نشرة “الإنسان والتطور”
الاثنين: 1-2-2016
السنة التاسعة
العدد: 3076
حالات وأحوال (29)
تابع: رحلة التفكيك والتخليق(25)
إيقاف قـَـسْرى: لحالة “محمد طربقها:!” (1)
جارى التشكيل المتبادل!
المقابلة: بتاريخ 16-10-2008
مقدمة:
محمد طربقها يدخل بعد أن رآه الدكتور يحيى جالسا فى الممر أمام باب الدرس، وقد حضر قبل الطبيب بمدة، وحياه الطبيب ثم دخل فدخل محمد بعده مباشرة دون استئذان.
د.يحيى: إزيك يامحمد
“محمد”: الحمد لله
د.يحيى: انت النهارده خدت إجازة من الشغل من غير إذنى؟
“محمد”: آه، أنا أنهاردا خدت إجازة بعد إذنك عشان اكمل اللى قلته لك امبارح
د.يحيى: بس أنا ما أذنتش لك تسيب الشغل، ثم إيه اللى مقعدك هنا يابنى بدرى كده فى البرد ده من الساعة 7 الصبح.
“محمد”: لأ مش من الساعة 7 أنا هنا من الساعة 6
د.يحيى: هنا بتعمل إيه؟
“محمد”: باستناك
د. يحيى: كنت قاعد فى العنبر ولا فى البلكونة
“محمد”: قعدت فى العنبر شوية وبعد كده دخلت البلكونة
د.يحيى: تعرف أى حد هنا من العيانين اللى فى القسم
“محمد”: آه عارفهم بس مش همّا
د.يحيى: كنت قاعد لوحدك ولا مع حد
“محمد”: قعدت شوية مع واحد وبعد كده سابنى ومشى
د.يحيى: واحد عارفه يعنى ولا بالصدفة
“محمد”: آه عارفه بس ماعرفش أسمه
د.يحيى: سابك ومشى راح فين
“محمد”: معرفش
د.يحيى: طيب احنا على ما يدوّروا على العيان بتاع الدرس، لا يلقوه لا ميلاقهوش، انت وبختك أنا تحت أمرك، أنا بصراحه يعنى عايز نتكلم بس فى حاجات ماتعطلناش، قلت لك الأول الشغل، وبعدين ننتقل للشكوى، وبعد الشكوى احنا ونصيبنا نشوف هانعمل إيه سوى، أنت لما بنبتدى فى الشكوى ما بِتْخلَّصْشى بتتقلب “محمد نفسية”، إنت من حقك تحكى بما فى ذلك الخبره بتاعة امبارح، لكن مش على حساب الشغل والعلاقة بتاعتنا.
تعقيب: نلاحظ فى هذا المقطع ما يلى:
- إن العلاقة مع الذهانين عامة، وفى مثل حالة محمد التى بدأت منذ كان نزيلا فى القسم الداخلى ثم عضًوا فى الجروب ثم بالمتابعة ينبغى ألا تتحدد بمواعيد ثابتة طول الوقت، وليس معنى ذلك أن تترك مفتوحة فى أى وقت، لكن ينبغى أن تكون مُـحـْكـَمـَة مع قدر مناسب من مساحة سماح مشروطة.
- إن المريض، خاصة إذا كان قد مارس خبرة تنشيط الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى يعمل علاقة بالمكان كجزء من الوعى، حتى بغض النظر عن من يشغل المكان، يصبح عنده كل مَنْ فى المكان – تقريبا- جزءًا من الوعى الجمعى المتضمن وعيه الخاص، بغض النظر أيضا عن كون الموجودين قد شارك فى العلاج الجمعى أم لا.
- إن التذكِرة برفض أن تكون اللقاءات مجرد شكوى وتطمين، أو “شوية صحوبية” مهمة، وقد عاد الطبيب فأكد حذره من العودة إلى المرحلة التى اقترح فيها محمد اسم “محمد نفسية” وقد سبق أن رفض الطبيب نـَفْـسَنـَه العلاقة بينهما، ثم بعد ذلك توثقت العلاقة وتحددت أولوياتها: استمرار العمل – الشكوى – المشاركة.
- ومع ذلك يظل السماح بالحكى وارد كما بدا هنا حين كان الطبيب هو الذى طلب منه أن يكمل ما حكاه أمس.
“محمد”: ما أنا قلت لك
د.يحيى: لأ، إنت قلتها لى باختصار قوى وأنا قلت لك أنا مصدقك لحد ما يبقى فيه وقت، هوّا إيه اللى حصل امبارح؟ كنت فين؟
“محمد”: كنت نايم على السرير
د.يحيى: نايم… نايم؟ ولاّ نُصّ نصّ؟
“محمد”: بس مش نايم صاحى يعنى، لأه، عينى مفتحه كده
د.يحيى: كان الساعة كام ؟
“محمد”: كان بالليل يعنى حوالى الساعة 2
د.يحيى: كانت الدنيا ضالمة يعنى؟
“محمد”: آه
د.يحيى: طب وإش عرفك إنك كنت صاحى؟ مش يمكن نص نص بين النايم والصاحى.
“محمد”: لأ كنت صاحى
د.يحيى: حصل إيه؟
“محمد”: أنا اتخيلت إن أنا مُتّ وباتغسّل
د.يحيى: إنك انت إيه؟
“محمد”: إن أنا مت وباتغسل وكده
د.يحيى: بتتـ … إيه؟
“محمد”: باتغسل عشان اندفن
د.يحيى: لا يا شيخ، البقاء لله
“محمد” (يضحك): آه شوفت نفسى كده
د.يحيى: شعور، ولاّ تخيـُّل
“محمد”: مش عارف، هو كان شعور آه: أنا حسيت بكده يعنى
د.يحيى: طب عملوا إيه فى الغُسل يعنى، قلعوك مثلاً وجابوا ميه وكده، فيه كلام بيتقال ساعتها ودعوات مش عارفها، إيه اللى حصل؟
“محمد”: آه، وأتخيلت برضه إن أنا هنا
د.يحيى: هنا فين بقى؟.؟! اتخيلت ولا شفت؟
“محمد”: إتخيلت إن معايا الست اللى باحبها، وكده وأنا مت وفرشوا عليا الملاية وكده
د.يحيى: فرشوا الملاية قبل الكفن ولا بعد الكفن
“محمد”: ده غير الكفن
د.يحيى: غير الكفن؟ كل ده فين؟
“محمد”: هنا وفى البيت
د.يحيى: هنا فين يا جدع انت؟
“محمد”: هنا وفى البيت
د.يحيى: هنا فين؟ فى المستشفى؟
“محمد”: فى المستشفى آه
د.يحيى: مش فاهم حاجة، يا جدع قول لنا الأحداث واحده واحده، إتخيلت إيه بالظبط أو يعنى عشت إيه؟ إنت عشت ولا اتخيلت؟ كنت نايم كده مفتح عنيك ولا مغمضها
“محمد”: كنت مفتح عينى
د.يحيى: مفتح عنيك يعنى اتخيلت، اتصورت يعنى، يعنى مش حقيقة
“محمد”: آه مش حقيقة ياريت كان حقيقة
نلاحظ ما يلى:
- إن اصرار “محمد” على أنه كان يقظا طول هذه الخبرة مهم وهو ينفى حتى أنه كان يحلم أو أنه كان بين النوم واليقظة، ويشير أيضا إلى النقلة العلاجية ذات الدلالة من الهلوسة إلى تشكيل الخيالات هكذا، ولعل أدق ما يمكن أن يوصف به وعى محمد هو ما أسميناه “وعى الحلم”، لا “وعى اليقظة”، ولا “وعى النوم” ولا “وعى أحلام اليقظة” الذى هو هو “وعى اليقظة”، كما أنه ليس هو أيضا “وعى الذهان”، وكل هذا يدعم المفاجأة التى عشناها وفسرناها بالذات فى لعبة العلاج الجمعى “أعمل حلم”، (نشرة22-9-2010 “نعمل حلم”) و(نشرة 28-7-2013) وغيرها، بمعنى أنها ووعى مختلف فعلاً لكنه حقيقة معيشة، وهى وعى آخر غير كل ذلك.
- إن محمد أحل إرادة التخيل (الخاص: فى وعىٍ خاص) محل تصنيع الهلاوس فى الذهان من (واقع) حقائق داخلية موضوعية، ومع أن الخيالات التى يحكيها تتجسد حتى تصاحبها أحاسيس حسية إلا أنها تظل خيالات .
- اعتاد محمد فى الفترة الأخيرة أن يحكى عن الخيالات الجنسية، التى تأتيه ليس بموافقته تماما، وأيضا هو لا يرفضها بل ويستعيدها بنفس قوة تخليقها، لكنه فى هذه المرة تكلم عن خيالات الموت والكفن بطريقة أعمق وأصدق.
- فى مؤتمر الجمعية العالمية للعلاجات الجماعية (1)، سمعت مقتطفا من رئيسة الجمعية نقلا عن مورينو (رائد السيكودراما) (2)يقول: “نحن نعيش موتنا” وأعتقد أن هذه المقولة لها علاقة بما يحكيه محمد هنا.
- نلاحظ أيضاً كيف أن قدرة محمد على تشكيل خيالاته تكاد تصل إلى نوع من التأليف الإبداعى.
- ربط الموت بالحب وبدرجة أقل بالجنس وصلنى بشكل مميز لهذه الخبرة.
- إن استقباله هذه الخبرة بقبول حسن، بل بالتمنى أن تتحقق “ياريت كان حقيقة” هو مكمل للخيالات الجنسية والغرامية وليس ضدها.
إيقاف قسرى:
توقفت فجأة حين قررت أن تكون نشرة الثلاثاء – غداً– هى آخر حلقة فى حالة “محمد طربقها”: “من حلقات التفكيك إلى التخليق”، وسوف أكمل بعض نفس هذه المقابلة غداً مع مقدمة موجزة لسبب التوقف.
عذرا.
[1] – الذى عقد مؤخرا فى القاهرة فى الفترة من 14 – 17 يناير 2016.
[2] – Jacob Levy Moreno M.D. (1889 – 1974) جاكوب مورينور: رائد العلاج بالسيكودراما