نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 14-3-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4578
حركية الإبداع، وناتجه، وتجلياته (1) (1 من 3)
الطارئ الإشكالى الذى لحق بالإنسان الإنسان: هو أنه أصبح واعيا بذاته بشكل سمح له بأن يميز بين ما هو “ذات”، وما هو “لا- ذات”. مع بزوغ الوعى بالذات (بتميز عمل النصفين الكرويين) أصبح الكائن البشرى يمارس حياته فارقا بين ما هو”أنا” وما هو ليس “أنا”، ثم ينقسم الـ “ماليس أنا” إلى “موضوع بشرى” (نسميه “الآخر” عادة)، ثم “الطبيعة” بامتداداتها التصعيدية المفتوحة.
هذه النقلة الرائعة هى فى نفس الوقت محنة أصيلة، ذلك أنها قد هيأت لهذا الكائن الجديد مساحة غير مسبوقة من الحركة المتنوعة التى عرفت فى ظاهر السلوك باسم “الحرية”. من فرط فرحته بها، وأيضا من فرط عماه عن حدودها وخداعها، راح يتغنى بما تصور أنها تعنيه حتى قدّسها، وإذ تقدست الحرية أصبحت صنـما فى ذاتها لذاتها، فحرمَ نفسه من حقيقة حركيــتها، وتنويعات جدلها.
الحرية الحقيقية لا تتفق مع التقديس، حتى تقديس ذاتها، وإن كانت لا تنفى توليد مقدسات مرحلية لمسيرة الجدل، شريطة أن تكون قابلة للتطور، مفتوحة النهاية.
هذا الوهم الجميل المسمى “الحرية”، أوقع الإنسان فى عدد من المضاعفات، بقدر ما أعطاه قدراًً متزايداً من الفرص للتطور المسئول، الخطـر فى آن.
بالَغَ إنسان العصر الحديث بوجه خاص فى تقييم معنى وقدرات هذه النقلة النوعية حين أصبح هو الكائن الحى الواعى الذى “يستطيع”، أو الذى “يتصور أنه يستطيع”. هو فعلا “يستطيع” بشكلٍ ما. أليس هو الكائن الوحيد – فى حدود ما نعرف- الذى أصبح قادرا أن يقرر لنفسه بنفسه مسارا وتوجها واختيارا، بحيث أصبح عاملا فاعلا فى تحديد كثير من تفاصيل سلوكه، بمايمتد إلى مصير نوعه؟
تجلى الانخداع بهذه النقلة النوعية (اكتساب الوعى بالذات ، فى مواجهة ما ليس ذاتا، واحتمال المشاركة فى تقرير المصير/الحرية) فى مجالات عدةّ وبآليات متطورة قادرة. إلا أن تلك الآليات، على حداثتها، قد تمادت فى غرورها حتى كادت تنحرف بمسار التطور إلى الهلاك. أهم تلك الآليات هو ما سمى “العقل” (وهو ليس إلا جزءاً حديثاً من تاريخنا الرائع) حيث راح يختزل التاريخ الحيوى بكل زخم عطائه وفخر نجاحاته إلى ما يدخل فى اختصاصه تحديدا (اختصاص العقل كما صنفوه)، كما راح هذا العقل نفسه يختزل الغريزة الإيمانية (الحنين الفطرى إلى العودة إلى رحم الكون الأعظم) إلى ما هو دين، وأيضا كاد يختزل زخم الحرية وهيراركية الوعى وتفريعاته إلى ما يسمى “الديمقراطية”. وهكذا أصبحت المعارف حكرا على ما يقره العقل الحديث (المتلبس|)، كما أصبح تفسير الأديان بالعقل بديلا عن حركية الإيمان إبداعا.
وبعد
هذه المقدمة التى طالت بدت لى ضرورية من حيث المبدأ لعلها تذكرنا أننا لكى نتعرف على مفهوم أعمق للحرية، علينا أن نغامر بمراجعة ما يسمى ديمقراطية (بما فى ذلك تفريعاتها الفرعية، وتداخلها مع حقوق الإنسان، وخاصة حق التعبير)، و أن ننتبه إلى آليات تزييف الوعى بما يقال له الإعلام (المختلط بالإعلان) ، وإلى استغلال التعليم (وبعض العلم)، لتشكيل الوعى البشرى بما ليس هو، وأخيرا وليس آخرا إلى ما أدى إليه اختزال السلطة الدينية للغريزة الإيمانية وحبسها فى تفسير جامد. لكن كل ذلك يحتاج لتفصيل آخر، فنكتفى الآن بهذه المقدمات الافتتاحية.
الفرض
الفرض فى هذه المداخلة هو لتحديد وضع الحرية بما هى (لا بما شاع عنها، ولا بما اختزلت إليه)، فى علاقتها بالإبداع على مستويين: العملية الإبداعية، والناتج الإبداعى.
الحرية فيما يتعلق بحركية الإبداع لا تبدأ بحرية التعبير، ولا تنتهى بحرية النشر فالنقد. صحيح أن كلا من حرية التعبير وحرية النشر هى إعلان جيد عن حجم المساحة التى تتجول فيها حركية الإبداع لمجموعة من البشر فى زمن بذاته فى موقع بذاته، لكن لاينبغى أن نقبل هذا الاختزال بشكل يعمينا فى النهاية عن أساسيات أعمق وألزم وأخطر فيما يخص العملية الإبداعية ذاتها.
لا إبداع بلا حرية حقيقية. ولا حرية بغير حركية مرنة مغامرة، ولا حركية مرنة مغامرة بغير جدل غامض، ولا جدل إلا فى حضور عدد من المتناقضات المتضفرة فى رحاب وعى خلاق ، يتخلق مع “آخر” يمارس نفس العملية من زاويته بطريقته، وهكذا…
إن المجال الجوهرى الذى يمكن أن تُختبر فيه، وأيضا تتحقق فيه، بعض حرية الكائن البشرى بما تميز به من وعى وإرادة، هو مجال الإبداع.
إبداع، وإبداع
الكائنات قبل البشر حققت إبداعها على مسار التطور بطفرات تنسلخ بها من كائن إلى آخر. واقع الأمر أن قوانين الطبيعة التى وضعها خالقها هى التى حققت هذا الإبداع الرائع وليس الكائنات. لم يحل الكائن الأرقى محل كل الكائنات التى طفر منها وانسلخ عنها بجهده الذاتى وإنما باستيعابه قوانين البقاء ثم حسن استعمالها الكائنات الحالية التى تزعم نظريات التطور أننا (نحن البشر) نمثل الصورة الأرقى منها ما زالت باقية حولنا. هذا دليل أن الطبيعة قد فشلت فى أن تبدع من هذا الذى مازال حولنا ما هو بشر (نحن). إن نجاح إبداع الطبيعة لما هو إنسان قد تم بشكل انتقائى لبعض هؤلاء الجدود دون غيرها (تذكـر أن البكتريا، والقرد، والغوريلا ما زالوا يعيشون معنا كأبناء عمومة. ليسو هم تماما نفس الأجداد الذين أبدعتنا برامج التطور منهم).
هكذا أبدعت الطبيعة – بفضل الحق سبحانه وتعالي- ما هو نحن، دون حاجة إلى غرور الإرادة وأوهام الحرية.
الكائن البشرى هو الكائن الوحيد- فيما نعرف – الذى يبدو أنه يمكنه، أن يمارس إبداعه ذاته، بما يشير إلى إمكانية إبداعه لما يعد به، يفعل ذلك من خلال تلك النقلة النوعية التى أكسبته الوعى والإرادة اللذان سمحا له باستعمال العقل ومنتجاته، ليمارس – فيما يمارس – ما أسماه الحرية : وقود الإبداع البشرى وشرطه، من هذا المنطلق تصبح مسألة الحرية وعلاقتها بالإبداع إشكالة تطورية بشرية غير مسبوقة عند الأحياء قبل الإنسان.
ليس معنى أن الإنسان قد اكتسب الوعى والإرادة أن تطوره الذاتي، أو النوعى أصبح مستقلا عن آليات التطور الطبيعية التى أفرزته. إن هاتين الميزتين تجعل الإنسان – شخصيا أكثر من المحيط والظروف – متضامنا فى المسئولية عن الطفرات الآتية: إما تطورا وإما نقراضا.
الإبداع عند الإنسان تجاوز هذه الخطوة التطورية التى لا تعلن وجودها إلا بحدوث الطفرة فعلا. اكتشف الكائن البشري، بوعيه البصيرى المتميز، أن كثيرا مما يحفز تطوره، ويرسم خطى ارتقائه لا يمكن تحقيقه بمجرد أن يصل إلى وعيه مهما كان واضحا ومؤكدا. لا يكفى أن يلم الوعى البشرى بما “يجري”، وما “يهدد”، ثم ما “يمكن”، فيقرر الأفضل والأنجح، أو يختارهما، تحقيق الطفرة القادمة لا يتناسب مع الرؤية مهما صدقت أو اخترقت. من هنا ظهرت الوظيفة الرائعة لضرورة تسجيل ناتج الإبداع إذْ تـُمَـكـِّن هذه الوظبفة التنبؤية من تسجيل الواعد، بقدر ما تُمكَّن من الإنذار بالمخاطر الممكنة.
بألفاظ أخرى نقول : إن الناتج الإبداعى هو بمثابة إعلان عن عجز تحقيق المراد الارتقائي”الآن”، وفى نفس الوقت هو تخطيط يحفظ للجنس البشرى حقوق التأجيل حتى تتاح فرصة التنفيذ، ثم إنه تحذير لما قد يهدد النوع بالانقراض، حالا أو مستقبلا.
كل ذلك يؤدى بنا إلى مشروعية التفرقة بين العملية الإبداعية التى تجرى عبرالتاريخ وحتى الآن، والناتج الإبداعى الذى اختص به الكائن البشرى (فى حدود ما نعرف)، لكنه يلزمنا أيضا بالربط بينهما ربطا حيويا متكاملا.
إن التكامل بين العملية الإبداعية البشرية مع ناتجها هو الذى نقل احتكار الطبيعة للإبداع إلى احتمال مشاركة الإنسان فى تسيير وتوجيه التطور، بما يشمل تحمله مسئولية ما يترتب على ذلك.
مرة أخري: الإبداع البشرى هو عملية تطورية أصلا، وما الناتج الإبداعى إلا إعلان عن عجز مرحلى عن تحقيق بعض رؤى هذه العملية “حالا”، فكأنما يقوم هذا الناتج بالاحتفاظ بـ “حق التطور” كما سجله فى الوقت المناسب.
…………
ونكمل الأسبوع القادم (2 من 3): “شروط وفاعليات عملية الإبداع فى ذاتها”
ثم الأسبوع بعد القادم (3 من 3): “تجليات العملية الإبداعية”
[1] – أصل المقال كان بعنوان: “تعليم تلقينى.. وسلطات قامعة عن الحرية والإبداع والقهر الداخلى” مجلة وجهات نظر – نوفمبر -1993