نشرت فى الدستور
31-5-2006
حاول ألا تفهم … !!
الحق فى الغباء، كسائر حقوق الإنسان المهملة، هو حق مشروع، مثل الحق فى الجنون والحق فى الحقد، والحق فى التفاهة، كلها حقوق لو اعترفنا بها، لأمكن ترويضها بعد قبولها من حيث المبدأ والطاقة الدافعة، بدلا من أن تعمل فى الخفاء فتعمينا وتشوهنا. أفخر كثيرا – بينى وبين نفسى – بعدم قدرتى على فهم ما يفهمه غيرى ببساطة ومباشرة، نعم، أغلب ما لا أفهمه، خصوصا فى السياسة، يفهمه غيرى بسهولة، أو هو يتصور أنه يفهمه، أو لعله يكسّل أن يكتشف أنه لم يفهمه. حين كتبت فى التعتعتين السابقتين عن الغباء والذكاء السياسى، ثم عن التغابى، انتبهت إلى أنه علىّ أن أعلن موقفى، وقصورى بصفة شخصية لعلنى أكون أصدق وأوضح. يبدو أنه من الأفضل أن نتوقف عند ما لا نفهمه، مهما طال الزمن هذا حقى وحقك، بدلا من أن نتعسف الفهم غصبا عنا، عدم الفهم ليس بالضرورة غباء، وهو بالتأكيد ليس تغابيا.
خذ هذه الأمثلة:
المثال الأول: أنا لا أفهم البيانات الختامية للقاءات الثنائية حين يلتقى زعيمان جدا، أو رئيسان جدا، مختلفى الثقافة والدين والذكاء والاقتصاد، ثم يصدر بعد لقائهما بياناً يقول: إن وجهات نظرهما متطابقة فى كل المسائل والمشاكل، يا خبر!! أتحدى أياً منهما يستطيع أن يزعم ذلك مع زوجته التى عاش معها بضعة عقود، ثم أنبه نفسى أن السياسة شئ آخر وأننى لا أفهم فى السياسة بوجه خاص.
المثال الثانى: أتامل صور الرؤساء والزعماء والقادة وهم يبتسمون، بل يضحكون ضحكات متسعة جدا كل ضحكة تكاد تأكل بقية ملامح الوجه، أحاول أن أذكر نفسى أن هذا ليس دليلا على سعادتهم (ولا على بلاهتهم) وأن هذا هو لزوم التصوير (كلنا كده عايزين صورة. أو:عشان الصورة تطلع حلوة) لكن فى نفس الوقت لا أستطيع أن استبعد ما يلوح لى وراءهم فى خلفية الصورة بما يشبه الهلوسة التى يعانى منها مرضاى، حيث أرى أشلاء الأبرياء المتناثرة، وياليت الأمر يتوقف عند ذلك، بل أننى ألمح أحيانا أرضية الصورة وهى تتموّج وكأنها لم تعد مجرد صورة بل “فيديو” يعرض دماء طازجة ومتخثرة وهى تتدفق متماوجة، ينعبث منها رائحة الغدر والإبادة من باب الاستباق الوقائى (يعنى ماذا!!)، أفيق وأرفع بصرى فوق الدم المتماوج، فأجد الابتسامات هى هى، بل ربما تكون قد اتسعت أكثر لتزيدنى غيظا، أو لتعلن مدى غبائى السياسى الدبلوماسى.
المثال الثالث: أقرأ البيانات الختامية لمؤتمرات القمة المتعددة الأطراف، أعجز عن فهم كيف يصل رؤساء وزعماء عدة دول مختلفة إلى قرارات مصيرية جوهرية بعد ساعات من لقائهم أو على الأكثر بعد يوم أو حتى يومين، وبالإجماع، يا سبحان الله!! صحيح أن وزراء الخارجية يكونون قد قضوا أياما وربما اسابيع يجهزون هذا البيان الختامى، أتساءل: إذا كان الأمر كذلك، ألم يكن من الأفضل أن يرسلوا ما انتهوا إليه إلى رؤسائهم ليوقعوا، بدلا من خداع الناس هكذا وكأنهم تناقشوا واختلفوا، ثم اتفقوا، فاصدروا ذلك البيان الجماعى الإجماعى الختامى.؟ يرضى جميع الأطراف، تُرَى هل يعُّدونا – نحن الناس – من هذه الأطراف؟ لست متأكداً.
المثال الأخير: أعجز تماما عن فهم أبعاد وطبيعة ودلالة الحضور الواقعى لهذه الكتلة النيابية المسماة “الإخوان”، وهى كتلة منتخبة من فئة – مهما كانت محدودة – من الشعب، لكنها الفئة التى تكبدت مشقة المشاركة وإيجابية التنظيم والمبادرة، لا أفهم كيف تصدر البيانات الرسمية، كما تترى الأخبار فى الصحف القومية وغير القومية باسمهم وصفتهم، وكيف تعقد المؤتمرات الصحفية تحت لافتات عليها اسمهم بالبنط العريض، ثم تروح السلطة تقبض على بعض الأفراد بتهمة الإنتماء إلى جماعة محظورة بنفس الاسم (أى والله)، من الذى يقُبض عليه منهم؟ ومن الذى يُترك يتكلم تحت قبة البرلمان وفى المؤتمرات الصحفية غير المحظورة؟ لا أعرف.
أتمسك بحقى فى الغباء أهون من الغيظ حتى الانفجار.
مايبلغنى مما يعرض فى الفضائيات من مقابلات وأحاديث يزيدنى تمسكا بحقى فى الغباء، فأهرب من هذا كله فأجد أن غبائى هذا انتقائى، وقاصر على السياسة والدبلوماسية فى الأغلب، لأننى فهمت لعبة “العبيط”. التى لعبها جد “قندلفت” بناء على طلب الساحرات فى حكاية الخطاب الضائع من “حكايات قرب قرية ديكانكا” لنيكولاى جوجول فى القراءة الأخرى كما أننى أفهم حكايات أندرسون الخرافية للأطفال، أسهل وأسرع من هذه الألغاز السياسية والدبلوماسية
فعذراً.