الوفد: 18/10/2001
(حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. من الفجر)
ليست نهاية التاريخ، بل حمل بـحضارة بديلة
حين حدثت كارثة الثلاثاء الأسود، استعاد أغلب المصريين ما كان يوم الأقصر. عاشوا نفس الألم، ونفس الرفض، ونفس الغضب. الإنسان المصرى يعرف كيف يحزن. رغم كل ما لحقه ويلحقه. ما زال المصرى يستطيع أن يحزن للناس، مع الناس. خيلَ إلى، ربما أكون مخطئا، أن حزننا على ضحايا الأمريكيين مؤخرا كان أعمق وأرق وأصدق من حزن النيويوركيين بالذات، لا أعرف كيف جاءنى هذا التصور. نحن حزنا على الضحايا، وبعضنا حزن على عمى الجناة المخدوعين حتى صاحبوا الضحايا. لكننى رجّحت أن حزن النيويوركيين بالذات، هو على أنفسهم، وليس على هؤلاء أو أولئك.
الأقصر: أكتوبر سنة 1997
… أيامها عشنا الألم كله، ورفضنا الرفض كله، وغضبنا أشرس الغضب وآلمَه، وخجلنا كما ينبغى لا أعرف مصريا مسلما آو مسيحيا، كبيرا أو صغيرا، إلا وقالها بملء وجوده أنْ: “لا”، لسنا نحن، هؤلاء ضيوفنا، بشر أكرمهم الله بالحياة، جاؤوا يتعرفون على الموقع الذى ولد فيه الضمير البشرى ، بأى حق يزهِق أرواحهم هؤلاء الشبابُ المجنون ؟ نال الذين فعلوها جزاءهم فورا. قصاص عادل . لكننا لم ننسَ.
رجعت إلى ما سجّلته يومها – يوم الأقصر- ( وهو ما نشر فى حينه فى عامود “تعتعة” فى مجلة “الدستور”)، كنت جالسا واضعا كفى على صدغى غير مصدق. تقدم حفيدى منى (4 سنوات)، وسألنى “إنت زعلان يا جِدّي”؟ . كنت لا أريد، بل لا أستطيع ، أن أنطق حرفا، لكنّه أصر، رددت باقتضاب: “نعم”. نظر فى وجهى واستمر : إنت زعلان قوي؟ قلت وأنا أحاول أن أصرفه عنى :” قوى قوي”. يبدو أن الإجابة لم تكفه لتفسير مدى الحزن الذى ظهر على وجهى، فمضى يسأل من جديد:” زعلان أكتر من كل حاجة”، فقلت له : “فعلا، أكتر من كل حاجة”، لم يتوقف. فاجأنى بسؤال يقول :”أكتر من ربنا؟” صمتُّ أكثر، ضممته داخل صدرى لأخفى عنه وجهى أكثر ثم قلت :”لا يا حبيبى مش أكتر من ربنا”، فقال:”طبعا. مافيش حاجة أكتر من ربنا! مش كده”؟ قلت وأنا أحاول أن أشيح بوجهى أكثر حتى لا يقرأ باقى ما بي: “كده”
إننا فى مصر لا نحتاج إلى دروس من السادة فى الشمال نتعلّم منها خطر الإرهاب وبشاعته. إنهم يخيفونا ليجرونا معهم ، تاركين إسرائيل تعربد بنفس الوقاحة. ياأهل العالم الحر وحقوق الإنسان، أنتم تواجهون الخطأ بخطأ أكبر. الضحايا من المدنيين الأفغان ليسوا الثلاثمائة الذين وقعت عليهم قنابلكم خطأ ( كذا؟!!!!)، لكنهم المليون ونصف الذين سوف يموتون جوعا وبردا فى الجبال هربا من جحيمكم.
كل الأبرياء
المفروض (وربما بعض الواقع) أننا فى مصر- مثل كل البشر – نحزن لمقتل الأبرياء جميعا، نحزن مع أم الصبى الفلسطينى فى الخليل ، ومع والد الطفل العراقى فى البصرة، ومع زوجة الموظف الأمريكى فى مركز التجارة، تأكد لى ظنى السابق وأنا أستمع لأحاديث أصدقائى العائدين من أمريكا مؤخرا وهو أننا ربما عشنا الحادث أعمق وأكثر إنسانية من كثير من الأمريكيين أنفسهم، ما بلغنى من أصدقائى هؤلاء أن أغلب المشاعر التى تسود هناك هى مشاعرالخوف، والغيظ، والغضب، والترقّب، والانتقام. وأن ما يشعِلهم ويشغـلهم هو الإهانة التى لحقت بكرامتهم، والخسارة المادية التى قد تُخِل بحساباتهم. لم يبلغنى – دون تعميم – أن الأمريكى العادى تذكر أبرياء آخرين غـير ذويه.على غيرأرضه. إن العزوف عن ركوب الطائرات بهذا الإجماع يدل على مدى الذاتية والخوف، لا على الحزن والتأسى . معهم عذر، ولكنه عذر قبيح دال.
تتردد كلمات حفيدى فى وعيى وأنا أستمع إلى بيانات وزير دفاعهم رامسفيلد عن نجاح غاراتهم الساحقة الماحقة ،”لا يوجد ما هو أكبر من ربنا “. أتذكر معها صيحة جنودنا فى 6 أكتوبر أن “الله أكبر”. ليست صيحة حماس أو بركة دعاء فقط، “الله أكبر” هى مسئولية نحملها نٌحق بها العدل ونرفض الذل . اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نُــظلَـم. فيكون الحق تعالى أكبر كبيرا.
الهم العام ، هو خاص جدا.
ناسُنا هنا، الناس الفقراء المطحونون بالبطالة واللاسكن واللازواج واللا معنى – وجدوا أنفسهم فى مواجهة لغة لم يعتادوها، لغة لم تـُنـسِهِم مصيبتهم الخاصة جدا والمحلية جدا، أتقمص الواحد منهم وهو يقول : مالى أنا و صراع الحضارات، و الداروينية الاجتماعية، و نهاية التاريخ، و ندوات التوفيق (والنفاق !!). لكننى على يقين أن بداخل كل منهم ذلك الطفل الذى يمثله حفيدى وهو يذكّرهم ، دون توكل، أنه ” مافيش حاجة أكبر من ربنا “. إن المصرى هو بشر مثل البشر. إن ما يجرى اليوم فى أفغانستان قد يواجهه غدا أو بعد غد. إن الجميع يشعرون – مهما أنكروا – أن المسألة تخصّهم جدا جدا ، وفردا فردا. شعر الناس البسطاء أن المسألة ليست مسألة إرهاب، ولا هى مسألة “بن لادن”، شعروا – أكثر من السيد دبليو والسيد بلير -أن ثمة خطرا حقيقيا وشخصيا يهدد كيانهم أفرادا فجماعات، إنه خطر يهدد كل البشر.
إن الشاب المصرى الذى لا يجد وظيفة، والموظف المصرى الذى لا يصدق الحكومة وهو لا يعرف من أين يحصل على أجرة المدرس الخصوصى لابنه فى سنة ثانية ثانوى، يعرف فى مستوى أعمق من وجوده أن الخطأ الذى نحاول تحديده لنصلحه، له علاقة بثمن الدواء الذى يشتريه، وبزعم تدريس مادة الأخلاق فى مراحل التعليم فى نفس الوقت الذى نطنبل (نطنش) فيه عن الغش الذى يمارسه مدرس الأخلاق فى لجان الامتحان، صحيح أن الوصلة بين كل هذا وصراع البقاء غير واضحة ، لكنّها موجودة، ومهمة، وحقيقية.
إن المصريين، بوجه خاص، يعرفون جيدا ما هو الإرهاب، وهم يرفضونه ابتداء، ويرفضونه بشكل أكبر حين يقرن بالدين،. لا يوجد دين حقيقى عبر التاريخ برر، أو شرّع، أو سمح بما يسمّى الإرهاب. بمجرد أن تنحرف الممارسة الدينية إلى مثل هذا المنعطف القبيح ، تنفصم علاقتها بالدين . شعر الناس أنه بقدر ما أن ثم خطأ فى ربط الإرهاب بالدين، فإن خطأ أكبر هو أن يختزل الجارى إلى قضية فرعية، نسميها الإرهاب
تكرر الحديث عن “أسباب الإرهاب”، واتفقت كثير من الآراء على أن الظلم الذى يلحق بهذه الفئة أو تلك، ثم لا توجد آلية لرفعه، ولا وسيلة لدفعه، ولا قانون لإيقافه، هذا الظلم هو المسئول عن هذه المضاعفات التى نعانى منها ونسميها الإرهاب، سبق أن أشرت كيف أن قتل نفس بغير نفس هى قتل للناس جميعا، وأن المسألة ليست فى العدد، أو لون بشرة الضحايا !!!.أمس، (13/10) بعد كل ما جرى، ويجرى ، يصرح السيد شارون أنه قام بقتل عبد الرحمن حماد على سطح منزله، فى قلقيلية بعد أدائه صلاة الفجر، وأنها ليست أول عملية اغتيال، ولا آخرها، ثم يضيف فخورا أن القاتل متمرس حاذق ؟إن الذى يوقف الإرهاب هو أن يعلن بوش أن هذا إرهاب. وأن يدعو لمحاكمة المعترِف الوقح المتبجح. هذا أفضل ألف مرة من الوعد الكاذب بدولة فلسطين وكأنه يمنحها من جيب أبيه. ثم يلومون الناس إذا كفروا وجُنوا وانتحروا، ويعاقبون ملايين الفقراء الجوعى على ما فعل شارون واعترف به، وما ترتْب عليه !!!! . رغم كل ذلك فإن هذا الإرهاب على الجانبين ، له دلالات أعمق.
بن لادن “الرمز”
دلالة ما حدث وما يحدث هو أن المسار الإنسانى قد انحرف عن طريقه الطبيعى، إن الإنسان المعاصر قد عجز عن أن يتسق مع الطبيعة فى لحن الكون الأعظم متجها إلى وجه الحق سبحانه وتعالى. إن ما حدث ويحدث فى نيويورك وغزة وواشنطون وقندهار والقدس وكوسوفو ما هو إلا قروح المرض الأصلى الذى تعانى منه البشرية. سوف يكتب التاريخ ساخرا عن هذه الظاهرة المسماة “بن لادن”. أهمية بن لادن ليست فيما يفعله، و قوته لا تعتمد على عدد من يجنّده لتنفيذ أغراضه، وإنما تكمن أهميته فى ما يرمز إلبه:
بن لادن هو رمز يقول : إن أى فرد، حتى لو كان وحده، يمكنه أن يقف، ولو خطأ، فى وجه أعتى القوى. إن الفرد حين ييأس من الحكومات التى تخلّت عن مسئوليتها يمكنه أن يتولى الأمر بنفسه. إن المال الخاص يمكن أن يسخَّـر لخدمة فكرة ما حتى لو كانت نتائجها خطيرة إلى هذا الحد البشع. هذا ما تعنيه ظاهرة بن لادن. إن الذين هتفوا له فى مصر وفلسطين والأردن وأندونيسيا والباكستان لم يهتفوا للإرهابى وإنما هتفوا للأمل، وللمعنى، وللرمز. كل هذه الهتافات تقول “لن نستسلم ، ونحن أحق بإدارة عجلة الحياة منكم”.
إن أمريكا، ومن إليها تعجّلت بالرد المتغطرس إرضاء لشارع انتخابى لا يهمه إلا رد الإهانة، لا يعنيه إلا أن يلقى بماء النار فى وجه من صفعه على قفاه (وبالمرة فى وجه كل من حاول فهمها على حقيقتها)، مقابلة الصفعات بإلقاء ماء النار فى وجوه كل الناس الذين يشبهون، أو ينتمون إلى، أو يذكرون اسم الصافع، يوازى مقابلة رمى الحجارة بهدم البيوت وقتل الأطفال واغتيال الرجال دون محاكمة فى فلسطين. نفس اللغة ونفس الخطأ ونفس التشنج ونفس العمى ونفس الغطرسة. النتيجة أن يـستثار المستضعف حتى الجنون ، فتتحرك فيه كل نزعات التدمير بلا حساب. ولا ينتهى المسلسل أبدا.
لـن يقضى على الإرهاب أن تسلِّـم طالبان بن لادن، أو أن تـُمسح أفغانستان من الوجود فيعاد انتخاب السيد دبليو ، أو السيد” واى، زِد” ، أو أى سيد يكرر نفس الحروف ليقول نفس الكلام، إن الذى يمكن أن يقضى على تشنجات البشر فى الاتجاه الخاطئ (والتى بعض مظاهرها ما سمّى بالإرهاب)، هو حكمة التعامل مع حقيقة المأزق الذى تمر به البشرية فى هذه المرحلة من تطورها.
المأزق
إن مأزق الإنسان المعاصر هو أنه اغترب بإنجازاته الرائعة عن تاريخه الحقيقى. إن المسيرة البشرية انحرفت من السعى إلى التوازن الخلاق مفتوح النهاية (بكل ما وهبت من وسائل المعرفة، وعلى رأسها الإيمان) إلى جمع قشور “الوسائل” (من معلومات وأدوات) لذاتها، حتى تراكمت على الوعى البشرى فكادت تحل محله. ثم بعد ذلك راح الذى يمتلك القوة والقرار0 يوظف هذه الوسائل فى خدمة مزيد من الرفاهية الناعمة، والتأكيد على حتم الفردية المغرورة، والديمقراطية الزائفة، مع محاولات تحسين الصحة الجسدية لإطالة عمره بغض النظر عمّا سوف ينفق فيه هذه السنوات المضافة. يتم ذلك على حساب كل البشر الآخرين ، موردى المواد الخام، والعاملين فى الوظائف الحقيرة، ومستهلكى الناتج التافه.
لا أنكر إنجازات الإنسان الشمالى والغربى، بل إننى كثيرا ما ألتفت حولى وأنا مسافر هناك، أو وأنا جالس فى أحد الفنادق وهم حولى، أو وأنا مؤتنس بهم فى “العصلة” فى دهب فى جنوب سيناء، وأسأل نفسى : هل هؤلاء هم الذين أرفضهم حتى التشويه؟ وهل نحن، بكل كسلنا، وتقاعسنا، واعتماديتنا، هل نحن أفضل منهم؟ هل نحن قادرون على أن نعرض بديلا أرقي؟ وتأتينى الإجابة قاسية مرّة ، فأنتبه إلى أننى لا أرفض هؤلاء الناس، ولا هذه الرقة، ولا تلك الدماثة أو الحرية الفردية، وإنما أنا أحاول أن أنبّه وأنتبه إلى أن هذا ليس هو غاية المراد من الوجود البشرى المكرّم.لا كسلنا وتخلفنا وتعصبنا هو ما خُلقنا له، ولا صحتهم البادية، وحمرة وجوههم المتفجرة بالإنطلاق واللذة هى غاية الإنسان فى مسيرته نحو وجه الحق تعالى.
كاريكاتير
حين يغلبنى التحيز والغيظ يرسم لى خيالى الوجه السلبى للنموذج الأمريكى كاريكاتيرا كالتالي: “إنسان أبيض اللون مورد الخدّين، شديد الصحة، يشرب اللبن المسكر بفيتامين د طفلا، ويشرب الكوكاكولا (أو حاجة أصفرا) يافعا، ثم هو يقضم الماكدونال ناضجا. غاية مناه ، بعد عدة جولات سياحية جدا، أن يقضى شيخوخته وهو يصطاد السمك بعد المعاش على شاطئ هادئ ، أو وهو يستعمل الفياجرا مع من لا تحبه، وحتى يحقق سيادته ذلك، فإنه يواصل استعمال الملونين، وهو يحتكر المواد الخام فى أراضينا، ويقدم مقابل ذلك وعودا برفاهية ناعمة غامضة. لا يمنع هذا النموذج المتحضر أن يفوّتّ” لنا السيد برلسكونى اعتذارا، والسيد دبليو مكافأةً، والسيد بلير زيارة، والسيد دى كويلار طبطبة والسيد كوفى عنان مواساة (على فكرة: كوفى عنان لونه أبيض لكنك لست آخذا بالك!!). بعض هؤلاء البيض الأجمل لهم الفضل إذ يطلقون العنان لملكاتهم فى الفن والعلم والتكنولوجيا، لكنهم يستعملونها للتفوق والمعايرة وبعض الفوائد المشروطة . طبعا هذه صورة لا أوافق عليها أبدا ، لكنه الغيظ .
جوهر الخطأ
إن المسلسل الذى بدأ فى نيويورك ، ثم انتقل إلى أفغانستان يعلن أن ثمة خطأ تطوريا جسيما يهدد النوع البشرى بالفناء !!! إنها ليست حربا عالمية ثالثة (أين الحرب؟). إنها دورة من دورات الحياة (الحضارة). هى دورة التعملق بالتجبّر، فالانشقاق فالتفسخ فالصرخة المنذرة. ثم نحن وشطارتنا: ننتهى أم نولد من جديد ؟
قديما كان الله سبحانه، وهو أرحم بعباده من أن يتركهم لأنفسهم، يرسل لهم الرسول تلو الرسول (صلوات الله عليهم) لينقذهم فى الوقت المناسب مما انحدروا إليه، كان الناس يؤمنون ويشكرون، لكنّهـم سرعان ما يتراجعون ويشوهون وينتكسون (..فـفريقا كذّبتم وفريقا تقتلون)، فيرسل الله رسولا آخر، وهكذا، ثم إن الله سبحانه حين ختم الرسالات بالإسلام ، ببساطته ومباشرته ووعده بالحرية من خلال التوحيد ورفض الكهنوت، حمّل البشر مسئولية إدراك الخطر لتصحيح المسار بأنفسهم فى الوقت المناسب دون وحى جديد من السماء (هذا تفسير شاعر وفيلسوف الإسلام “محمد إقبال” لختم النبوة). ما حدث الآن يذكرنا بأننا فى حاجة إلى بشر فى مرتبة الأنبياء، تنبتهم الأرض ما دام الله سبحانه قد ختم النبوات بفضله.
دون رفض
إن ما تقوله أحداث نيويورك وفلسطين وكشمير وأفغانستان والبلقان على حد سواء. هو هو ما تقوله جرائم الشوارع فى أرقى مدن العالم، وهو هو ما تقوله جرائم التعصب فى أفقر دول العالم، وهو أيضا ما تذكرنا به كل المصائب الذى تتواتر أخبارها عبر الشفافيات من دعارة الأطفال حتى التطهير العرقى، ومن القتل بلا محاكمة، حتى كارثة المخدرات. وهو كذلك ما تقوله تشنجات اليائسين الذين يسمونهم إرهابيين.
ليس معنى ذلك أن العالم الآن هو فى مرحلة أسوأ من مراحل مظلمة فى التاريخ مرّت بها البشرية، لكن المسألة أن الحسابات أصبحت أعقد، والمخاطر أصبحت أكثر شمولا وأبعد عن المراجعة. نحن لا ننكر إنجازاتهم لكننا فى نفس الوقت لا ينبغى أن نتمادى بالانبهار بنموذج ناقص، هذه بعض مضاعفاته.
إنهم يحتاجون أكثر من أى وقت مضى أن يسمعونا، حتى وهم يستهينون بنا . هل عندنا ما نقوله ؟ ما نفعله؟ ما نعرضه؟ ما نمثله ؟ . نعم، ولكن…..
نقد النقد
إن أول ما يجعلهم ينصتون إلينا -ولـلعقلاء منهم – لصالحهم وصالحنا، هو أن نعى حدود رفضنا ونحن نحاول أن ندفع مخاطر تقسيم العالم إلى فرق متناحرة. دعونا نتحفظ حتى لا يبدو النقد رفضا متشنجا:
أولا : ليس معنى أن ننقد ما يسمى العالم الحر أننا ندعو إلى عالم “ليس حرا” !!!
ثانيا : ليس معنى أن ننقد الديقراطية أننا نحبذ حكما شموليا، أو عسكريا، أو شيوعيا، أو قبليا.
ثالثا: ليس معنى أن ننقد المعلوماتية أننا نتخلّى عن ضرورة استعمالها لأشرف الأغراض
رابعا: ليس معنى أن ننبه إلى ما آل إليه حال البشر حين تخلّى عن تاريخه، وخاصة فيما يتعلق بدور الإيمان الموضوعى، أننا ندعو إلى العودة إلى الدين بمعنى الاستسلام لسلطات، تتكلم لغة دينية قديمة، وتحتكر التفسير، فلا تحقق إلا نفس “النموذج الأمريكي”دون آليــة ِ تصحيحٍ حتى لا نخالف ما جاء فى صحيح تفسيرهم بالضرورة.
خامسا: ليس معنى أن ننقد المنهج العلمى المنغـلق أن نتنازل عن جزئيات المعلومات التى أضافها إلينا هذا المنهج حتى أصبحت حياتنا أكثر ثراء ، وأسهل تناولا.
إن كل هذه المحاذير تضعنا فى حيرة أكبر، لكنهّا تحفزنا إلى بحث أعمق. نحن نحتاج وقتا للخروج من هذا المأزق بقدر ما نحتاج إلى جهد كل الناس. إن التحدّى الملقى على البشر اليوم يقول:
هب أننا صدّقنا أن ما نعيشه الآن هو إعلان صريح لفشل النموذج الأمريكى كما فشل وجهه الآخر (الاتحاد السوفيتي) من قبل، فما العمل ؟
هل من بديل ؟
كل البدائل التى قفزت تشنّـجا حتى الآن ثبت أنها أخطر وألعن، ومن ثم أفشل من هذا النموذج الذى نتهمه بأنه السبب فى الجنون السائد حاليا. الحلول السلفية والقبَلية والشمولية والبدائية والفوضوية التى جُرِّبت بكل تشكيلاتها، فى زوايا الشذوذ وتجارب الأحلام، فشلت وستفشل ما دامت وسيلتها هى تفجير كل مدنـية العالم، ليتفسخ الناس إلى مجموعات شاذّة، وثلل عاجزة. يحلم بعضها بالجنّة المؤجّـلة دون عمل جاد لتعمير الأرض ونفع الناس، ويحقق البعض الآخر جنّته الشاذة المنغـلقة فى ظلام المخدرات.
هل معنى فشل البدائل حتى الآن أن نستسلم للنموذج الأمريكى الذى يفرض نفسه بهذا الشكل وهو يحرك العالم للاشتراك فى إبادة شعب دولة ليس له من الأمر شيء. يوهمنا ويتوهم أنه يحارب الإرهاب؟ إن معنى موافقتنا أننا نقرّ أنه :” بناقص شعب فلسطين بأكمله، وبناقص عشرة آلاف أمريكى، ومليونين من الأفغان، وبناقص أطفال العراق، وبناقص ناس الشيشان وحتى شعب الصرب …إلخ.” إننا إذْ نهرول وراء هؤلاء الحكام الأغبياء الحلـوين ، نحارب معهم، أو نشجعهم وهم يحاربون، إنما نشترك فى الجريمة الأشنع، حتى لو كانت المكافأة هى غسيل المخ، أو غسيل الأموال، فى مقابل الاستيلاء على مواردنا الأولية يصنّـعونها لنا- مشكورين- ونحن نجهز أنفسنا للتمتع برائحة الشواء التى تفوح من مجتمع رفاهيتهم !
ليس عندى بديل، لكنه موجود، لأن الله موجود، ولأن الإنسان لم ينقرض بعد. الاجتهاد قائم على قدم وساق فى كل الدنيا. هو قائم فى أمريكا مثلما هو قائم فى إيران، وهو قائم فى أوربا مثلما هو قائم فى السلفادور، وهو قائم فى أوكرانيا مثلما هو فى المغرب ، وهو قائم فى الصين مثلما هو فى الهند. هذه الدنيا بها قدر رائع من عقول البشر، ووجدانهم، ووعيهم الأشمل. الكل يعمل ليل نهار، يراجع ويحاول التصحيح، رغم المصائب والمضاعفات التى تنبّهنا إلى ضرورة بذل المزيد من الجهد قبل فوات الأوان .
بداية للتاريخ لا نهايته
المطلوب هو عدم الاستسلام للنموذج الخطأ، حتى لو كان هو الغالب المتاح حتى هذه اللحظة. المطلوب أكثر هو عدم تصحيح الخطأ بخطأ أكبر. إذا كان النموذج الأمريكى ليس هو الحل، فقشور الإسلام- بمعنى الرجوع إلى ما استقرّ عليه السلف دون استلهام متجدد لما أوحى به الله سبحانه – ليس هو الحل أيضا،
لم ينجح الحل الشيوعى فى أن يعطى بديلا لأنه كان الوجه الآخر لنفس النموذج الأمريكى. إن فشل الاتحاد السوفيتى ليس نذيرا بنهاية التاريخ، لكنه إعلان أسبق لفشل نفس الحل. ثم ها هو الوجه الأمريكى لنفس النموذج و قد تعرّى وهو يتهاوى، المسألة ليست إلا مسألة فروق التوقيت. إنه نفس النموذج الكمّى الاستهلاكى المغترب، وإن اختلفت مناطق ولغات توزيع القوى. إنها بداية أخرى للتاريخ.
توفيق أم تلفيق؟
إن محاولات التوفيق والتلفيق بين النموذج الأمريكى (الأوربي/ الشمالي/ الروسي: كله واحد) وبين أحكام تديننا الثابتة، أو ثقافتنا التراثية، قد باءت وستبوء بالفشل أكثر. إنها تجرى على حساب الإبداع الحقيقى . منذ رفاعة الطهطاوى، ومحمد عبده، ثم زكى نجيب محمود حتى أحمد عبد المعطى حجازى ومحاولات التوفيق تجرى على قدم وساق، بلا طائل. لأنها تسويات وليست جدلا خلاقا.(شوية معاصرة على شوية أصالة، شوية عقل على شوية وجدان . نحترم التراث ونتصوّر تحديثه فى حين أننا نفرغه من كل ما تميز به ..إلخ !) ثم إن الندوات والمؤتمرات الحوارية الأحدث تحاول أن تكمل نفس الطريق التوفيقى (أو التلفيقي) بأكبر قدر من المجاملة، مع ضرورة قبول بعض النـفاق، بحسن نية طبعا. كل ذلك يتم على حساب الإبداع الذى يعد بحلول جديدة ، هى موجودة حتما ، حتى لو تأخر ظهورها ردحا طويلا.
رفض الزيف الذى انهار على الجانبين هو فرض عين مهما تأخر الحل البديل.
..وتبين الخيط الأبيض من الأسود
إن الحضارة البديلة تتشكل، ونور فجرها يلوح من بعيد، من كل مكان، دون استثناء “ناس” أمريكا، واسألوا تشومسكى، وجارودى، وإدوارد سعيد، ومحمد شحرور. وكل من ألقى السمع وهو شهيد.
مهما كانت نهاية هذا العبث القاتل فى أفغانستان، فإن النصر لنا نحن البشرالحقيقيين، دون دبليو بوش، ودون الملا محمد عمر، ودون بن لادن، ودون بلير.أمّا شارون، وأمثاله، فقد انتهوا قبل أن يوجدوا.