نشرة “الإنسان والتطور”
الاربعاء: 2-7-2014
السنة السابعة
العدد: 2497
جهاد الحرية، ووجبات الديمقراطية السريعة (1)
نحن نعيش فى عصر الملابس الجاهزة، والوجبات السريعة، والعقائد الجاهزة، والأيديولوجيات المستوردة ، ويبدو أنه على كل إنسان اليوم، وخصوصا فى مصر المحروسة، وخاصة الشباب بعد أن لاحت له فرصة تذوق شىء اسمه الحرية، أن يجرب أنواع الحرية المعروضة، حتى لا يقع فى أصناف مغشوشة أو مسمومة، دعونا ندعوه إلى التعرف على هذا الصنف النادر، الذى تصنّع منه بقية الأصناف ويظل هو الأصل، وأعنى: الحرية الفكرية.
إن أغلب من يريد أن يتكلم هذه اللغة المشهورة، وهو يستعمل هذه الكلمة البراقة “الحرية”، أو حتى يتذوق هذه الوجبة الشهية ذات البهارات الحارقة، يبدأ للأسف بأن يتوجه إلى “سوق الأفكار الحرة” ويطلب الفكرة أو العقيدة التى على مقاس عقله، ثم يحاول تهريبها من جمرك المسئولية، أما إذا تجرأ – لا سمح الله وفكر بنفسه لنفسه فكرة “كِدا.. أو كِدا”، أو تشجع وألـّف بين مذهب كذا وعقيدة كيت، فهذا هو الشر المستطير وبئس المصير.
لقد أصبح تصنيف الفكر إلى فكر حر وفكر غير حر تصنيفا مضحكا، لأن أصحاب الأفكار الحرة قد علقوا لافتات “التقدمية” و”الثورية” “وحقوق الإنسان المكتوبة”، ونسوا فى غمرة حماسهم وتصنيفهم للآخرين أن الفكر لا يصبح حرا بمجرد أن يتقولب أو يحمل لافتة خاصة، بل إن الفكر لا يصبح فكرا إذا لم يكن حرا، وعلى الجانب الآخر نجد التقليديين الذين لم يدّعوا الحرية بشكل خاص مباشر نجدهم أكثر تواضعا، إلا أنهم قالوها صريحة بلا التواء أنه “ليس فى الأفكار ابدع مما صار”، فكان لزاما إذن على من يهمه الأمر أن يسرع بحفر القبور للأفكار الجديدة الوليدة التى لاتنتمى إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لندفنها حية ناسين العار الذى سيحملنا إياه التاريخ: وإذا الفكرة سُئلت، بأى ذنب قبرت.
ولأضرب لذلك مثلا من مهنتى حيث يوجد عرَضٌ مرضىّ نسميه “الأفكار شبه الفلسفية”، وفى تدريسى لطلبتى أقول إن الواحد منا لكى يعرف ما هى الأفكار “شبه” الفلسفية – حتى يحق له أن يحكم على “عادل” أنه مريض، وعلى “سعاد” أنها ليست كذلك، لابد وأن يعرف ماهى الأفكار الفلسفية، ويرفض الطلبة والزملاء أو يعجزون عن الخوض فى هذا الموضوع، لأنهم لا يعرفون ماهية الفلسفة الحقيقية، وما هو دورها، ولكنهم فى نفس الوقت لا يرفضون الحكم على أفكار الناس بمقياس أسهل يقول: “إن من يختلف فكره عن فكرى لدرجة لا أفهمها.. ويكون أصغر منى سلطة أو قدرة.. ولم يحظ بعد بحق النشر المموّل من محتكرى حق التفكير ومن خصوم الأفكار الجديدة.. فهو يخرّف.. إلى أن يثبت العكس”.. يصدر هذا الحكم ولا تترك الفرصة ليثبت العكس.. لأن إكرام الأفكار المرفوضة موتها والإسراع بدفنها!!
أتأمل هذه القاعدة فلا أجدها مقصورة على الطبيب النفسى الصغير، ولكنى أرى فرق مجتمعنا المعاصر – بما فى ذلك الثوريين الجدد – وهى تقف فى وضع إستعداد فائق تحمل قوالب التصنيف لكل فكرة جديدة، وتتساوى فى فاعليتها قوالب الفكر السلفى الجامد، أو الثورى المتشنج، أو الفكر الرسمى الوصى (بسلطة الدولة أو بغيرها) وأخيرا الفكر العلمى المهيب بباروكته الشهباء، وياقته البيضاء، فوق منصة المجلس الحسبى التجريبي.
وإذا كان هؤلاء الأوصياء الجدد من كل جانب قد أصبحوا هم رؤساء قبائل الجاهلية الجديدة، فعلينا أن نعيد النظر فى سلطاتهم غير المحدودة بما يملكون من وسائل النشر، والقرش، والكيمياء، والسلطة والعقائد، ولكن كيف؟ إن المسألة تحتاج إلى ثورة عالمية، وإيمان بلا حدود.
إن الوقوف أمام أزمة تعريف الحرية لم يعد مشكلة مكتبية نظرية. أو مشكلة اقتصادية معاصرة، وإنما أصبحت مشكلة يومية للفرد العادي، فقد أصبح القهر الداخلى الذى يسجن داخله العقل البشرى نتيجة للخوف الشامل وغسيل المخ المنتظم بالإعلام الزاحف والكيمياء النشطة، أصبح أكبر من الاحتمال وأخطر من السكوت عليه، ولابد أن ندرك بداهةً أنه أشد وطأة وأخطر من القهر الخارجي، إذن فيستحيل أن يستمر ذلك لأن إنسان العصر، وإنسان مصر خاصة فى هذه المرحلة، هو أحوج ما يكون إلى الأفكار الجديدة والمواقف الابداعية الخلاقة، ولا يمكن أن يـُثرى أى مجال من مجالات الثقافة والتعليم، بل والاقتصاد والاستقلال، إلا بدرجة حقيقية من السماح لمثل هذه الافكار الوليدة، دون الاسراع بوأدها أولا بأول بكل وسائل القمع القديمة والجديدة، من أول رفض الإبداع فى الاجتهاد الدينى، حتى الحكم بالهرطقة على من يخالف دين الديمقراطية المستوردة من المتنبيين الجدد، أو دين العلم المؤسسى باهظ التكاليف.
وبعد..
لعلنا فى حاجة الى معايشة الحرية أكثر من إدعائها والتغنى بها وإستغلال بعضنا البعض تحت شعارها، وكل ذلك يحتاج الى عدل مطلق، وجهاد مستمر وشجاعة فكرية ومبدعين فى كل المجالات دون استثناء.
[1] – تم نشر هذا المقال فى موقع اليوم السابع، بتاريخ: 24-4-2014