نشرت فى الاهرام
12-6-2006
جلد الذات.. إلي متي؟
الخامس من يونيو، اليوم.. هل من سبيل إلي حذف هذا اليوم من التاريخ؟.. أو علي الأقل أن يطل علينا كل عدة سنوات مثل يوم29 فبراير؟
أنا أستاذ جامعي منذ أكثر من ثلاثين عاما، أعلم ما آلت إليه جامعاتنا سواء في التدريس أو البحث العلمي، ناهيك عن الإبداع والنشر العالمي، فحين أنبه إلي ضرورة التوقف عن جلد الذات بهذه الصرخات الحزينة، والتعليقات الساخرة ونحن نناقش موقع ترتيب جامعاتنا بين جامعات العالم، لا أدافع عن إنجازات وهمية أو أزعم أن ظلما قد وقع علينا بهذا الترتيب المتدني، فأنا أعلم تمام العلم أننا لم نصل حتي إلي المرتبة التي وضعونا فيها..
برغم كل ذلك فإنني أرفض هذا الجلد المتلاحق للذات لأنه يعطلنا أكثر فأكثر.. هل ثم سبيل آخر لمواجهة هذا الواقع المر؟
إذا كانوا هم يسيرون بسرعة خمسين كيلومترا في الساعة( أو في الثانية) فنحن نسير بسرعة خمسين مترا في اليوم أو في السنة.. فالمسافة تزيد باطراد مادمنا علي نفس الطريق بنفس النظام، نقاس بنفس المقاييس. علينا، إذن، أن نتوقع أن يتراجع ترتيبنا باستمرار سواء فيما هو دون صفر المونديال، أو ترتيب الجامعات أو عضوية مجلس المنظمة الدولية الجديدة لحقوق الإنسان.. إلخ.
ومع ذلك فقد يحق لنا أن نتعاطي بعض المسكنات ـ لا المخدرات ـ ونحن ننفخ في إنجاز شاب مصري حقق بطولة في الاسكواش أو في المصارعة، أو حين نتملي تيها في النظر إلي عضلات فتاة مصرية صغيرة ترفع الأثقال، أو نتيه فرحا بكأس الأمم الإفريقية، وننسي أنها إنجازات محدودة متباعدة وفردية غالبا. هذا التسكين ـ علي أي حال ـ هو أفضل من أن نستغرق في اتهامهم بأنهم السبب في تخلفنا الذي نصر عليه، وكأنه غاية في ذاته، نبرر به شعورنا بالاضطهاد والمؤامرة.
السبيل الآخر، مهما بدا هروبا أو تبريرا أو صعبا، يبدأ بمراجعة المقاييس التي قيموا بها ترتيب الجامعات( كان آخرها الترتيب الصيني: جامعة شنغهاي)، فنلاحظ أن المعايير الموضوعة قد لا تكون أنسب المعايير التي علينا أن نحرص عليها للوفاء بشروطهم، لأن كثيرا منها مقول بالتشكيك، من أول شرط النشر العالمي حتي جائزة نوبل نفسها.
واقع النقد المنهجي الجاري علي مستوي العالم، ومن الشرفاء عندهم قبلنا، ينبه بأن العلم أخطر وأنبل وأهم من أن يترك للعلماء، وأن المعرفة أكبر من العلم وأشمل. لم يعد التقدم المأمول، من البشر وللبشر، مهمة الجامعات ومراكز الأبحاث دون سائر الناس، الشخص العادي مدعو عبر العالم للإسهام في توسيع وسائل وأدوات المعرفة، بل في توجيه مسار وعطاء العلماء. أغلب العلماء الآن ـ في كثير من بقاع العالم ـ بوعي أو بغير وعي، يستعملون لأغراض غير علمية،
حتي وصل الأمر في بعض المجالات( السلاح والدواء مثلا) إلي أن يبرمجوا كوقود للسعار الكمي، والحياة الاغترابية والمزيد من العملقة الاحتكارية علي حساب تطور الإنسان كنوع، له كل هذا التاريخ الرائع.
أنا لا أنكر قيمة ودقة المقاييس السائدة، لكنني أنبه إلي ضرورة البحث عن طريق آخر، هو بالضرورة أصعب جدا، طريق ألمحت إليه مرارا قبل ذلك، طريق يبين كيف يمكن أن نستلهم من ثقافتنا وتاريخنا، وتاريخ الإنسان، ما يهدينا إلي منهج آخر، وسبيل آخر، وقيم أخري، ومقاييس أخري، ونوعية للحياة مختلفة، لعلهم أحوج ما يكونون إليها معنا، ومثلنا، طول الوقت.
أمل بعيد، لكن بغيره، لن نحقق حتي أن نكون أدوات مصقولة، تقع في قاع جراب الآلات التي يشحذونها لتحقيق أغراض مغتربة، لم يعلن عن تفاصيلها، بخبث أو بغفلة.
الدعوة عامة، والتحدي شامل، والأمل قائم، وفرض المعرفة هو فرض عين علي كل واحد من البشر علي ظهر الأرض دون استثناء. هذا هو شرف الوجود وغايته معا.. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا.