نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 11-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3936
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل ابتداء من اليوم نشر فصول رواية “الواقعة” تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) كما أشرنا أمس مؤجلين مواصلة عرض ما تيسر من النقد المقارن بين “لحس العتب” لخيرى شلبى و”قنديل أم هاشم” ليحيى حقى.
وهذا هو الفصل السابع
*****
(رواية “الواقعة”) (1)
الجزء الأول: من ثلاثية “المشى على الصراط”
الفصل السابع:
“وبالناس المسرة”
طوال الطريق أثناء عودتى وأنا أحس بشعور جديد بزحف علىّ حتى غمرنى بثقل لا عهد لى به، منذ نفخ فى الصور ووقعت الواقعة عرفت الضياع والألم والنشوة والسخرية والحيرة ولكنى لم أواجه بمثل هذا الشعور الجديد قبل ذلك، بمثل هذه الصورة، شعور أعمق من الحزن وأخبث من اليأس، لم أكن أطمع وأنا ذاهب لأمى إلا أن أطمئن على حياتها أو موتها سيان، ما وجدت نفسى فيه من مواجهة لأصلى أغرانى أن أرجع إليه لعلى أرتاح حياة سهلة تلقائية، حياة تقدم لك أجوبة حاسمة تلغى الأسئلة الحائرة قبل أن تظهر، تسليم بالأمر الواقع وإصرار عليه وكأنه من صنعهم هم دون سواهم، ماذا يحدث لو أنى أصبحت إنسانا منهم أو حيوانا أو نباتا أو حتى شاهد قبر كان لابد ليتحقق ذلك أن ألغى وعيى بمصيرى وبطبيعتى، وتمنيت أن تكون لى كرة ثانية أرجع فيها إلى أصلى حتى ذرة التراب وأقدم تعهدا ممهورا بكل الضمانات أن أتوب توبة نصوحا ولا أحاول الخروج عن طوقى ثانية على شرط ألا أتذكر ما كان أبدا، لكن من أدرانى أنى لن أصاب بداء الحياة وأنا كتلة من طين سرعان ما تتجرأ فتدب فيها الحياة فأسير نفس المسيرة عبر كل السنين لأصل فى النهاية إلى نفس ضياعى.
لا لن أرجع إلى أصلى إلا إذا قـُــدِّمت لى الضمانات بعدم تكرار ما حدث، أما أن أذوب إلى ذرات تكفيرا عما كان ثم أنظر فإذا بجلدى يحددنى إنسانا مرة ثانية فهذا هو الجحيم ذاته، .. أذوب ذرات وأتجمع هيكلا لأذوب ذرات ثم أتجمع إلى ما لا نهاية لا وألف لا، يفتح الله.
حاولت أن أرجع إلى موقفى الساخر العابث الذى أنقذنى من الجنون والضياع، ولو فى الظاهر، ذلك الموقف الذى سمح لى أن أواصل سيرى طوال هذه الفترة بين الناس دون أن أكتشف أو أفضح لم أستطع، كلما خطر ببالى تعليق ساخر تذكرت نظرات والدى وغضبه فأنكمش فى خجل مفتقدا التحدى الذى كنت أحدثه به.
يزحف على كل وعيى هذا الشعور الجديد الثقيل الذى لم يعرفه أحد، حزن له شكل آخر، أذكر أننى شعرت بشىء يشبهه من عشرات السنين، تكاد رائحته تأتى من بعيد وكأنه هو ذلك الثقل الذى يكاد يوقف نبضات القلب، ينسحب إلى كيانى فى عصر أيام الجمع أيام المدرسة الإبتدائية حين أتذكر أن غدا هو السبت منقوع الزفت اللزج بكل همه وغمه وقسوته، كيف تمضى الساعات حتى بداية الحصة الأولى من يوم السبت اللعين، كيف يجثم الموت على نفسى بلا أمل فى الخلاص بقتله أو بقيام القيامة، ثم ينزاح رويدا رويدا بعد الحصة الثالثة ليحل محله تسليم مقهور، ثم تبدأ النشوة تداعب مشاعرى عصر الأربعاء انتظارا لشمس الخميس المشرقة ليتوقف الزمن عصر الخميس حيث كل شىء مسموح به، لكن المصيبة الكبرى تعاود الظهور عصر الجمعة حيث أكتشف أن الزمن مازال يمضى، تمضى الأيام ويزداد وعيى بقدوم السبت قبل أوانه وتعود مشاعر الغم تزحف رويدا رويدا حتى تلغى كل بهجة الخميس وتصبح حقيقة “السبت” قائمة كالقدر فى كل وعيى طول أيام الأسبوع لأن أى يوم لابد أن يلحقه يوم “سبت”ما، ولو بعد حين، حتى يوم السبت ذاته كان – وما زال- له سبت تال.
يرهقنى وعيى بالزمن والأيام وأنا أستسلم لقهر القدر، ما فائدة الوعى يالأيام ما دامت نهايتى دائما سبتا حزينا مثل برميل النفط يغرق فيه الأطفال، مات شعور الحزن الزاحف حين مات الوعى بالزمن تحت وطأة اليأس والتسليم، فما الذى أرجعه إلىّ هكذا وأنا راجع من البلد؟ كيف بدأ؟ وكيف تطور، !! ليس هو لكن ثمة صلة.
أتذكر حديثى مع أبى فى قبره، ما زلت لا أستطيع الجزم أنه كان فى قبره إلا إذا استطعت الجزم أنى أنا كنت خارج القبر، كلتا الحقيقتين تتبادلان بلا يقين، الشى ء الذى استطيع الجزم به هو أننى لم أستطع أن أتخلص منه، بعد الزيارة ظلت كلماته تغرينى وتدعونى وتتحدانى وتهددنى وترعبنى فى آن واحد، بعد الوليمة الدسمة التى ساعدت فى هربى بالنوم الطويل صحوت لأجده ينتظرنى، هذا الشعور الثقيل المتضخم فى بلادة وكأنه يزحزح الهرم الأكبر ليجثم على وعيى أنجح أن أدفعه قليلا حين أتذكر أن الزيارة انتهت وأنى سأتخلص من آثار والدى وكلماته إلى الأبد لأكمل حياتى الخاصة ولو متفرجا ساخرا، وتمضى بضع ساعات فوق الأرض إلا أن جحافل الحزن تعود زاحفة مرة ثانية ويزداد ثقلها تدريجيا حتى تجثم على صدرى بلا أمل فى فكاك، ثم تبلغ قمتها وأنا أقترب من بيتى.
ثقل رازخ على قلبى ثقل حقيقى لا أعرف كيف أسير به حيث يرزح على كل خلية فى كيانى، هل هذه هى النهاية؟ هل هذا جزائى؟ لقد تخلصت منه طفلا بإلغاء وعيى به وبغيره، ثم ها أنذا أواجهه ثانية بعد يقظتى اللعينة، ماذا فعلت لأنال كل هذا الجزاء، وكيف أكفر عن ذنبى الموهوم حتى الكلمات تتباطأ فى فكرى وكأنها قد قدت من صخر الجرانيت الأسوانى؟ أكون الفكرة وكأنى أنقش على الحجر، هل آن الأوان أن يتوقف عقلى ويتخلص من هذه التناقضات برمتها؟ أين سخريتى اللاذعة وموقفى المسرحى وكوكبى الخاص؟ أين كل هذه الأفكار التى صحبتنى وأنقذتنى شهورا طوالا حتى حسبت أنى أكتشف الحل السعيد وأنى أستطيع أن استمر هكذا إلى ما لا نهاية؟ ثقل ثقل ثقل، حتى نـَفَسى يدخل إلى صدرى فى بطء وكأن للهواء وزن، ويخرج منه فى تراخ وكأنه يحتاج مروحة كهربية لطرده، ثقل ثقل ثقل، كل شى ء بطئ بلا موت ولا حياة ولا أمل ولا حتى يأس فعال.
فتحت البنت الباب فربت على خدها وكأنى أراها لأول مرة هل أشفق عليها مما أنا فيه؟ هل أودعها بلا عودة؟ هل أكفر عن ذنبى؟ أشرق وجهها بالبشر لهذه اللفتة غير المتوقعة دخلت أجر ورائى “الزيارة” حتى ركنتها فى ركن خلف الباب ومضيت أطمئن زوجتى على صحة أمى حتى لا أتعرض لما لا أطيقه الآن من استفسارات دورية وأنا فى هذه الحال سألت عن الأولاد وتسلمت الإجابة ممهورة بالتوصيات والصبر الجميل.
ذهبت زوجتى تعد الحمام كما تعودت بعد هذه الرحلات حيث أرجع عادة محملا بالأتربة والحشرات، ولكنها لا تدرى بما عدت هذه المرة، لم أعترض رغم شعورى بأن هش ذبابة هو عبء فوق طاقتى كنت آمل أن ينزاح عن صدرى بعض اثقاله مع تراب البلدة وحشراتها، دخلت الحمام وبدلا من أن أستعمل الماء الدافى ء المعد وجدتنى أفتح الدش البارد لعلى أفيق بعض الشى ء نزلت على جسدى المياه كالثلج ارتجفت بعض الوقت ثم بدأت أتعود الماء، تسرى فى جسدى وعقلى يقظة خفية آمل أن تتزايد وتستمر، لم يستجب لى صنبور الدش وأنا أحاول إغلاقه فأخذ يلف بلا انقطاع .. تذكرت عم محفوظ .. واستقيظ فى وجدانى أمل بعيد سوف أستدعيه على الفور ليصلح الصنبور وأشياء أخرى إن أمكن.
* * *
دخلت عليه وقد انهمك فى عمله واضعا صندوقه الصاج بجواره ووجهه مشرق بضياء لا تخطئه عينىّ محتاج.
- مساء الخير يا عم محفوظ.
- مساء النور يا سعادة البيه.
- كيف حالك؟.
- رضا والحمد لله.
- كيف حال الأولاد يا عم محفوظ؟
- بخير والحمد لله.
كل شى ء رضا وخير والحمد لله كيف أفتح معه الحديث الآخر؟ ماذا يقول عنى …؟ لن أتراجع على أى حال وليكن ما يكون.
- أريدك فى كلمتين يا عم محفوظ.
- تحت أمرك يا سعادة البيه.
- أفضل الذهاب إلى حجرتى حتى لا يسمعنا أحد.
تعجب الرجل ولكنه تبعنى فى صمت.
جلست على الأريكة العربية وحاول أن يجلس على الكرسى المقابل فدعوته للجلوس بجوارى على الأريكة حتى أحس بالاقتراب منه، طال الصمت، بدا أنه لا ينوى أن يقطعه.
- أنا فى أزمة يا عم محفوظ وأعرف أنك رجل طيب وأطمع فى مساعدتك.
- أنا يا سعادة البيه؟ ربنا يستر عرضك.
هل يقفل على الطريق بهذه السرعة؟
- أزمة حقيقية يا عم محفوظ.
- أنا رجل على قدر حالى ولا أنسى أفضالك علىّ، “مصاغ” زوجتى هو كل ما أملك وهو تحت أمرك حتى تفك أزمتك، والله يسترنا ويسترك.
هذا الرجل، … هذا الرجل: هذا الرجل، لم أستطع أن أتمالك نفسى ووجدت دموعى تنهار بلا مقدمات نظرت إلى الباب لأتأكد أنه مغلق، وانسابت دموعى أكثر فى صمت، انزعج الرجل أول الأمر ثم أخذ يربت علىّ بحنان بالغ وقد أشرق وجهه بنور لم أر مثله، كدت أميل على صدره وأجهش بصوت عال لولا خوفى من الآثار المحتملة خارج الحجرة.
- الدنيا بخير يا سعادة البيه، المؤمن مصاب.
كدت أقول له أنى لست مؤمنا ومع ذلك فأنا مصاب مصيبة سوداء ولكنى تراجعت ليس لمجرد خوفى منه أو عليه ولكن لأنى لم أكن واثقا هل أنا مؤمن أم لا، … نظر إلى طويلا ومازالت الدموع تنهمر على خدى وكأنها تستغيث به أكثر، لمحت فى عينه دمعه تتدحرج فخجلت من نفسى وتذكرت بلا مناسبة نظرة والدى الحادة، توقفت عن البكاء وقد غمرتنى راحة لم أشعر بها منذ سنين.
- المسألة ليست مسألة نقود ياعم محفوظ.
بدت على وجهه ظلال الدهشة ولكنها لم تحجب النور المشرق من دمعة لم تنزل. قسمات وجهه الصبوح تحتوينى فى طياتها، أكملت حديثى بشجاعة أكثر.
- المسألة أنى لم أعد أعرف كيف أعيش، وأكاد أجزم أنى لا أستطيع الاستمرار،
قال لى فى يقين كامل…
- كفى الله الشر، إخز الشيطان واستعن بالله…
- كيف يا عم محفوظ، كيف أستعين بالله، ياليتنى أستطيع.
صمت الرجل وأخذ يفكر بجد، حمدت الله أنه لم يتماد فى نصائحة وإرشاداته، كان أقصى ما يمكن أن أتعرض له هو أن ينتهى الموقف ببعض الدعوات والأيات، ظل مطرقا يفكر فى هم حقيقى، أحسست أنه يفكر معى وأنه وصلته حكاية “كيف” هذه، شعرت أنه يعرف “كيف” ولكن تعوزه الكلمات، ساد الصمت المملوء بتبادل المشاعر فترة لا أعرف مداها وتمنيت أن نستمر هكذا إلى مالا نهاية، هذا هو غاية الوجود: أنا مع إنسان آخر نبضة بنبضة دون ألفاظ أو استعلاء ولا امتحان ولا نصيحة ولا علم، الآن أستطيع أن أموت دون ندم، كفكفت دموعى وتسربت ابتسامة هادئة إلى وجهى دون دعوة، أحسست أنى مثل طفل تأكد من أن أباه قد عفا عنه إلى الأبد، مازال عم محفوظ مطرق إلى الأرض وإن كان وجهه قد بدأ ينفرج عن رضا مشع وإشراق مضئ نظر إلى فى رحمة ورأى ابتسامتى البديعة فأشرق وجهه أكثر وكأنه دخل الجنة، قال فى يقين يكفى كل أهل الأرض.
- إن شاء الله.
اندفعت بلا تفكير أقبل يده فانزعج بلا حدود، وحاول أن يبتعد مستغفرا الله عدة مرات ولكنى صممت على تقبيلها، فقبل يدى بدوره.
عاد كل منا إلى موقعه، كنت حذرا فى تساؤل، وكان خجلا فى وداعة، الرضا السائد غلف كل المشاعر دون أن يحل محلها.
- لا تتركنى يا عم محفوظ.
صمت فى تقبل متواضع ولم يرد، أكملت أنا:
- أريد أن أزورك فى بيتك،
- تحصلنا ألف بركة، ربنا يخليك.
- ربنا يخليك أنت.
غلبه الخجل حتى لم يرفع عينه من الأرض ثم استأذن وانصرف بعد أن أخذت عنوانه.
***
لم أفهم ماذا حدث وكيف، لم أكن أتصور أن المسافة بين الناس يمكن أن تنمحى فى لحظات بلا خوف ولا حساب.، عم محفوظ يقبل يدى! يدى أنا! أنا أبكى على صدر حنانه؟ هل هى دعوات والدى أو رضا أمى بعد أن زرتها بعد غيبة طالت، هل آن الأوان لأمشى فى ضوء القمر… ثم تشرق الشمس؟ هل حدث ما حدث فعلا أو هو حلم عابر من أحلام الجوع والحرمان؟ ناديت أولادى وزوجتى واجتمعنا بسرعة جلوسا على السرير كما لم نجتمع منذ شهور أرسلنا البنت تشترى فولا سودانيا ساخنا، وأمضينا ليلة عامرة بالود والدفء والأمل…
***
أخذت أقطع الحارة إلى بيته وأنا متردد يراودنى الشك أننى سوف أكتشف أن ما حدث لم يكن إلا حلما، الحجارة التى رصفت بها الحارة متآكلة، بقايا الإنسان تملأ الطريق وحوانيت الخردة لم تغلق جميعها، وإن كان الصبية يجمعون قطع الحديد والتروس والصناديق من أمامها ليدخلوها إلى جوف المحل استعدادا للإغلاق، يحسبنى أصحاب الحوانيت زبونا يبحث عن قطعة غيار فيتلكأ الصبية فى جمع الأشياء ونقلها للداخل ولكنى أمضى فى طريقى أتطلع إلى أرقام البيوت التى اختفى أغلبها متبادلا معهم أحيانا بسمه اعتذار خجلة، سألت عن منزله ودلونى عليه بعد الدهشة، صعدت الدرج الحجرى المتآكل وأنا أدعو الله ألا أكتشف أنى كنت فى حلم، داخلنى خوف آخر: أن أفاجأ به فى بيته إنسانا آخر من الذين يستعملون طيبتهم فى أوقات العمل الرسمية، استبعدت هذا الخاطر- طيب- ماذا لو وجدته متزمتا مع أهل بيته وراء الأسوار؟ كان ينبغى ألا أبالغ فى تصويره بالصورة التى أريدها حتى أتجنب المفاجآت.
فتحت لى الباب سيدة بشوشة بيضاء أقرب إلى الامتلاء، ترتدى قميص نوم صريح متسامح، تربط رأسها بمنديل به ” ترتر” كبير الحجم مثل قسمات وجهها المنفرجة عن تلك الضحكة الموجهة فى غير تردد، الحمد لله، جاء صوته من الداخل فزادت طمأنينتى.
- مين يا زكية.
راحت الكلمات تزغرد فى حلقها.
- واحد بيه يسأل عنك يا أسطي.
تفضلتُ بناء على دعوتها الصريحة دون أن تنتظر الإذن من داخل، خفضت عينى بلا داع وأنا أمر خلال الدهليز الطويل وكان يغمرنى شعور بالامتنان والرضا ينتهى الدهليز بباب حجرة صغيرة فى آخره وباب حجرة أخرى على جانبه وكان عم محفوظ منهمكا فى إصلاح شى ء بين يديه تبينت فى ما بعد أنه راديو ترانزاستور (!!) رفع رأسه ليرى مـَنِ الداخل وهمَّ بالوقوف حين رآنى ولكنى لحقته لأجلس بجواره على الأرض، أخذ يحاول أن ينقل المسند الذى وراء ظهره إلى فى إصرار، جلست وكأنى أستظل بالسرير الحديد ذى القوائم السوادء التى ترتفع حتى تكاد تلامس السقف.
جاءتنى أصوات كوم “العيال” من الحجرة الأخرى واستطعت أن أتبين وسط الضجة كلمات من كتاب المطالعة مختلطة بآيات قرآنية وسباب من واقع الحال دون تداخل …
- أهلا وسهلا يا سعادة البيه زارنا النبى.
- إسمع يا عم محفوظ حتى أرتاح لا تقل لى يا سعادة البيه.
- أستغفر الله، ماذا أقول إذن.
- قل لى يا عبد السلام.
- يا خبر، …!!!،
- ألا تحب راحتي.
سكت قليلا ثم نظر إلى وكأنه يحتضننى بوجهه ثم ضحك بصوت رنان وقال وكأنه اكتشف الحل،
- أقول لك يا سيدنا، .
انزعجت وتساءلت: إلى أى طريق يأخذنى؟
- ما هذا يا عم محفوظ.
- أنت سيدنا والله العظيم وسوف ترى …
- أرى ماذا يا عم محفوظ، … ماذا جرى.
- كنت أكرم الناس لما نزل الماء الطاهر من عينيك وهذه كرامة الصالحين.
يبدو أنى أخطأت الطريق ثمة خطأ قد حدث ولابد من الإسراع بتصحيحه .
- أنت لا تعرفنى يا عم محفوظ، وكل هذا الكلام يربكنى ويخجلنى أنا ما جئت هنا إلا لأطمئن أن بيتك فى متناولى، وأنك لن تتركى ..
قال بلا تردد:
- يوم الهنا يوم شرفتنا، أنت لا تعرف مقامك.
(مقامى ماذا يا رجل؟! هذا الكلام لا يمكن أن يستمر وإلا فأنا عرضة لتصديقه)
تمنيت أن أصدق ما يجرى بشكل ما، فلربما يوجد تحت أكوام القمامة الممتزجة بالنفط شىء طاهر.
- يا عم محفوظ كفى هذا، كتر خيرك، أخبـرنى عن نفسك.
- أنا عال العال بحسك.
لابد من الإصرار، لن أدع الفرصة تفلت من يدى تحت وهم طهارتى السرية.
- جئت أحدثك عن أزمتى يا عم محفوظ.
- لا أزمة ولا غيره، هذا رضا رب العالمين، كل الناس الصالحين لابد لهم من أزمة وأزمات، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكى حتى تتخلل الدموع لحيته، أنت لا تعرف نفسك فلا تحط من مقامك لأن الله كـَـرَّمك.
- لست على يقين من أنه كرمني.
- الله كرم بنى آدم يا رجل لا تكفر بالله.
لم أعد أطيق هذه المفاجآت، أين أنا؟ وأين هو؟ ماذا لو علم خبثى وأطماعى؟ ماذا لو علم نزواتى وعجزى هذه الأيام؟ لماذا يقطع علىّ الطريق هكذا؟ جئت إليه ألتمس بركته فلم أجده إلا بعيدا عنى بقدر ما هو قريب من شى ء مما فى داخلى، ولكن من أين له أن يرى داخلى؟ أنا لا أعرف داخلى، لن أخدع نفسى فما أنا إلا كومة قاذورات.
الأطفال يتقافزون حولى، زوجته تتحرك فى سهولة ويسر، ووجهها يمتلئ بشرا كلما راحت أو جاءت وكأنها تكتشف فى كل لحظة معنى جديداً للحياة.
لن أستسلم، سوف أدافع عن قذارتى، أو على الأقل عن عماىَ.
- يا عم محفوظ أرجوك أن تسمعنى وأن تقدر موقفى فما جئت هنا إلا لألتمس رضاك وأتعلم منك .
- ما هذا الكلام؟ لماذا لا تنظر إلى نفسك؟.
- المصيبة بدأت حين نظرت إلى نفسى.
- إحساسى لا يكذب لابد أنك لم ترها جيدا.
- أرجوك إسمعنى …
بدا عليه الرفض ومع ذلك استمر فى ابتسامته المشرقة، قررت أن ألقى عليه ما يفيقه، حتى أتمكن من إكمال الحديث كما أريد.
- أنا لا أصلى يا عم محفوظ .
صمت قليلا ثم قال:
- .. هذا شأنك معه.
(لا أكاد أعرف معنى ما يقول)
- أخشى أن تكون قد أسأت فهمى.
- قلبى أحبـَّـك ولا أعرف غير ما أقول.
(أصرّر على التحدى سوف أتجاهل كل ما فات) أسأله مباشرة:
- لماذا تعيش يا عم محفوظ.
قال دون تردد:
- العيال أحباب الله ونحن نكسب ثوابا فى تربيتهم.
تذكرت “لمعى” و”جميل” أولاد نصحى افندى.
- كيف نربيهم، ولماذا؟
- حتى يملؤوا الأرض خيرا وبركة.
لن أصل إلى شى ء حتى لو حكيت له عن مقبرة “وادى الملوك” حيث يقيم نصحى وزوجته وأولادهما، أحسست أنى نسيت نفسى وكأننى أناقش الأستاذ غريب، قلت وقد بدأ الغيظ يتراكم داخلى:
- ولماذا يعيش من ليس عنده أطفال يا عم محفوظ.
- الأطفال ملء الأرض وأنت سيد العارفين.
لن أصل إلى شىء علىّ أن أحترم كل ما يجرى دون محاولة فهم، حاولت أن ألغى ما حدث ويحدث، لم أستطع بأى درجة، فقد هزنى كل حرف نطقه، لم أنجح فى استجلاب الذهول أو النسيان، حاولت تشويه الموقف فتذكرت بعض ما تعلمته من نصحى افندى، فلابد أن هذا الرجل يرى كل الناس مثله لا أكثر، لماذا لا يرى ضياعى وقذارتى؟ لعل له شيخا واصلا من أهل الله علمه هذا، هذا رجل هارب والسلام، لم ينجح كل ذلك أن يجعل وجهه أقل نورا وإشراقا هل يكون هذا هو الطريق.
تذكرت أبى فجأة، …
- هل تمسك “وِردا” يا عم محفوظ.
- لماذا الورد.
- لـتذكر الله.
- أنا أذكره ليل نهار، ما حاجتى للورد .
زادت حيرتى وتذكرت والدى وهو يتلو ورده اثنى عشرة ساعة فى اليوم طوال أربعين عاما، لم يغادر العبوس وجهه إلا لحظات معدودة، أين هو من كل هذا البـِـشْـر على وجه عم محفوظ؟ ولماذا لم يعرف والدى هذا الطريق رغم طول تـسبيحه؟ حتى حين ظهر لى من القبر كان مازال عابسا يتلو ورده الذى حجبه عن الناس، وكأن ما قرأه فى الدنيا لم يكفه فكان عليه أن يكمله فى الآخرة، كأن عليه أن ينقل عداد المسبحة إلى مالا نهاية قبل السماح له بدخول باب الرحمة، حيرتنى يا عم محفوظ الله يسامحك. من أين آتيك وكيف أفهمك.
- ليس لك ورد يا عم محفوظ فهل لك شيخ.
- رد بإصرار:
- قل شاء الله يا أهل الله.
- أعنى هل أخذت العهد على شيخ طريقة، .. هل تسلك مع السالكين.
- العهد عهد الله، ماذا جرى يا سيدى البيه؟ لماذا تصر على وصل العبد والله أقرب إليك من نفسك…
- من نفسى أنا أم من نفسك أنت، لا تظن كل الناس مثلك يا عم محفوظ.
- مثلى ماذا يا سيدى؟ ليس كمثله شى ء يا رجل، لا تكثر من التفكير، إعرف نفسك، ولا تقلل من قيمتك.
إعرف نفسك إعرف نفسك ماذا جرى لك يا عم محفوظ يا ليتنى عرفتها، إذن لما جئت إليك، لن يخدعنى كرمك وإلقاء البركة علىّ دون حساب، لابد أن أعرفك أنت أولا حتى أعرف نفسى .. لن أدعك تهرب منى يا رجل.
- وهل تخاف النار يا عم محفوظ.
- لماذا؟.
- نار الله للعصاة يا عم محفوظ
- وأنا مالى يا سيدنا؟
- لم ترتكب معصية أبدا.
- ربك غفور وهو عنى راض.
- من أدراك؟.
- طالما أنا راض عنه فهو راض عنى والحمد لله.
سكتُّ بعد يأس حقيقى من أن أهزه حتى يشاركنى أى مما أنتظره منه، أطرقت إلى الأرض وساد الصمت فترة نظرت فيها إلى نفسى؟ هل أصدق أن فىّ خيرا ما؟ أين كان مختفيا قبل ذلك؟ وأين هو الآن؟ هل من حقى أن أشعر به فعلا؟ وماذا لو شعرت به فصفعنى والدى أو بصق فى وجهى؟ هل يحمينى عم محفوظ بحسن نيته؟ يقينه هكذا يزعجنى ولا أعرف كيف أتخلص منه أو أشك فيه،
قطع علىَّ تفكيرى واضعا يده على كتفى فأحسست برعشة تتملكنى، صعبت على نفسى، قال فى حنان واضح وصدق لم أستطع أن أتجاهله:
- لماذا تشغل نفسك بكل هذه الأمور وأنت الخير والبركة، أنا أحبك ورأس سيدنا الحسين.
لم أستطع الاحتمال وأجهشت بالبكاء حتى علا صوتى، أقبل علىَّ يحيط بذارعه كتفى البعيد دون تردد، مال على يدى التى استراحت على ركبته يقبـلها وأنا فى استسلام ذاهل، شى ء فى داخلى يقترب فى تردد حتى كدت أصدق أننى “بركة”، ملكنى هدوء غامر ذكرنى بما عشته معه من قبل حتى عادت إلىّ نفس الصورة: “كأن طفلا تأكد من أن أباه قد عفا عنه إلى الأبد”،
حضرت زوجته تحمل أكواب القرفة ولم تفارقها الابتسامة التى استقبلتنى بها، يبدو أنها انتظرت حتى انتهى صوت النشيج الذى لم أجد حرجا فى أن أعلنه فى هذا المكان حتى لو وصل إلى أسماعها، هذا عكس ما شعرت به فى بيتى مع زوجتى، أخذت أحتسى كوب القرفة رشفة رشفة وأنا أتساءل: هل يكون علاجى بالحضور إلى هنا، أتلقى كل ما لا يوصف هكذا، كلما تعقدت الأمور.
نظرت إلى زكية ورأيتها جميلة جمالا آخر لم أره فى امرأة طول حياتى، نظرت هى إلى بود حقيقى وقالت فى إصرار.
- والنبى تدعو لى يا عم البيه.
قلت لها فى تسليم مضحك.
- ربنا يكرمنا جميعا، …..
غمرنى ما شعرت معه أن كل خلية من خلاياى قد استقرت فى موضعها، ومع ذلك فإن الأفكار ظلت تلاحقنى: هل يكون هذا هو الحل؟ هل نعيش لنربى العيال؟ كل العيال، فيملؤون الدنيا خيرا وبركة؟ هل نجد معنى للحياة حين نجد من يشعر بنا دون أن نخاف؟ إذا كان عم محفوظ قادرا أن يعيش كل هذا اليقين فمن أين لى بمثله؟ كيف أضمن بقاءه ولو بضع ساعات دون فكر يفسده أو يؤكده فيشوهه؟ كيف أتجنب الهجوم من كل ثغرة سواء كانت فكرة فى عقل غريب أم تحليل فى عقل نصحى أم نظرة من عين زوجتى أم تعليق من أهل قريتى؟ كيف يحمينى يقينى من عالم مجهول وأنا عـرضه لنهش الصقور والذئاب فى كل موضع كل ليلة؟ إذا كان عم محفوظ قد وصل إلى هذا اليقين لسهولة حياته أو نقاء فطرته فكيف أستقر أنا عليه وأنا على قمة بركان لا يهدأ إلا ليعاود القذف بحممه فى كل اتجاه بلا هدف؟ عم محفوظ لم يمرض ولم يذهب إلى أطباء ولم يسمع نصحى أفندى، ولم ير خيالا فى المقابر.
قلت أسأله فى آخر جولة …
- هل أنا مريض يا عم محفوظ؟
حمدت الله أنه لم يبادر باتهامى بالبركة والطهارة مثل كل مرة.
قال بعد تفكير:
- إيش عرفنى؟ لماذا تغلب نفسك بكل هذه الأسئلة.
- لقد ذهبت إلى أطباء وقالوا لى إنى مريض.
- القلب يمرض إذا نسى ذكره، وأنت لا تنسى ذكره، .. وعلى الطبيب أن يلزم اختصاصه.
ها هو يعاود اتهامى بالإيمان والبركة، لم أحاول هذه المرة أن أعاود ما سبق أن حاولت تذكره حول فسادى وعصيانى فواصل عم محفوظ كلامه:
- وسوس لى الشيطان مرة فعكفنى عن الناس والعمل أكثر من شهرين، ثم أنعم الله على برحمته فاستعنت بالناس على الشيطان فى نفسى، فأصبح يخاف منى ومنهم، .
ضحك من أعماقه حتى اهتزت أركان الحجرة،
قلت فى خبث:
- الآية ليست هكذا ياعم محفوظ.
- أستغفر الله العظيم.
- تعوذ بالناس من شر الوسواس الخناس.
- لا فرق بين الناس ورب الناس.
- الناس شر يا عم محفوظ.
- يا نهار أسود، ولا مؤاخذة الناس لا يكونون شرا إلا إذا ابتعدوا عن أنفسهم، عن خلقة ربهم، الناس الذين خلقهم الله على شاكلته هم الناس، وأنت سيد العارفين،
فرحت أنى استدرجته لهذه الغضبة رحت أتساءل: إذا كان الأمر كذلك فلماذا يترك عبد الستار النجار الناس فى بلدنا ليمشى فى حب الله؟ ولماذا تترك خالتى شلبيه الناس الأحياء إلى المقابر لتأتنس بالموتى؟ ولماذا كانوا ينهشون لحمى بمجرد أن أغفل ولو بضعة ثوان؟ أليس ناس بلدنا هم أقرب الناس إلى ما يقول؟ لابد أن فى الأمر سرا ولن أستطيع الحصول عليه منه الآن، وحتى إذا حصلت عليه فلن آمن إليه مادمت لا أعرف كيف يجى ء وكيف يذهب.
لم أستطع أن أتخلص من السكينة التى غمرتنى بالرغم منى، خفت منها، فترحزت قليلا، لكن ما بقى كان يكفى.
***
ذهبت إلى المكتب فى اليوم التالى بعد انتهاء الإجازة العارضة وما زالت الراحة تملؤ وجدانى رغم أن فكرى لم يكف على المناورة، استقبلنى الأستاذ نصحى بالترحاب حتى بدا الشوق فى عينيه، جزعت من هذا الاستقبال الحار إذ لم يعد عندى أى رغبة أو قدرة على مواصلة الحديث معه بأى صورة ولا لأى هدف.
اعتذرت له عن استدراجى للكلام بانشغالى بمرض أمى فلم يرتدع، ادعيت أن صاحبه نصحنى بأن أكف عن الكلام والتحليل والتفسير بعيداعن العيادة، نزل عليه هذا التحذير كالصاعقة إذ يبدو أنى كنت بالنسبة له “لقطة” يمارس فىّ هواياته الخاصة، بدا الشك فى عينيه وكاد يرفض، إلا أنه رضخ أخيرا بحماس كاذب.
- هذا هو الصواب بعينه وهو يدل على أنك وصلت إلى مرحلة متقدمة من العلاج،
- الحمد لله، كله من فضله.
- من فضل من؟.
خطر لى خاطر أن أتمادى معه هذه المرة بطريقة أخرى وكأنى ألعب، وكأنها تحية أهديها لعم محفوظ، قلت:
- من فضل الله.
حاول أن يخفى انزعاجه أو خيبة أمله فىّ، ولكنه لم يستطع الصمت فرد قائلا:
- هذه ألفاظ تعودنا عليها ومن الصعب التخلص منها، معك عذرك.
أعجبتنى اللعبة حتى رحت أبحث عن ذلك الجزء الذى زعم عم محفوظ أنه رآه فى بالرغم منى لعله يساعدنى فى إكمال الدور، قلت فى خبث:
- عذرى؟ عن آية ألفاظ تتحدث، .. يا نصحى افندى .
- فضل الله، .. الحمد لله…!!! كله من فضل العلم والمعرفة .
نسيت نفسى وقررت ألا أكف عن إغاظته جزاءا وفاقا لما مارس فىّ من “تحليل” تحملته طوال هذه المدة، قلت متحديا بلا اقتناع:
- طبعا، .. ولكن العلم والمعرفة من فضل الله.
قال فى انزعاج أكبر:
- أنت تمزح، ما هكذا يقول التحليل، ألم تناقش هذا الموضوع مع الاستاذ المحلل.
خشيت أن يستدرجنى إلى لغة التحليل مرة ثانية، فكرت فى الانسحاب، ولكنى كنت قد استغرقت فى اللعبة فاستدرجته أنا:
- لماذا تنزعج من ذكر الله هكذا يا أستاذ نصحى.
- هذه أوهام نضحك بها على أنفسنا حين لا نعرف أنفسنا.
- وماذا يمنع أن نعرف أنفسنا ونعرف الله معا؟
قال وكأنه يخطب:
- هذه خدعة التسليم للخرافة، هذا جهل لا يتناسب مع العصر.
زادت رغبتى فى إشعال حماسه الخائف فقلت بلا تفكير وكأنى أكمل كلامه فى سخرية أولاد البلد حين يدخلون لبعضهم “قافية”:
- والعصر، إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا، …
كاد يفقد وعيه، أحسست فى عينيه بالقاتل يطل فى إصرار حتى اختفت رقته الدمثة، وعجبت من حاله لأنى أراه لأول مرة بهذا الرعب والتشنج رغم تظاهره بالمعرفة العلمية التى تفسر له كل الأشياء، قال يحاول أن يلغى كل ما سمعه وأن يدارى خيبة أمله فى فى نفس الوقت.
- أنت تمزح.
انسحبت فى اللحظة المناسبة وإن لم تخل لهجتى من سخرية لم يلحظها.
- طبعا.
انصرف عنى فى أسف علىّ، وربما اختلط أسفه بشىء من الاحتقار لم يخففه زعمى أو اعترافى بأنى أمزح، تبدو أن خسارته فىّ كمجال لممارسة هوايته كادت تخل بتوازنه.
عدت إلى عملى وأنا أتساءل هل كان ردى عليه مجرد لعبة ورغبة فى إغاظته أم أنه خرج من ذلك الجزء الخفى الذى يزعم عم محفوظ أنه أنا، هل أنا مؤمن رغم أنفى ..
أقبلت على عملى فى هدوء وثقة لم أعهدهما فى نفسى منذ زمن طويل.
ترى إلى متى يستمر هذا الحال؟.
***
اقترب منى أسعد افندى كميل دون مناسبة فقطع على استغراقى فى العمل وسكونى الداخلى معا، .. ومع ذلك أحسست برغبة فى، أو قدرة على الحديث معه.
- أستاذ عبد السلام: سعيدة،
- صباح الفل.
- أنا ألاحظ علاقتك بالأستاذ نصحى منذ فترة وأحب أن أحدثك على انفراد.
- فى ماذا يا كميل افندى؟.
- أنا أعرف نصحى أكثر منك، .. وقد مر بظروف لا تعرفها.
ترددت فى السماح ولم أعلن الرفض صراحة لكنه التقطه ومع ذلك لم يردعه ذلك، استمر فى إصراره وهو يتلفت ليتأكد أن أحدا لا يسمعنا أكمل هامسا:
- هو رجل ملحد أفسدته عقده النفسية وقد سمعت طرفا من حديثكما منذ قليل، وأعجبت بقوة إيمانك.
- قوة إيمانى .! أنا.
- لابد أن نحارب الملحدين فى كل مكان.
- نحارب مـَـنْ يا أسعد افندى، .. ماذا تقول؟
- الملحدين، ..
- وكيف نعرفهم حتى نحاربهم؟ كيف نميزهم يا أسعد افندى؟
قلتها وكأنى خائف على نفسى، تعجب أسعد افندى من سؤالى وظهرت فى عينيه رغبة وعظية أكيدة أثارت فى نفسى الظنون والحذر، قال فى لهجة لا تخلو من استغراب:
- الملحد هو الملحد، .. يا أخى عجايب عليك.
الوقاية واجبة ضد الوعظ والإرشاد بالرغم من كل شى ء فأنا لم أحدد موقفى النهائى، كنت دائما أخاف من التسليم للإلحاد خوفى من الإيمان، قررت أن أنهى الموقف بسرعة خشية أن ينتهى بتصنيفى قبل الأوان، قلت فى بله فاتر:
- الملحد هو الذى لا يؤمن بالله أليس كذلك.
قال فى سعادة وكأنى أفتيت فى معضلة جديدة يبدو أنه استعاد ثقته بى.
- طبعا كل شرور هذه الأرض هى نتيجة لغضب الله علينا.
من أين ظهر لى فجأة هذا الواعظ فى هذا الوقت بالذات لقد رأى عم محفوظ شيئا فى داخلى لا أعرفه وقبل أن أتحسس طريقى إليه قفز لى هذا الخطيب المتحمس، لماذا لا يدعنى لفرصتى الجديدة؟ هل كتب على أن يعالجنى أو يهدينى كل هواة العالم؟ تفكيرٌ أبى أن يتركنى وكأنه يخاف أن أستسلم لسكينتى المتسحبة.
- وما العمل يا أسعد أفندى؟.
- الرجوع إلى الله، ..
ما أسهل الكلام وما أخفى الطريق سألته السؤال الخالد باهتمام بارد رغم مخاوف الجدل:
- كيف؟.
قال كأنه وجد ضالته:
- أنا أدعوك لزيادة دير فى الصحراء أتردد عليه عند الشدائد، وسوف تجد فيه الهدوء والمعرفة معا.
قلت وأنا أتذكر حارة عم محفوظ المظلمة ورائحة بيته الرطبة:
- فى الصحراء.
- نعم فى الصحراء.
- ولماذا فى الصحراء.
- هناك حيث الطبيعة صامتة قوية تظهر الحقائق، ويتوارى الشك هناك حين يختلط الأزرق بالأصفر تهبط رحمة الرب على الأرض، فتغمرك بلا حساب.
ابتسمت دون شفقة، حاولت أن أفهمه وجهة نظرى ومخاوفى من أننى سوف أرجع إلى الطين والتراب والأتوبيسات والمكتب حيث يختلط الأسود والأبيض ليخرج منه هذا البخار المغبــر الرمادى الثقيل الأملس فيجثم فوق صدرى بلا حل، أحسست أننى أبتعد عنه، أو أنه لا يسمعنى، ندمت على أنى تماديت معه فى الحديث، ومع ذلك حفزنى حب الاستطلاع ورغبتى فى تأكدى من مزاعم عم محفوظ أو نفيها بأسرع ما يمكن أن أغريه بالمضى فى وعظه وإرشاده، مع أن خوفا انتحاريا كان يدفعنى للهرب من الراحة واليقين، أيا كان المصدر، استمر أسعد أفندى وكأنه لم يسمع حرفا.
- أنت تعقـد الأمورعلى نفسك يبدو أن طول عشرتك للأستاذ نصحى قد علمتك التفلسف، أنا أخشى عليك.
واصلت اللعبة برغبة أكيدة فى الهرب بعيدا عما لوح لى به عم محفوظ، كنت أحس أن عم محفوظ ربما يكون قد سرقنى إلى منطقة منى دون أن يستأذننى.
- وهل يوجد هناك، فى الصحراء ناس من أمثالى.
- الناس يزورون الدير يوميا، والصلوات تقام باستمرار والقداس لا ينقطع.
- ولكنى مسلم.
- المسلمون الذين يزورونه أكثر من المسيحيين، رحمة الرب تعم الجميع .
بدأت شكوكى القديمة تعوق فكرى وتحول دون التمادى فى المحاورة، هل هى دعوة تبشيرية؟ هل هو استدراج نحو مصلحة شخصية؟ أسعد أفندى مرؤوسى ونصحى أفندى رئيسى يتنافسان فى علاجى بنفس التعصب والحماس. حين تستقر العقائد يتشنج اليقين وتدمغ الفتاوى، استغرقت فى تفكيرى حتى قطع أسعد الصمت بسؤاله:
- هيه ماذا تقول.
تذكرت رغبتى فى التخلص من آثار زيارة عم محفوظ فتحمست وقررت أن أمضى فى هذه اللعبة الجديدة، ماذا يضيرنى لو مضيت معه متفرجا، لعل ذلك ينقذنى من أثار إغارة نصحى أفندى، وحدْس عم محفوظ معاً.
قلت له فى غموض متعمد:
- لقد بحثت عنه فى الخلاء بين المقابر ولم أجده، ثم تخايل لى بعد ذلك واحدا من الناس البسطاء ولولا إصراره على أنى أنا شخصيا بركة، لحسبته حل اللغز،
نظر إلى مذهولا وكأنى لا أتكلم العربية ففرحت فى نفسى ، سأل بانزعاج مترقب.
- هه؟ ماذا تقول يا أستاذ عبد السلام؟
تراجعت بسرعة هذه المرة، كانت الرياح المتربة الثقيلة تعاود الهبوب على عقلى كالعاصفة:
-… الخلاء يرعبنى وأنا لا أجد راحتى إلا بين الناس، زدنى إيضاحا.
- أرواحنا تحتاج إلى الغسيل بين الحين والحين،
لم أتمالك نفسى وعدت إلى طعنه حتى يدعني:
- بلا أدنى شك، .. ولكنى أفضل الحمام التركى حيث البخار والناس والدفء والصابون أبو ريحة.
بدا واضحا أنى خيبت أمله بتطاولى فى السخرية فحاولت أن أرشوه وأسكته فى نفس الوقت، أكملت:
- وبالناس المسرة يا أخى ..
أشرق وجهه فى غباء حتى انفرجت أساريره وكأنه قد هدانى أخيرا إلى آية من كتابه، وفرحت بالخلاص.
***
أخذت أصعد الدرج وأنا أتراوح بين راحة أول أمس الغامضة وثقل رياح خماسين الأفكار والجدل، ثم فجأة تصفو سمائى دون مبرر.
أنا أسير فى طريق لم أسع إليه عن قصد، منذ قالها أبى فى المقابر: “ترجع إليه دون تردد” والمصادفات تقودنى إلى بدائل لم تكن فى حسبانى يوما، هل هى مصادفات فعلا؟ أطرق بابا فلا يفتح وينفتح على باب آخر لم أطرقه، لكننى حين أدخل منه لا أجد شيئا وراءه إلا الفراغ يلوح لى فى عينى عم محفوظ فأنظر فى نفسى أبحث عما حركه داخلى بيقين لم أستطع إنكاره فأجد أسعد أفندى قابعا ينتظرنى ليصحبنى إلى الطريق الصحراوى، ثم تهب رياح خماسينية فتكاد تعصف بكل شئ.
سمعت وقع أقدام خلفى وعرفت صاحبها فتباطأت حتى لحقت بى تبادلنا التحية بشوق فاتر تختلف أسبابه عند كل منا، اقتربنا معا من بابى فدعوت نفسى لا صطحابه دون استئذان لأشرب كوبا من الحلبة الحصا، أضمرت أن أقتحمه دون تردد لأعرف موقعه منه، بدا أنه التقط نيتى لكن نظرتى المتصنعة الود لم تسمح له بالتراجع فاتجهنا إلى شقته مباشرة وهو يتمتم بما لم أتبينه وإن كنت تصورته يقول إنه لا يخشى شيئا أو أن هناك من ينتظره، لست متأكدا.
طرق الباب فتعجبت لأنه لم يستعمل مفتاحه مثل كل مرة، من يا ترى بالداخل؟ أنا لم أعهد عنده أحدا قط، فتحتْ لنا وبدت كأنها لم تستيقظ بعد، ومع ذلك استقبلتـنا فى ترحاب ناعم رغم آثار النعاس خـُـيـِّـلَ إلى كأنها تعرفنى من قديم أخذت تسوى شعرها الأشعث وتدعك عينيها وتكاد تتمطى، قطعت كل ذلك بضحكة قوية وكأنها قررت أن تصحو أخيرا لتكتشف الدنيا فى شخصى لم تبد على غريب أية مشاعر وكأننا لسنا على باب بيته، قدمنا الأستاذ غريب لبعضنا البعض بإيجاز شديد، مجرد ذكر أسماء، ثم ذهب إلى المطبخ مباشرة وكأن الأمر لا يعنيه، ضحكت المرأة مرة ثانية وخيل إلى أنها غمزت لى بعين واحدة غمزة لم أفهمها، دخلت إلى حجرة النوم دون استئذان ثم عادت بعد قليل وقد جمعت شعرها تحت منديل رحب، جلست بجوارى مباشرة فى هدوء حاسم، سألتنى دون تردد:
-……. صاحبه؟.
- لا.
دهشت للإجابة لحظة.
- حضرتك يعنى لا مؤاخذة من، أقصد يعنى ….
كدت أتذكر لحظة بداية الزلزال – نفس السؤال – يلقى بشكل آخر- ضحكت وأجبت وكأنى أجيب الأخرى كاتبة تحصيل إيصالات الكهرباء.
- أنا عبد السلام المشد .
ضحكت حتى خيل إلى أنها لن تكف عن الضحك وكأن مجرد ذكر اسمى يدعو إلى ذلك:
- تشرفنا، …
اضطررت أن أكمل دون دعوة:
- جار الأستاذ غريب، أنا أسكن هذه الشقة المقابلة.
- أنت زوج هذه السيدة التى كانت بالشرفة.
- تقريبا ..
- تقريبا أو أحيانا، .. انتبه فالفرق مهم.
- أنا زوجها والسلام، وإن كنت الآن لا أعرف لهذه الكلمة معنى …
- يبدو أنك تتفلسف مثل صاحبك، أنا أحاول أن أتـَـوِّبـَـه عن هذا، .. والعقبى لك
لم أفهم ماذا تعنى تحديدا أحسست بانقباض حين تذكرت الهدف الأصلى من الزيارة أردت ألا أفوت الفرصة.
- ليس تماما نادرا ما نلتقى، وقلما نتبادل الآراء إذا التقينا.
قالت وقد أشارت بيدها محذرة .
- يبدو أن تبادل الآراء تمنع تبادل أشياء أخرى أهم.
منعت نفسى من أن أتمادى فى الشك إلا أنى جزعت من لهجتها على أى حال.
حضر غريب وكان الصمت قد ساد إلا من طرقعة لبانة تلوكها فى فمها تحاول أن تخفى بها مشاعرها الأخرى التى أحسست فيها بطيبة حقيقية، لم تنجح فى التنكر لها.
جلس غريب يفرغ الحلبة فى الأكواب ولم أتردد فى فتح الحديث الذى جئت من أجله كنت قد قررت من البداية ألا أؤجله بعد أن فوجئت أنه ليس وحده، قلت وكأننا وحدنا، وكأننى أكمل حديثا سابقا مع أننى لم أفتحه أبدا، قلت فجأة.
- هل شغلتك مشكلة ” الله” يا غريب.
نظر إلى فى ريبة وربما فى استهانة ولكن ” صفية” انبرت وكأن السؤال موجه لها قائلة:
- سوف أحج إلى بيته بعد أن أتوب على شرط أن أكون قد انتهيت من بناء الدور الثانى حتى آكل من إيجاره، … كل طوبه فيه بحبة من عرق هذا الجسد،
لم يرد الأستاذ غريب كما لم يعترض ولا بتعبير وجهه، يبدو أنه أراد أن يترك النقاش يستمر بينى وبينها حتى يلتقط هو أنفاسه ويستعد بالرد، أو أنه كان قد قررالعزوف عن الرد تماما.
قلت لها:
- خيل إلى فى أحد مراحل مرضى أنى دخلت الجنة فلا حاجة للانتظار.
لم أنتبه إلى أننى أعلن سرا دون داع إلا حين قالت المرأة فى دهشة.
- مرضك كفى الله، الشر أنت مثل الحصان، تستطيع أن تجر عربة كارو محملة بالنساء الذاهبات إلى القرافة، ولا تعتق واحدة منهن.
حاولت أن أرضيها ببسمة شكر حاسمة، واستدرت إلى غريب ألح فى السؤال،
- ماذا تقول فى وجود الله يا غريب .
قال بعد أن أدرك إصرارى العنيد:
- هذه مسألة انتهيت منها من زمان، وهى لا تستأهل أن أضيع فيها دقيقة بعد ذلك،
- ماذا تعني؟
- لا تضيع وقتك، وابحث عن الحقيقة.
- خيل إلى فى الأيام الأخيرة أن البحث عن الحقيقة أصعب من البحث عن الله،
- الحياة لا تقاس بالأسهل والأصعب، ولكن بالأنفع والأهم.
- الأنفع، … الأنفع لمن، ..؟ ومن الذى يحدد المهم من الأهم؟.
- الأنفع للناس،
ما أخبث الألفاظ! كل الكلام متشابه و لا أحد يعرف ماذا يعنى.
- كيف؟.
أطرق طويلا ثم قال:
- هذا ما أحاول البحث عنه.
- أين.
- هنا، ..
وأشار إلى مكتبته المكتظة بالكتب كيفما اتفق.
- الحقيقة…؟ والله…؟ وما ينفع الناس؟ نجد كل ذلك بين صفحات الكتب!!! هل تصدق نفسك يا غريب.
انتظر مدة أطول وكأنه يراجع نفسه بلا يقين:
- لابد أن نبدأ من هنا.
قالت صفية التى كانت تتابع المناقشة باهتمام وشغف لا تفسير لهما وقد علت وجهها نفس البسمة التى تصاعدت إلى ضحكتها القوية:
-… يا جماعة لابد أن نبدأ من هنا.
وأشارت إلى موضع ما.
* * *
انتظروا “الفصل الثامن” السبت القادم
“رق الحبيب “
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من ثلاثية “المشى على الصراط” الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط