نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 26-1-2016
السنة التاسعة
العدد: 3070
حالات وأحوال (28)
تابع: رحلة التفكيك والتخليق(24)
مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة و”جروب” مصغر (5)
نفس المقدمة:
مازلنا فى نفس المقابلة بتاريخ 9/10/2008، وهى المقابلة التى جمعت مريضا آخر “أحمد” بمحمد طربقها فى نفس اللقاء أمام زملاء أصغر ودارسين دراسات عليا،
وقد توقفنا عند هذا الجزء من الحوار:
…..
…..
د. يحيى: إنت لمّا تبقى موجوع وتعبان وكل حاجة، بس معاك حد تفرق، غير لما تبقى موجوع وتعبان وانت لوحدك، هو ده الفرق يابنى
“أحمد”: صح
د. يحيى: صح.. تانى؟
“أحمد”: معلشى
…..
…..
ثم نكمل القراءة فى نفس المقابلة:
د.يحيى: لو إبتدينا الحياه تانى زى ما بعزم عليك حتى لو كان اللى فاضل منها حتة صغيرة، وترجع تتعب وتتوجع لوحدك ماينفعش، إنما لو انا ومحمد واللى عايز من الجماعة (ويشير للحضور) معاك، يعنى فاكرينك وانت فاكرهم جواك، أقدر أصدّق إن وصل لك حاجة، وربنا يسهل.
“أحمد”: إزاى؟
د.يحيى: يعني اذا استحملت واحده واحده ومحمد معاك وانا معاك، وانت بتشتغل، في الغالب حتصحِّى حتة الحياة اللى فاضلة، وشوية دواء مع ربنا تكبر الحتة واحنا مع بعض، والحكاية حاتمشى
“أحمد”: ماشي
د.يحيي: ما تقولش ماشي وخلاص
“أحمد”: ان شاء الله ان شاء الله
د.يحيي: ما تقولش ان شاء الله بالشكل ده، ما انا قلت لك دى ساعات بتبقى تأجيل ما فيهوش ربنا
“أحمد”: صح
د.يحيى: بصراحة يا أحمد أنا ابتديت أشك أكتر فى “الصحّ” بتاعتك دى
“أحمد”: ليه بس؟!!
د.يحيى: أصل اللى أنا باقولهولك ده صعب جدا، مش عادى، المفروض أطبطب عليك وأعذرك، مش الدكاترة مفروض يعملوا كده برضه!؟
“أحمد”: ما حضرتك بتعمل اللازم أهه
د.يحيي: طب اسمع: إنت معاك حد دلوقتي يا احمد
“أحمد”: من البيت يعنى؟
د.يحيي: لأ دلوقتي في الثانيه دي
“أحمد”: آه
د.يحيي: مين؟ مين معاك دلوقتي؟
“أحمد”: ….. اللعب شغال زي ما هوّا، الأصوات يعنى
د.يحيي: طيب ماشى زى ما بتقول، بس مين معاك بني ادمين لحم ودم، غير اللعب والأصوات
“أحمد”: الدكتور يحيي والدكتور عمرو (1)ومحمد والدكاترة
د.يحيي: بس كفاية، دول ثروة، كفاية، بس يارب يفضلوا معاك
“أحمد”: بس الأصوات لسه
د.يحيى: مافيش مانع سوا سوا بس ماتلغيناش احنا
“محمد”: آه صحيح، هيّا الاصوات دي بتيجي منين
د.يحيي: ما انت عارف، مش اتفقنا إنها من جوّه
“محمد”: ممكن تيجي من عقلي الباطن
د. يحيي: باطن مش باطن، إنت حاترجَع لمحمد “نفسية” تانى، أهى من جوّه وخلاص، خلينا فى الظاهر، وآدى احنا بنتفاهم مع الباطن بشروطنا.
“أحمد”: هوّا لو فضلنا فى الظاهر الأصوات دى تروح
د.يحيي: احنا وشطارتنا
- هذا المقطع يؤكد من جديد البدء باحترام الواقع الداخلى فى محاولة احتوائه، فبدلا من شجب الأصوات (والضلالات والهلاوس المترثبة مثل تسميم الجسد والآلام الناشئة عن السم الواصل فى الغازات إلى “أحمد”) بدلا من ذلك تجرى محاولة “تجنيبها (وضعها على جنب) وفى نفس الوقت تحريك الوعى البينشخصى، وإلى درجة أقل الوعى الثلاثى على خلفية وعى الموجودين من الدارسين، ليحضر كل ذلك مع الأصوات والآلام والسموم بعد إزاحتها من بؤرة الوعى.
- هذه الطريقة لا هى سهلة ولا ممكنة إلى العمق المراد، كما ينبغى ألا تطبق بطريقة سطحية أو روتينية إذ ينبغى على الفاحص فالمعالج أن يكون مقتَنِعا تماما بموضوعية الواقع الداخلى، وأيضا أن يكون قادرا على الحوار غير اللفظى من خلال الوعى البينشخصى.
- ثم يبدو أن استحضار، او تأكيد حضور وعى الآخر (الآخرين) جنبا إلى جنب مع وعى الداخل هو خطوة قد تزيح- إلى درجة ما – التركيز على محاولات الاقناع المنطقى.
- إن استحضار آخرين (من البيت يعنى) بعيدين عن تنشيط هذه المشاركة الحوارية البينشخصية ليس مرفوضا، بل هو دليل على سلامة فكرة أن الوعى الفردى يحتوى وعى الشخوص من حوله(وهذا غير عمل الذاكرة)، وبرغم أن حضور الشخوص العاديين مهم وهو الأبقى، وهو متاح لوقت أطول، إلا أنه لا يقوم بدور حركى توليفى علاجى هادف مثلما يجرى فى هذه المحاولة لكسر الوحدة، ومن ثم المشاركة “فالمواكبة”.
- استعمال لغة التحليل النفسى (عقلى الباطن) ليست مرفوضة، لكننى لاحظت أن استعمال أى لغة جاهزة وشائعة، حتى غير لغة التحليل النفسى، مثل ذكر التشخيص الطبى (خاصة بالانجليزية) أو ذكر الشكوى بلغة الأعراض التى سمعها من طبيب آخر أو قرأ عنها، لاحظت أن أيا من ذلك إنما يستجلب ما وراءه من منظومات فكرية جاهزة، قد تبعدنا عن اللحظة الراهنة، وعن نبض وتلقائية التواصل عبر الوعى البينشخصى هذا بالمقارنة باستعمال تعبيرات عامة وبسيطة مثل ما ذُكِرَ هنا أنه: “من جوّه وخلاص”.
- أخيرا فإن تساؤل “أحمد” المباشر (مع تعليمه شديد التواضع وثقافته بالغة البساطة)، حين يَسْأل: “هوّا لو فِضلنا فى الظاهر الأصوات حاتروح”؟: هو تساؤل فى محله، وهو الدور الذى يؤدية العلاج التقليدى الذى يرفض عادة فكرة الاعتراف بواقعية الداخل، وبالتالى برفض حقه فى الانكشاف أو الظهور أصلا، ويُتعامل معه بالإنكار ثم بالتثبيط، وحتى إذا اعترف بانبعاثه من نشاط الوعى الأقدم الشاطح المخترِق، فإن العلاج التقليدى يحاول أن يشل حركته تماما بالنيورلينات الجسيمة التى قد تهمد كل مستويات الحركة أحيانا، كل ذلك يكون هدفه أولا وأخيرا هو التثبيط لمستويات الوعى الأقدم، وهو التثبيط الذى قد يمتد إلى كل مستويات الوعى حتى التى نريد أن تستعيد نشاطها.
- وأخيرا نلاحظ ضرورة الاهتمام – بجوار شكوى المريض وعدميته وتَسْليِمه – وجود أى نبض حياتىّ مهما كان ضئيلا، وأيضا احترام أى وصول لجزء من رسائل الوعى ولو لثوان أو لبضع ثانية، فهذه هى الثروة الحقيقية للبدايات الممكنة، التى لا يمكن رصدها بالملاحظة، كما لا يمكن-فى نفس الوقت- إنكار آثارها.
وبعد
ابتداء من هنا بدأ الحوار ينتقل إلى الأطباء الحاضرين للدرس بالشرح والتفسير فى حضور محمد وأحمد وهما يشاركان أحيانا فى اقرار ما يشرحه الأستاذ، حتى يصل الأمر إلى أن يشرح أحدهما للأطباء بعض ما أريد توصيله، وقد رأيت أن أستغنى عن هذا الجزء لما فيه من مقارنة بين وعى المريضيْن وقبولهما التفسيرات النَّفْسِمَراضية وبين بطء التلقى عند معظم الحاضرين وأحيانا فرط دفاعاتهم مما قد يجرح بعضهم دون قصد.
خلاصة عامة وتوصيات:
مع أن التوصيات التالية تبدو عامة بشكل أو بآخر إلا أنها حضرتنى من خلال هذه المقابلة مسلسلة محددة ففضلت أن أختم بها تعقيباتى على هذا اللقاء.
1) لابد من التذكرة بأن مثل هذا الحوار الكاشف للنفسمراضية بهذه الطريقة المباشرة، ليس ممكنا دائما، وليس مطلوبا على طول الخط
2) وأيضا التنبيه على أن مثل ذلك مهما بلغ صدقه، مهما بدت موافقة المريض جاهزة ومناسبة ومتفقة مع الإمراضية هو فى نهاية المطاف، ليس إلا مجرد البداية.
3) فالأمر يحتاج إلى ترجمة كل “رؤية” إلى “فعل” يمكن اختبار نتائجه فى زمن محدد وممتد معا، مع تواصل دعم طبيب مسئول مثابر لا يركز على مزيد من الشرح، لكن يواصل “المواكبة”.
4) ثم إنه ينبغى الاستعداد للتوقف فى أى مرحلة يستطيعها المريض دون تعجل الخطوات حسب ما يفرضه الواقع.
5) ويجرى مع ذلك فى نفس الوقت الدعم بالنيورلبتات بالطريقة المناسبة زيادة ونقصا مع تطور الحالة وخطوات التأهيل، كما قد تستعمل جلسات إعادة تشغيل المخ (= تنظيم إيقاع الدماغ= سابقا الجلسات الكهربية) لإعطاء الفرصة ليبدأ المخ من جديد بناء نفسه، كل ذلك وارد وعلمى ويحسب حسب خطوات التقدم والإعاقة، وكثيرا ما يفك العرقلة ويخفف من المقاومة، على أن يجرى ذلك مع استمرار العلاقة العلاجية المرنة البناءة طول الوقت.
6) يستحسن عدم العودة إلى تفسيرات سيكوباثولوجية إلا إذا عاودت المريض الأعراض أو ظهرت أعراض جديدة وتَطَلَّب الامر الاستجابة للمريض إذا حرص على مثل ذلك.
7) أثناء التأهيل والمتابعة يعطى المريض بيانات بالعلامات المنذرة لاحتمالات بداية النكسة لإمكان إجهاضها مبكرا أنجح وأسرع.
8) كما يوصى المعالج الأهل وكل المساعدين فى محيط المريض بتوصيات مساعدة محددة، مثل عدم التكلم بلغة نفسية (راجع محمد نفسية نشرة:30-11-2015)، أو اجترار الماضى، أو التوقف فجأة عن الأدوية بدون إذن الطبيب، أو التوقف عن العمل… الخ.
9) ألا يعتبر المعالج اختفاء الأعراض هو نهاية المطاف إذ يجرى قياس محكات التعافى، بالعمل والنوم والعلاقات والانتاج المناسب لتاريخ المريض ومهاراته.
10) أن تكون الإشارة إلى التوازن مع والامتداد فى الوعى المطلق، غير مباشرة، مع أهميتها فى ثقافتنا خاصة التى تركز على أن الله هو الشافى، تكون بطريقة غير تقليدية بعيدة عن الترهيب والترغيب فى تواصل مع دوائر الوعى الممتدة دون ذكر ذلك بالألفاظ.
وبعد
بمراجعة هذه التوصيات العشر وجدت أنها تصلح لترشيد المعالج بصفة عامة وخاصة فى ثقافتنا وخاصة مع الذهانيين الذين تبدأ العلاقة بهم من منطلق النفسمراضية ولو من أول مقابلة (أحمد هنا) ومحمد نشرة 12/1/2016، وقد فكرت أن أطبق هذه التوصيات والمبادئ على هذه الحالات تحديدا، لكننى وجدت أن الأمر يحتاج إلى متابعة طويلة ليس بين يدى الآن ما يدعمها.
فاكتبت بهذا التعميم وشكراً
والآن.
[1]- هو الطبيب المقيم الذى قدّم الحالة للدرس