نشرة “الإنسان والتطور”
الاثنين: 25-1-2016
السنة التاسعة
العدد: 3069
حالات وأحوال (27)
تابع: رحلة التفكيك والتخليق(23)
مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة و”جروب” مصغر (4)
نفس المقدمة:
مازلنا فى نفس المقابلة بتاريخ 9/10/2008، وهى المقابلة التى جمعت مريضا آخر “أحمد” بمحمد طربقها فى نفس اللقاء أمام زملاء أصغر ودارسين دراسات عليا،
وقد توقفنا عند هذا الجزء من الحوار:
…..
…..
أحمد”(المريض): احنا مين؟
د. يحيى: احنا كلنا، احنا التلاتة، وبعدين احنا كلنا
“أحمد” (المريض): بس انا خِلـِصْت، كنت باسافر ليبيا والامارات وشَقَى وباكسب، بس دلوقتى خلاص
د. يحيى: إحنا كل ما بنخلَّص بنبتدى، حتى أسأل محمد
“محمد” (طربقها): صدق يا أحمد صدّق، هوّا احنا قدامنا غير كده
……
……
ثم نكمل القراءة فى نفس المقابلة:
د. يحيى: إنت عارف يا احمد لو ركزنا على الحتة اللى لسه عايشة فيك دى يمكن تدب فيك الحياة واحنا سَوَى سَوَى
“أحمد” : يعنى إيه ؟ا
د. يحيى: أنا مش عايز أصعَّبْهَا لك، يعنى تعيش وتكمِّل، وما تشتكيش عمال على بطال واحنا معاك
“أحمد”: هِـيـَّا بإيدى ؟
د. يحيى: بصراحة آه، أنا مش بالومك، بس الشقا والغـُرْبـَة والوِحـْدة خلّوك تنسحب وتهرب فى اللى انت فيه ده
“أحمد”: صح
د.يحيى: بس خلاص، نبتدى بإنك بتعترف إنك إنت إللى بقيت مش عاوز الحياه تدب فيك وإنك مش قدّها
“أحمد”: ده كلام صحيح، آه
د.يحيى: الله يفتح عليك طب لما هو صح وحصل، وحايودينا فى ستين داهيه، نعمل فيه إيه؟
“أحمد”: مش عارف
د.يحيى: أهِى هىّ دى البداية، ولا تقول لى أصوات وما أصوتش، والعيال بيضايقونى والكلام اللى انت جَىْ بيه ده، الحياه مسؤلية وبرضه خطر، بس نعمة من ربنا!!، نعيد النظر يمكن اللى إحنا فيه ده رغم إن هو ترييحه، بس بتخسَّرْ، بتخسر جامد، ومادام قلت صح يبقى ناخد فرصة نعيد النظر وتشوف خـَسـَّرتْ قد إيه، ونفعت ولا مانفعتش
“أحمد”: ماشى
د.يحيى: موافق بجد؟!؟!
“أحمد”: موافق
د.يحيى: طب أيه رأيك أنا مصدّقك، بس حانبتدى بالصعب
“أحمد”: اللى هوّا إيه؟
د.يحيى: هاتشتغل وانت عيان، وانت ميت، وانت بتسمع أصوات، بس تركنها على جنب وتشتغل.
“أحمد”: إزاى؟
د.يحيى: زى الطلمبة عندكم فى البلد زمان لما تصفـّر وما تجبيش ميّه، انت كنت بِتْعـمَّرْها إزاى؟
“أحمد”: كنت أقعد أدوّرها وأنا باحط فيها شوية ميه من فوق لحد ما هُبْ تروح المية طالعة
د.يحيى: يعنى كنت بتدورها على الفاضى
“أحمد”: أيوه
د.يحيى: بتعمرها بشوية ميه من برّاها كده لحد ما الجلد يطرى تروح تقلانه فى إيدك وهُبْ تروح مطلَّعَهْ ميه
“أحمد”: أيوه تمام
د. يحيى: أهو الشغل اللى حانبتدى بيه هوه كده، تشتغل وانت مش قادر، وانت مش عايز شبه الكلام ده عن الطلمبة، يعنى تقعد تشتغل على الفاضى، انشاالله وانت ميت، وأنا ومحمد نزقك زى ما نكون بنحط لك نـَفـَسنْا تطرِّى بيه حركتك، وهبْ تلاقى الحركة راحت دابّه فيك، وبعديها نعيش زى ربنا ما خلقنا.
“أحمد”: كدهه؟
د.يحيى: آه، عرفت بقى أنا بقول لك ليه نبدأ من الشغل، مش عشان انت بتدلع أو عايز أتعبك زى زمان، لأ عشان تتعمر زى الطلمبة عالبركة
تعقيب:
تكرر معى مثل هذا الحوار فى مثل هذه الحالة، وفى كثير من الحالات وخاصة الذهانيين، وأعتقد أننى أوضحت هذه الفكرة من قبل بشكل تنظيرى مباشر وكلما عرجت إلى مبدأ أن قرار الجنون هو اختيار أعمق، وأن البداية من هذه النقطة- دون اتهام – هى التى تسمح للمريض – الذهانى خاصة – أن يعيد النظر فى اختياره، إذا وصلته الفكرة باحترام دون اتهام أصلاً
مرة أخرى: إن من يختار المرض يستطيع أن بعيد النظر فى اختياره، وهو يختار الصحة فى ظروف مختلفة عن تلك الظروف التى اختار فيها الحل المرضى، والبداية كما نرى تبدأ من تعميق الاختيار الأول لكشفه وليس مجرد رفضه، كما يحدث فى العلاج الجشتالتى الجمعى خاصة حين نحدد “الشكل” ونعمّقه فتتحدد “الأرضية” بالتالى، حتى يمكن الانتقال إليها وهكذا بالتوالى حتى نختار.
هذه الفكرة وهذا الاسلوب، يرفضه تماما الأشخاص العاديون وكذلك مرضى العصاب، وبدرجة أقل أغلب حالات اضطراب الشخصية نتيجة حدّة وثبات الميكانزمات الدفاعية التى تخفى الاختيار الداخلى، أما عند الذهانيين، فبمجرد أن تنتقل قنوات التواصل من “الحوار اللفظى والمناقشة” إلى تنشيط الوعى البينشخصى، فإن استقبال اقتراح اختبار احتمال اختيار الحل المرضى وبالتالى يكون أسهل فى التقبل، ومن هنا تكون البداية.
ونلاحظ هنا أيضا مبادرة “احمد” بهذه الاجابة القصيرة الدالة “صح” ولا يوجد مبرر من العاديين (بما فى ذلك قراء هذا الكلام) للاصرار على اعتبار هذه “الصح” نتيجة للايحاء السطحى كما يزعم أغلب المتمسكين بدفاعتهم الشخصية.
الخطوة التالية التى تتلو الإشارة إلى دور المريض فى اختيار هذا الحل هى تعرية وتعميق اختياره هذا حتى يدرك من واقع التحقق الآنى وإعادة النظر المحتمل أنه لم يكن حلاَّ، أو أنه حل فاشل حيث الحق به خسارة أكبر من تلك التى هرب منها باللجوء إليه فى صورة المرض.
هنا ينبغى التوقف عن التمادى فى مناقشة المريض أو محاولة إقناعه أو التأكد من مصداقية إجاباته، ذلك أن أى حوار كلامى بعد ذلك ينشط الدفاعات، وقد يـُرجع المريض عن موافقته المبدئية، لذلك سارع الطبيب بانتهاز الفرصة للبدء من حفز الحركة الممكنة، لا من الكلام عن الندم على اختيار الفشل والمرض، وكأنه يواصل التقدم مع المريض إلى “إذن ماذا”؟ ولابد أن نتوقع تراجع المريض بعد مغادرته المقابلة، وبدء تنفيذ التكليف (التأهيل) ولهذا يحتاج الأمر إلى دعم الاتفاق ممّن يهمه الأمر من ذويه أو محبيه أو معارفه المسئولين، وأيضا أن يتواصل الحوار للوعى البينشخصى فى المقابلات التالية لاحتواء التراجع مع احترام الصعوبة
ثم نواصل:
“أحمد”: علشان جسم الإنسان ينشط يعنى
د.يحيى: لأ مش مسألة ينشط، هيا مش رياضة، دا عشان تحس أنك عايش وبتعمل حاجة غصبن عن الأصوات والكلام ده، واحنا معاك
“محمد”: بس خلى بالك أوعى تنسى وتطربقها تيجى على دماغك
“أحمد”: أطربقها يعنى إيه؟
د.يحيى: يعنى تقعد تشتغل سخرة زى زمان وتنسى نفسك، ما هو محمد سمُّوه “طربقها” عشان كده، قعد مصدّق وهات يا طربقها وهات يا سخرة لحد ما انكسر
“محمد” (للطبيب): بس أنا عاوزك إنت تعرف بس اللى انا فيه دلوقتى
د.يحيى: وبلاش نكمل مع أحمد يعنى؟ كده برضه يا محمد!
تعقيب:
نلاحظ فى هذا المقطع ما يلى:
- استجابة احمد التى تبعدنا رويدا رويدا عن احتمالات تفسيرها بالايحاء وبتأثير شخصية الطبيب وخاصة ونحن نتابع تساؤلاته واستيضاحاته مثل “اللى هوّا إيه؟ إزى”؟
- أن التركيز على شكوى المريض واستعادة وصف الأعراض غير موجود إلا تلميحا ورفضا، حيث تم الانتقال إلى “إذن ماذا” بشكل ناعم استجاب له المريض ولو نسبيا، ولو من حيث المبدأ.
- أن المثال الذى طرح لتفسير خطوات العلاج هو نابع من البيئة المباشرة للمريض، مع أننى كنت مستبعدا أن تكون مثل هذه الطلمبات مازالت نستعمل فى الريف الآن، لكننى فوجئت وفرحت أنه ألتقط المثال والتشبيه وكان يمارسه، وأحيانا أبحث عن تشبيه مقابل لمن يعمل فى المدن مثل تدوير السيارة بالمانيفلا إذا نامت البطارية، الأمر الذى ما عاد يصلح أصلا بعد ندرة – بل انعدام- استعمال المانيفلا فى العربات حتى القديمة جدا، كل ذلك ربما يؤكد التزامى بالانتقال بأسرع ما يمكن إلى “إذن ماذا” دون التوقف عند “لماذا”، ويزداد يقينى كيف أن ما شاع عن البحث عن الأسباب (مهما كانت حقيقية) هو معطل مادامت الأسباب ليست مُـديمة ([1]) أى مسئولة عن استمرار المرض وتثبيت الأعراض حاليا.
- أن ثم فرق بين طلب (وأحيانا أمر) الطبيب للمريض بالعمل لاسترجاع حركية الحياة، وبين سابق تسخيره للعمل وحيدا،
- أن المسألة ليست “رياضية بدنية” أو تنشيط صحى لعضلات الجسد، وإنما هى تحريك الوعى بدءا بتحريك الجسد.
- أن من أهم الفروق التى تبين أن التكليف بالعمل فى هذا السياق الجديد يختلف عن سابق الاغتراب والقهر هو أن السخرة (سواء فى حالة محمد طربقها أم حالة احمد) كانت تصل إليه وهو وحيد منهك مُسْتَعمل، فى حين أن حضور المعالج وأيضا محمد طربقها ليس فقط بجوار المريض (وأنا ومحمد نزقك زى ما نكون بنحط نَـفَـسْنا فى الطلمبة)، وإنما فى وعيه معا، يلغى المسافة ويكسر الوحدة ويحرك التواصل البينشخصى (ثم يتداخل محمد بشأن نفسه فجأة قائلا:)
“محمد(للدكتور): إنت مش عارف اللى جد جديد مش أنا قولت لك المسألة ما بقتش طربقها وبس
د.يحيى: انت عايز إيه يا بوحميد بلاش نكمل مع محمد يعنى، قول له حاجة يا أخى
“محمد”: أقول له بمناسبة إيه
د.يحيى: بمناسبة إن احنا بنزقه سوا عشان يبتدى من جديد
“محمد”: بـُصّ يا أحمد وأنا ماشى فى الشارع بصيت لواحده
د.يحيى: بص له يا أحمد علشان تشوف وشه منور أد إيه وهو بيحكى على جنون صنف تانى بعد ما بقى خيالات
“محمد” (يكمل): بصيت لواحده رحت متخيل إنى أنا نايم معاها على السرير وبجامع وبتاع وأوضاع ومش عارف إيه
د.يحيى: شفت الجنون التانى ده يا أحمد لذيذ أزاى
“محمد”: ده كل ده فى خيالى وأنا ماشى، ده فى خيالى مش حقيقه
“أحمد”: ممكن؟!!
د.يحيى: أهو ده يا أحمد خيال لذيذ حل محل الجنون لما كان محمد جى فى الأول كان بيقول زيك اصوات، واضطهاد وكلام من ده، ياريت تاخد بالك إن الحاجات لما نكتشف إنها جوّانا ونقبلها ونترجمها نديها فرصة انها تتحول
“أحمد”: إزاى؟
د.يحيى: يعنى يمكن تلاقى حاجة حلوة تحل محل الإشعاع المسموم والكلام ده كتك نيله
“أحمد”: كل شىء جايز يادكتور
د.يحيى: الظاهر يا أحمد محمد عنده إشعاع برضه بس مش مسموم
“محمد”: (لأحمد) أنا عاوز أعرف بقى الحاجات ديه بقى جاتلى منين
“أحمد”: الله أعلم
د.يحيى: انت عارف يا أحمد ساعة ما قلت لى “صح” كنت بتقول على إيه
“أحمد”: بصراحة أنا قولت صح وانا مش واخد بالى
د. يحيى: أحسن !!
“أحمد”: أحسن إزاى
د. يحيى: ماهو لمّا ما تأخدش بالك، قوم بالك اللى جوّاك يا خد باله هوّا، ياترى ايه اللى وصل لك ساعتها؟
“أحمد”: ازاى
د.يحيى: هوّ إيه اللى وصل لك لما أنا كنت بشرح لك حاجه كده رحت انت قايل صح
“أحمد”: وصلنى إن حضرتك عالم 100 %
د.يحيى: حضرتى إيه؟!!
“أحمد”: عالم كبير يعنى
د.يحيى: حاعمل إيه بالعلم الكبير إذا مكنتش حاخفف بيه العيانيين
“أحمد”: حضرتك حددت الموضوع بالظبط
د.يحيى: إحتمال، بس لو ماكنش يترتب على ده يابنى حاجه لصالحك مالوش لازمة التحديد
“أحمد”: صح
د.يحيى: والله أنا بقيت أخاف من “الصح” بتاعتك دى وهى بتكرر كده
“أحمد”: لأه، أنا باقول صح بصحيح
د. يحيى: يعنى أكمـِّل؟
“أحمد”: أيوه
د. يحيى: يعنى لازم العلم بتاعى والرؤيه ديه نقدر أنا وإنت ومحمد نعمل منها حاجه لك، يعنى لينا، بجد والله
“أحمد”: ايوه
د.يحيى: مهما كانت صعبه يابنى، عارف محمد لما كنت باقوله كلام زى كده فى الأول، كان ولا هوّا هنا، وبعدين لما بقى معانا بقى بيفهم ويستحمل الوجع
“أحمد”: إزاى
د. يحيى: إنت لمّا تبقى موجوع وتعبان وكل حاجة، بس معاك حد تفرق غير لما تبقى موجوع وتعبان وانت لوحدك، هو ده الفرق يابنى
“أحمد”: صح
د. يحيى: تانى؟
“أحمد”: معلشى
تعقيب:
نلاحظ فى هذا المقطع ما يلى:
- لأنه بمثابة “حروب” مصغر، فإن تدخل محمد (طربقها): يعتبر مشروعا حيث من ضمن قواعد العلاج الجمعى (كما نمارسه) أنه مسموح المقاطعة دون استئذان، وعلى قائد المجموعة (المعالج) أن يقبل أو يتصرف حسب مدى تأثير مثل هذه المقاطعة فى الجارى، وقد نقبل المقاطعة حتى لو لم نكن فى سياق الجارى لأننى لاحظت أن هذا من علامات تقاطع الوعى البينشخصى حالة كونه يقوم بالاسهام فى تخليق الوعى الجمعى.
- المقاطعة هنا كانت خارج سياق الحوار مع أحمد تماما، ومع ذلك:
- فقد قام الطبيب بتحويل ما بدا كأنه شكوى جديدة لمحمد، تحويلها إلى احمد، ليس ليشكو له ولكن ربما تذكره بوجوده، وأيضا دعوة لمحمد بالمشاركة فيما يحاوله الطبيب (إن احنا بنزقه سوا عشان يبتدى).
- لم يتردد محمد فى مخاطبة احمد وحكى خيالاته الجديدة التى حلت محل الهلوسة مع مسيرة العلاج.
- إن دعوة (عزومة) الطبيب لأحمد أن يستبدل بهلوسته وضلالاته وآلامه الاشعاع، يستبدلها بخيالات لذّيه مثل أحمد، يمكن أن تكون إشارة غير مباشرة لهما معا (دور كل منهما فى تشكيل الأعراض وهو ما ناقشناه فى أول النشرة عن الاختيار) (وفى نفس الوقت من الممكن أن تساعد فى جعل الداخل فى المتناول بعد أن تنجح خلخلته، وهكذا تصبح الأعراض فى المتناول تمهيدا لاستيعابها بالتدريج بعد أن يحل الخيال محل الهلوسة كما حدث مع محمد.
- لا خوف من أن تزيد إمراضية احمد بهذا الأسلوب حيث أنه تحريك الداخل ليصبح فى المتناول كما يحدث فى العلاج الجمعى أحيانا.
وبعد
مازلنا فى نفس المقابلة التى أرجو أن تنتهى غدًا حتى لو اختصرناها
نعود نكمل حالة محمد طربقها إذا شئتم.
[1] – Perpetuating