيبة جلال الأب) جاء موت زينات (أم جلال الإبن): ماتت قمر وهى بعد الفتاه البكر، صغيرة السن، الخطيبة الطيبة العاشقة البطلة؛ ماتت بمرض عابر وهى فى ريعان صباها تستعد لزواج سعيد بعد أن انتصر الحب على صلافة أمّها ومقاومتها. أما زينات الشقرا، وهى بائعة الهوى، ثم عشيقة جلال الأب، وقد بلغت بها الجسارة أن تسمى ابنها منه، وهو ابن سفاح، أن تسميه باسم أبيه مباشرة، فهى تموت وهى فى الثمانين بعد أن تابت وأنابت، وتحدّت ونجحت أن ينشأ جلال ابن الحرام معروفا بالطبية والأمانة وحسن الخلق والورع، ولا تموت إلا عن ثمانين عاما، وكان جلال قد بلغ الخمسين من عمره.
(5) “كلا” للموت العدم
كما قال جلال الأول للموت “كلا”، ثم راح يدرّب نفسه على كره قمر فى قبرها، وتشويه صورتها فى شكل قربة منفوخة متعفنة يرعى فيها الدود، راح جلال الثانى يشوه صورة أمه التى “.. هو نفسه كان يقول إنه طالما أحبها حبا جما، لكنه لم يكن يتصور أن يفعل به موتها ما فعل”، أما الأعجب من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاع الكآبة. لقد قالها أيضا: “كلا“، ولكن بطريقة عملية مغايرة، لم يقلها ابتداء للموت، وإنما قالها ردا على الموت الذى قالها أولا، فأعادها، قال له الموت وهو يختطفها: “كلا”، فأعادها عليه وهو يوجهها إلى كل موت حقيقى يقبع تحت أسماء حركية غبية: كلا للرتابة والاستقامة، والفتور، كلا للمحافظة، والدعة، كلا لما فرضته أمه عليه، عكس ما هى، ضد ما كانته من فجور، وجنس، وعشق، وقتل، وكأنها أنشأته نقيضا لها، وتكفيرا عنها، فحرمته حقه فى تجربته، ولدته ميتا وعاشت هى حياتها الفاجرة الزاخرة (ص 450)، فانقلب أول ما انقلب عليها: “تبدّى له حبه لأمه عاطفة غريبـة مضللة، كأنها السحر الأسود، تبخرت فى الهواء مخلفة حجرا باردا شديد القسوة (نفس قسوة أبيه فى مواجهة موت قمر)، أصبح يثور لذكراها ويلعنها، لم يبق فى قلبه أثر لحزن أو بر أو وفاء، وثمة صوت يهمس له فى ذهول بأنها ينبوع العداوة والمقت فى حياته، وأنه ضحيتها إلى الأبد“
هكذا نراه قبل مواجهة خبرة الموت وهو الفاضل الأمين، ثم نراه بعدها وهو النقيض الفار الضائع، الثائر: وجهان لعملة واحدة. تأتى ثورته صريحة مباشرة ضد كل ما فرض عليه، تأتى بعد مشاهدته، فيقينه، بهذه الحقيقة الموضوعية العارية المجردة التى يصفها لدلال الغانية، العشيقة الجديدة (زينات الحقيقية): “كرهت حاضرى ذكرياتى، حتى التجارة والربح، ومشاكل البنات المتزوجات، وكرهت ابنى شمس الدين الذى يعمل سواقا عندى، وكأنه حمار يسوق حمارا، وكرهت أمه التى يمضى محصنا ببركاتها، ورأيتها تستنزفنى بغير وجه حق، كما استنزفتنى أمى من قبل..” .
يقين الموت هنا، بدا واقعا ماثلا وقد فاجأ جلال الثانى برغم بلوغ أمه الثمانين وهو فى الخمسين، ومحفوظ بذلك يذكرنا أن جلالا الابن لم يضع موت أمه منذ البداية فى الحسبان؛ أنكره فى غيبوبة الاعتماد والكبت، ثم حين فوجئ به، برغم كل التوقعات، كاد تحوله يقول إنه لم يولد من قبل، وكأن ظهور الموت هنا بهذه الصورة المفاجِئة، بلا مفاجَأة ـ وبشكل مباشر ـ هو الوعى بحقيقة الحياة، ومن ثم محاولة اللحاق بها،
ولكن كيف؟
(6) دعوة لقبول التحدى لإعادة النظر
هكذا يضطرنا محفوظ أن نعيد النظر فى ما أقحم فى وعينا عن مفهوم الموت صادرا من مؤسسات الدين السلطوى، مدعما بالرعب من الفقد (الذى يكشف اعتماديتنا الرضيعية)، مستغلا اختلاط مفهوم الزمن لدينا.
محفوظ يهز كل ذلك، لكنه لا يضع إجابة بديلة، فيتركنا فى حيرة خلاقة، لعلها تحفزنا إلى تصحيح ما، تصحيح يقول:
يبدو أن الحياة، ليست هى المرادف الحقيقى لما هو: ضد الموت. فمن الموت تتفجر الحياة.. وكأن الموت هو هو صانع الحياة.
هذا التصحيح هو النتيجة الطبيعية لما تقدمه الملحمة باعتبار أن الموت هو حركة، بعكس الشائع عنه، أنه عدم وسكون.
فإذا كانت حقيقة الموت هى الباعث للحياة، وهى المبرر والدافع لاستمرار الحركة، وهى المسئولة عن إعادة التخلق وتفجر الوعى، فما هو الموت الذى علينا، وفى مقدورنا، أن نتعامل معه وكيف؟
قدم نجيب محفوظ احتمالات محدودة، كعينة تغرى بالمزيد من البحث فيما يشير إلى ما هو الموت الحقيقى، بمعنى: الموت السكون العدم، الموت التوقف، الموت الاستسلام والتسليم.
وضع التكية فى خلفية كل الأحداث، يغرى بأن تمثل التكية غيبا ساكنا ما، لكن هذا لم يتحقق حتى لو تبدت فى أول الأمر أنها تشير إلى الخلاء، وأحيانا الظلام؛ والظلمة، وأقل من ذلك الفراغ. تبدو التكية ساكنة من بعيد، لكنها أبدا لا تكفى لفك شفرة المجهول الموت كعدم محتمل، كانت دائما مثيرة بما يصل منها من أناشيد وأصوات، وكذا كان غموضها حافزا لكسر سكونها بما يسمح للخيال أن ينسج حولها، وفى داخلها، ما يثبت أن ثمة حياة بداخلها لا يمكن إنكارها.
البعد الأهم الذى أحضره محفوظ فى وعينا باعتباره الموت الحقيقى حيث لا نهاية ولا تغير ولا جديد، هو الخلود الخامد الممتد بلا تغيير. (وهذا ما تناولناه تفصيلا فى الدراسة الكاملة)
كأن الرسالة فى النهاية تقول: إن الأولى بنا أن نخاف الخلود، لا أن نخاف الموت.
وكأن مأساة الإنسان الحقيقية ليست هى الموت بما هو شائع بمعنى العدم، فى مقابل الحياة بما هو شائع بمعنى الاستمرار على وجه الأرض لا فى بطنها.
كأن القضية الأوْلى بالاهتمام والنظر، هى السكون الجمود الراكد المكرر (وهو الموت /العدم) فى مواجهة الحركة التغيير الدهشة الطزاجة الموت/الحركة/الولود، وهو الحياة.
من ثّـمّ، فإن القضية ليست هى أن نولد بيولوجياً، ثم نقضى هذه الحقبة من الزمن المحدود التى ستنتهى حتما، وإنما هى أن يكون فى يقيننا بالنهاية ما يجعلهنا نولد مرة أخرى، فأخرى، فى هذه الحياة، وباستمرار.
بمجرد أن نعى حقيقة موتنا بيقين تصبح الحسبة أنه: لا معنى لولادة تنتهى بموت، إن آجلا أو عاجلا، فالموت بالصورة الشائعة يلغيها حتما، لكن الولادة التى تستأهل أن تعتبر كذلك إنما تبدأ حين نعى الموت، فتتخلق الحركة، لتتصاعد بالإبداع، والاستمرار فينا ، أو فيمن يلينا.
هذا ما قالته الملحمة لى من أكثر من مدخل بأكثر من لغة، أما كيف كان ذلك؟ فهذا ما جاء فى بقية الدراسة المطولة، وهى تؤكد على كيفية تجلى الإيقاع الحيوى، ودورات الموت والولادة، وإعادة الولادة، فى تحد ملاحق لكل ما هو سكون واستقرار غبى، وتسليم ، وموت حقيقى فى صورة خلود مزعوم (مثلما تجلى فى تجربة جلال صاحب الجلالة، لتحقيق الخلود على الأرض: وتناولته الدراسة المطولة تفصيلا).
هامش ختامى:
كتبت هذه الدراسة قبل أن أعرف نجيب محفوظ شخصيا جدا فى الأحد عشر سنة الأخيرة، ثم عرفته قريبا تماما، فعجبت عجبا متعدد المستويات، ثم عرفته أكثر فأكثر، وهو يقترب – إن شاء الله – من عامه المائة، فوصل إلى وعيى ما يؤكد ما ذهبت إليه فى هذه الدراسة بشكل ما.
وهذا ما يحتاج إلى مغامرة أخرى، لبحث آخر، بمنهج آخر، فى وقت آخر، إن أذن الموت الرائع المتربص أن يعطينا الفرصة.
[1] – قدمت الدراسة الأصلية فى صورتها الأولى فى المؤتمر العربى الرابع للطب النفسى صنعاء ديسمبر 1989.
ثم فى صورتها المعدلة فى الندوة الدولية لأعمال نجيب محفوظ. كلية الآداب. جامعة القاهرة. مارس 1990.
ثم نشرت فى مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990.
[وهذا المقال إيجاز وتحديث لفكرتها الأساسية].