نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 10-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3935
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
رجعت إلى بريد الجمعة الماضى، ووجدت أغلب التعقيبات هى على ما نشر من رواية “الواقعة”، فقررت أن أواصل نشر فصولها تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) مؤجلا مواصلة عرض ما تيسر من النقد المقارن بين “لحس العتب” لخيرى شلبى و”قنديل أم هاشم” ليحيى حقى.
مرة أخرى
أنا آسف
*****
نشرة اليوم
الفصل السادس: (رواية “الواقعة”)
الجزء الأول: من ثلاثية “المشى على الصراط”
“الزيارة”
- “سيدى عبد ربه يا سيدى”.
هكذا أعلنت ” البنت” قدوم ابن خالتى من البلدة على غير انتظار، أدخلته فى حجرة الجلوس، وبعد التحيات والأشواق الحارة من ناحيته، والردود الفاترة المخجلة من ناحيتى ساد صمت أحسست فيه بأنى متهم لابد أن يدافع عن نفسه، ماهى تهمتى على وجه التحديد؟.
- خيرا إن شاء الله!!؟.
قال فى وضوح بلا عتاب مباشر.
- والدتك تريد أن تراك يا عبد السلام أفندى، هى لم تطلب ذلك صراحة إلا أنها دائمة السؤال عنك وقد زاد انشغالها فى الفترة الأخيرة حتى حكت لى حلما شغلها،
ثار فضولى ولكنى لم أجزع،
- وكيف حال صحتها يا عبد ربه؟
عظمة كبيرة، والأعمار بيد الله!!
لم يكن لدى دافع واضح يدفعنى أن أزورها فى المدة الأخيرة منذ حدث ما حدث، حتى أنى لم أدعها لقضاء بعض الوقت بين الأولاد مثلما تعودنا كل عام، هل هذا أيضا من ضمن الأعراض، أو أنى اكتسبت صفات النذالة العصرية تحت حجح المرض والفلسفة الجديدة؟ ربما كان السبب هو اللامبالاة التى أغرقتنى حتى هامة رأسى، أو هو الفرار المستمر من كل من يقترب، وهاأنذا أفر منها ومن غيرها منذ نفخ فى الصور يوم حكاية إيصال النور، مضيت أسأل فى حماس خال من العواطف و الأشواق:
- هل هى مريضة يا عبد ربه؟ يبدو أنك تخبئ شيئا ..
لعنت نفسى بكل لغة حين تذكرت أننى لم أزرها من زمان، بل إننى لم أتذكرها أو أحن إليها منذ كان ما كان.
- حالتها ليست خطيرة، ولكل أجل كتاب.
أنت لا تعلم يا عبد ربه ما هى الحالات الخطيرة فى الحياة، ولا “معنى” لكل كتاب أجل.
- خير يا أستاذ، هل سمعتنى؟؟
- طبعا.
- إن شاء الله خير، ..نراك عما قريب، أستأذن.
تصرفت تصرفا عصريا ربما تعلمته من زيارة بيت نصحى أفندى، تركته يخرج فورا دون دعوة إلى الغداء، وجعلت أهمهم بغمغمات ظهر من بينها “ربنا كريم” “وربنا يستر”، عبارات تصلح لكل المناسبات، نظر إلىّ عبد ربه نظرة كلها عتاب مكتوم، شممت منها رائحة مباراة العودة على أرضه فى البلد.
* * *
اقترب القطار من البلدة، حاولت أن أسترجع مشاعرى التى كانت تغمرنى حين كنت أذهب إلى هناك كل مرة فلم أشعر بشىء يذكر، لم تتغير البيوت ولا الأشجار، ومازال فؤاد افندى “الأشرجى” يلوح ببقايا راية خضراء، مئذنة سيدى علوان تنتظر الوعود السياسية والاشتراكية بترميمها، لا تنبض فى خلية واحدة بذكريات الطفولة، أين راحت أحاسيس الشوق لأشياء لا أعرف كيف كنت أشتاق إليها زمان؟ لماذا؟.
ترى كيف سأخفى هذا التغير عن أهل البلدة؟ مازالت نظرات عبد ربه تتخايل أمام عينى، لقد نجحت فى التمثيل والتخفى فى المدينة لأن كل واحد من أهلها يمضى فى حاله، لا تشغله إلا نفسه، بل إن كلا منهم يرحب بتمثيل وكذب الآخرين عليه حتى لا يتبين تمثيله هو وكذبه هو، أما هنا فما أعنف صوت الرفض وما أسهل إعلانه باستنكار مثل لذع السياط، اخترعوا لذلك ألفاظا لا أستطيع تصويرها إلا هكذا “إيهههيييه”!!!؟، أنا لا أعرف لفظا يعطى هذه الموسيقى التصويرية مثل هذا النغم، فهو يحمل مزيجا من العتب، والاستنكار، والرفض، والتهديد والتعجّب معا، كما أنه يحمل فى نفس الوقت قدرا من السماح بالتراجع الفورى، شىء أشبه بالإنذار الدبلوماسى العنيف قبل إعلان الحرب.
فى بلدنا لا تملك إلا أن تكون متيقظا طول الوقت وإلا انهالت عليك التعليقات صراحة، أما إذا كنت أصبتَ بعض المكانة الاجتماعية (كأن أصبحت أفنديا بماهية، أو امتلكت طينا، أو بيتا ذا دورين بعد عودتك من السعودية أو ليبيا) فإنهم ينتظرون انصرافك على مضض لعقد ندوة خاصة بتقييم تصرفاتك وتحديد ما جرى لك، “كونسلتوا مجانا” ثم إنهم يصدورن أحكامهم بالتشخيص والتصنيف دون النظر إلى العلاج من فرط احترامهم للواقع – هكذا أخذت أفسر طباعهم فى خوف وحذر – وعليك بعد ذلك أن تدافع عن نفسك أو ترشوهم، أو تهرب إلى غير رجعه، وستفشل فى أغلب الأحوال، ويستمر لدغ السياط معك بغير توقف أينما كنت.
لا بد أن أستجمع كل قدرتى على التمثيل والتحايل فأنا مقبل على اختبار أصعب من اختبار المحلل النرويجى، وطبيب الأعصاب، ونظرات سيادة المدير، المصيبة هنا أنك لو فشلت فى الامتحان مرة، ولو بمحض الصدفة، فلن يشفع لك بعد ذلك أى تكفير أو نجاح لاحق، هم لا ينسون أبدا، بمجرد أن تقع حادثة جديدة أو غريبة مهما كان نوعها تصبح علامة زمنية يـُـؤَرَّخُ بها لعدة سنوات حتى تقع حادثة أكبر وأغرب، تاريخهم يحكى أنه: “من ساعة جواز الواد معوض بالولية أم شلبى، أم السبع بنات!! – أو “من يوم ما ضبطوا ابن ابراهيم الاكتع مع الحمارة” إلى آخر هذه الحوادث التى قد تحدث كل يوم، ولكن ما يؤرخ به هو إذا تميزت بإعلانها فى جـُـرسة، أو كانوا متحفزين تجاه صاحبها (ربما لاسباب لا تتعلق بالحادثة ذاتها)، أما إذا كانت الحادثة ذات صفة يمكن أن تلصق بصاحبها فقد تتغير الأسماء وتتولد فروع عائلات جديدة، بأسماء جديدة، نتيجة لهذا الحادث العابر، لا أحد يستطيع أن يمنع هذا التفرع العائلى بأى قوة كانت، عائلة “أبو خروف” كانت أصلا من عائلة النبراوى ولكن أحد أفرادها سرق من صديق له خروفا صغيرا من غنم أبيه وذبحه فى المرعى وحاول أن يأكله كله قبل عودته من الحقل بعد أن شواه فى “الراكية” فأصيب بتخمه وكاد أن يروح فيها، منذ ذلك اليوم واسمه أبو خروف، وأولاده أولاد أبو خروف، أما أحفاده فقد تكونت منهم بذرة العائلة الجديدة “عائلة أبو خروف” وكاد الناس ينسون أنهم أصلا من عائلة النبراوى، كثير من الأسماء التى تسمعها ظهرت إثر حوادث عابرة توقف عندها زمن القرية يوما، ثم اكتسبت شرعيتها تلقائيا، جعلت أسترجع بعض الأسماء التى لا أعلم حكاية نشأتها على وجه التحديد ولكنى تصورتها بخيالى الخائف، يا ترى ماذا فعل أجداد “على الـدُّهـُـلّ” و”سيد الاهطل” و”زكى فرقع” ليكتسبوا هذه الأسماء الدالة، تزيد دقات قلبى وأستجمع قواى وأدعو الله أن أرجع للقاهرة وأنا مازلت عبد السلام المشد، أنا لا أعرف ماذا كان يشد جدى الأكبر حتى سموه المشد؟ مهما كان أصل الاسم فقد تعودت عليه وأنا لا أريد تغييره عن طريقهم، صحيح أننى كدت أتنازل عنه لموظفة شباك تحصيل الهكرباء، لكننى متمسك به الآن تماما لأسباب مشروعه، قريتنا لا تقبل هذا الكلام الفارغ الذى يسمح لأحد أن ينزلها بغير اسم وكنية ومعالم، أدخلها وأنا متمسك بعبد السلام المشد مائة فى المائة ولومؤقتا، ولا أريد أن أعود منها وأنا عبد السلام “المـِـنـَـزِّلْ” أو عبد السلام “أبو هـَـفَّـهْ”، أو عبد السلام عَـقـْـلبَالـُه، أشعر بمدى تمسكى باسمى حين أحسست أن أحدا يمكن أن ينتزعه منى، مع أنى كدت أنفصل عنه حتى الجنون حين أحسست أنه مفروض علىّ.
كلما اقترب القطار من المحطة فى سرعة يسبقها حمار العمدة زادت دقات قلبى خوفا من المجهول، لم أكن هكذا أبدا، ماذا ينتظرنى هذه المرة؟ هكذا؟
كنت أذهب إلى بلدنا فأحس بالأمان والهدوء، أنا لا أحس الآن إلا بالخوف والحذر، لم أعد أستطيع أن أسمى ذلك الشعور القديم أمانا، يبدو أن كل ما كنت أستطيع الحصول عليه هو أن أنسى نفسى فى كتله البشر المتداخلة، كنت أضيع راضيا حين لا يهتم أحد بمن أكون مستقلا عن الكتلة البشرية، أهل بلدنا لا يعنيهم من تكون بقدر ما يعنيهم أنك”ابن من” وربما سألوا عن خالك واكتفوا، أما أنت، فمؤجل البت فى أمرك طول ما أنت حى، اختلف كل شىء هذه المرة، لا أنا أشعر بالأمان القديم، ولا أنا أريده، ولا أنا أريد شيئا آخر، كل ما أريده هو أن أعود بأسرع ما يمكن إلى لعبتى الجديدة، هذا “الزلزال” أيقظنى أم أماتنى؟! إذا كان أيقظنى فلماذا كل هذا التفكير؟ وإذا كان قد أماتنى فما كل هذه اليقظة والنشاط الذين يمارسهما عقلى الداخلى الذى أصبح مثل الكاميرا التى تلتقط كل التفاصيل، وأحيانا يكون مثل آلة العرض التى تسترجع كل التفاصيل فى تجسيد بشع، أين أهل بلدى من هذه الزلازل والبراكين؟ هل تحميهم كتلتهم، وعنادهم، وتسليمهم، وقسوتهم، وتسامحهم، من الزلزلة والأسئلة؟ حتى أرضهم ملساء وديعة لا تثور ولا تغضب، وغاية احتجاجها أن تتكاسل بعض المواسم عن الإنتاج، فلماذا زلزلت أرضى أنا برغم أنى منهم؟ لا، لم أعد منهم، لست متأكدا،هل أجد إجابة محددة بعد هذه الزيارة؟ هل أنا ما زلت منهم؟ أم أننى لم أكن أبدا منهم؟ هم أيضا لهم زلازلهم، هم ليسوا الأرض التى أفرزتهم، علاقتى بالطين أقوى وأرسخ، راجع إليها بشوق غير تبلدى تجاههم، سوف أسألها مالها؟ هل ستحدثنى عن أخبارها؟ هل تفتح لى صدرها لأحدثها عن أخبارى؟…
وقف القطار فى المحطة التى تقف فى مكان ما بين دار خالتى أم عوض ومنزل حضرة الناظر، نزلت وكلى حذر ويقظة أتحسس طريقى إليهم وكانت آثار مطر غزير قد أحالت الحوارى إلى مستنقعات ومعاجن من طين يخترقها “مِدقَ ” قد مهدته أرجل الناس والماشية وسط هذا المستنقع الطينى بطريقه تطمئن الإنسان على مستقبله، كان شكل المدق مثل الثعبان الملتوى – دون تفسيرات قضيبية يا عم نصحى – وقد خيل إلى أنه الثعبان الذى كان يحفظ جثث قدماء المصريين بعد الموت، هو يمر أمام الدور فتمتد ألسنته وأحيانا أرجله إلى داخلها بطريقه تتحدى الفناء وتنتظر البعث،
لم أقابل كثيرين أثناء سيرى وقد استقبلنى من يعرفوننى بالسلامات والهمهمات وحين كان أحدهم يصر على أن:
- تفضل.
فأرد كالآلة:
- الله يحفظك.
- تفضل.
- الله يخليك.
- تفضل.
- الله يكرمك.
ثلاث مرات لا تزيد ولا تنقص، كنت أتساءل هل هو يعنيها فعلا؟ وماذا لو تفضلت لمجرد ممارستى لهوايتى الجديدة فى معرفة معانى الألفاظ واختبار إمكانية تحقيقها؟ سوف يستقبلنى أيهم فى تساؤل، ثم فى حيرة، ثم فى شك حين يكتشف أنى تفضلت لمجرد أنه قال تفضل !! ألفاظ مع وقف التنفيذ.
* * *
دفعت باب منزلنا بعد أن سلمت على خالتى أم عطية الجالسة على المصطبة المقابلة، باب دارنا لا يغلق إحكاما أبدا ليلا أو نهارا – ليس لفرط الأمانه المنتشرة بين أبناء بلدنا ولكن استنادا إلى الميثاق غير المكتوب الذى يضع المنازل من المناطق المحرم فيها السرقة، البيوت مكان مقدس، حتى عند اللصوص، أما الحظائر فهى عرضة للسرقة من غير أهل القرية، لكن الزراعات، باستثناء الحدائق، فمسموح فيها بالسرقة لملء البطن فقط وليس للتحميل إلى البيوت، قانون واضح وتفصيلى يعرفه اللص المحترف، واللص الجائع، والهواة من الشباب الجدد فى “الكار”، دفعت الباب- وكنا بعد العصر- فأصدر أزيزا طويلا طويلا ظل يطن فى أذنى حتى وصلت إلى “المقعد” أعلى السلم، جاءنى صوتها من فوق كما اعتدت دائما، ..
- مييييـ ……ن؟
كان ممطوطا كالعادة وكأنه يكمل أزيز الباب.
لم أرد وإن كان قد غمرنى مزيج من الطمأنينة والسخط والخجل معا لأنى تأخرت فى زيارتها، أحسست بخجل أكبر لأنى حين فعلتها الآن جئت “هكذا”، هل يمكن ألا ترانى “هكذا”؟ صعدت الدرج الطينى الملتوى، وتعجبت كيف أنى لم أسقط من فوقه ولا مرة وأنا صغير، بل إننى لم أخف منه أبدا، فى حين أنى أخاف منه الآن حيث تبينت – ربما لأول مرة – أنه ليس له حاجز جانبى.
كانت جالسة أمام باب المقعد على الحصيرة فى مواجهة قرص الشمس المزمع على الرحيل وقد نشرت قميصها أمامها مستغرقة فى النظر إليه، وكأنها تبحث بين نسيجها عن شىء ذى بال، ربما عن حشرة تبحث عن الأمان بين طياته.
- مين؟؟
قالتها هذه المرة بطمأنينة الواثــــق من صاحب وقع الأقدام على السلم.
- أنا يا أمى؟
كادت تقفز من جلستها المتعبدة فى قرص الشمس، همت بكل جسمها ثم ارتدت ثانية كأنها عدلت عن رأيها وعادت إلى السكون المتعبد، تقدمت منها، وانحنيت على ركبتى وحاولت أن ألثم يدها، لمحت دمعة تترقرق فى عينيها فاهتز كيانى بمشاعر بعيدة عميقة غير قابلة للوصف، مشاعر لا يمكن تتبع أصلها فى تاريخى القابل للتذكر، مشاعر تأتى من خلف كل شئ، وكأنها موجودة قبل كل شئ، وبعد كل شئ.
- خير يا عبد السلام يا ابنى أين أنت؟ وكيف حال العيال.
- يقبلون يديك،
ساد العتاب الصامت فترة حتى ملكنى خوف مبهم.
- خير يا أمى، كيف حال صحتك أنت؟
ردت وكأنها لم تسمعنى، لم أستطع أن أتبين بوضوح ما قالت، كان ظل دمعة يترقرق فى عينيها، فيتهدج صوتها.
- الحمد لله أنى رأيتك، الله يرحمه ويحسن إليه.
لماذا تذكره “هو” كلما رأتنى أو ذكرتنى !؟
- هل أنت بخير يا أمي؟ … شغلنى عليك “عبد ربه”.
استمرت فى حديثها المتصل الذى يكاد يتجنب الرد أصلا على ما أقول أو أسأل.
- العفو عند صاحب العفو، ……
لم يكن هناك مجال للاستمرار، تحاملت على نفسها وقامت تتلوى من فوق الحصير، ذهبت لتوها تنادى أم عطية لتساعدها فى الإمساك بدجاجة تعد لى بها وليمة العشاء دون انتظار، تعبير عيانى مباشر عن الترحيب والحنان، كأنها بذلك تلقمنى ثديها لأرتوى، داخلتنى طمأنينة ما، فتوقفت عن التفكير، سررت من هذا التحول وأحسست بسكينة تتسحب إلىّ حتى أنى لم أعد أحتاج إلى ذلك التفكير المستمر الذى كان يساعدنى على الشعور بالوجود، لم تعد الألفاظ فى متناول عقلى الساخر، داخلنى شعور فاتر بالذنب وكأنى طفل نسى نفسه فى اللعب فطالت غيبته حتى جاء وقت الحساب، انقلبت السكينة إلى شعور بالعجز، تمنيت لو أنى ما جئت، تمنيت لو أغمض عينى وأجد نفسى فى القاهرة حيث الوحدة والفرجة والسخرية تملأ الحياة باللاشئ، أعظم فرصة للوحدة تجدها وسط المحيط البشرى المجهولة شواطئه، كنت أحسب أنى أبحث عن معنى بسيط متسق، وها أنذا أصاب بالخزى وأشعر بالعجز وأود لو أهرب لما تصورت أنه فى متناول يدى، هل هذا هو المعنى الذى أبحث عنه فعلا؟ وماذا أفعل بوعيى بكل ذلك؟ يبدو أن المعنى يكون بسيطا حين لا تعيه أنه كذلك، كان يمكن أن يكون هذا المعنى هو أعظم صور الوجود لو أنى غير واع به.
ماذا تعنى حياتها أصلا؟ كيف تمر عليها الساعات وهى تتعبد فى قرص الشمس أو تطارد حشرة ضالة، أو تبحث فى قميصها عن سر الحياة وهدف الوجود؟ ترى هل ينبغى أن نبحث فى أشيائنا بمثل هذا الاهتمام الجاد بدلا من البحث فى عقولنا بلا جدوي؟ هذه زيارة من نوع آخر، كنت أحضر هنا قبل ذلك لأقبـّل يدها وأسمع دعواتها وآخذ ما تيسر من خيراتها، وأعرف كم ربحت من هذا المشوار على وجه التحديد بعد خصم أجرة القطار، أما الآن فأنا أواجـَـهُ بشىء جديد تماما، أطلع على نوع من الحياة يدعونى لأن أعيد النظر فى كل شئ، أنا لا أنظر إليها هذه المرة على أنها أمى، تبدو لى كأنها إحدى آلهة الإغريق التى لم تكتشف حتى الآن، إلهة العناد مثلا تتحدى أى عبث يخطر ببال أمثالى من الضائعين، فضلا عن أمثال الأستاذ نصحى أو حتى الأستاذ غريب من النازحين من بلاد الحضارات الحديثة، هى تتمسك بالحياة بقوة عنادها الإلهى، ..حتى لو كانت حياتها كلها بلا معنى، المعنى هو فى مجرد عنادها للبقاء على قيد الحياة بدون هدف مفهوم إلا صراع الموت إلى آخر لحظة، هل يمكن أن أجرب أن أترك نفسى “هكذا” مثلها مثل عباد الشمس؟
ربما وجدت الحل الحقيقى هو فى أن أعود نباتا متواضعا، “كل من انفصل عن أصله، ..يطلب أيام وصلهً، لا أعرف أين ومتى قرأت أو سمعت ذلك، أدخل إلى داخل حجرة “المقعد” أفتح الدولاب القديم الذى أخاف عليه فى كل مرة افتحه فيها أن يكسر، وهو يأبى فى كل مرة أن يصاب بأذى رغم أصوات القرقعة المهددة، أخلع قميص الكتاف من يدى وقدمى وأرتدى صديريا، أرتبك وأنا أحاول أن أحكم رباط أزراره المائة (هكذا خيل إلي)، أرتدى جلباب أبى وأخرج باحثا عنها فلا أجدها، اسمع صياح الدجاج فى العشة واستنتج أنها مختفية بداخلها تحاول الإمساك بالدجاجة وحدها بعد أن تأخرت عليها أم عطية، أسمعها تحدث الدجاج فى ألفة واعتذار، الدجاج يقفز من حولها صائحا فى احتجاج وثورة، أنتظرها حتى تخرج ممسكة بدجاجة سمية بنية اللون تحاول التخلص من يدها بعنف فلا تستطيع، تبادل الدجاج بعض الهمهمات المعتذرة المختلطة باللعنات على أم عطية التى لم تحضر حتى الآن، ترانى منتصبا أمامها فى جلباب أبىّ، تبتسم فى سعادة وحب وكأنها تراه “هو” وليس أنا، يمر على خاطر من الغيظ مع الرضا فى نفس الوقت – دائما “هو” وليس أنا، يدب فيها النشاط وتتغير نبرة صوتها وتمضى تدب فى الأرض وقد علت وجهها حمرة خفيفة كأنها تخجل من ذكرى تدغدغ مشاعرها ……..
- يرحم الله الناس الطيبين …
أدعها تجتر ذكرياتها السعيدة فى السر ..
- أنا ذاهب يا أمى.
- لا تنسى أن تزوره، يرضى عنك ..
- طبعا.
لم أكن أنوى أن أزوره، فقد جئت لزيارة الأحياء مضطرا، فما بالك بالموتى، إن كان ثمة فرار فأنا أفر منه أكثر مما أفر منها رغم أنه غائب فى التراب.
فرارى منه لا ينتهى، وحاجتى إليه لا تهدأ.
خرجت إلى الشارع وفى عقلى سؤال واضح أريد أن أحدد بإجابته مصيرى “هل هذا هو مكاني؟ هل أجد الحل هنا؟”
بدا لى لأول وهلة أن الناس يعيشون هنا بتوافق أكبر، وأن هذه المصائب المرضية التى سماها الأستاذ نصحى “علامة حضارية” لا وجود لها فى هذا العالم المتماسك المتناغم، أخذت أنظر إلى المواشى، والناس وهى عائدة إلى دورها تسبح فى سحابة من الغبار تطمس المعالم بين الإنسان والحيوان فلا تميز بينها إلا بانتصاب القامة وعدد الأرجل، يقفز إلى عقلى جواب حاسم عن السؤال: “نعم، هذا هو الحل، ..”، لأول مرة منذ نزلت من القطار يقفز عقلى الآخر فى تحد يسأل “هذا” ماذا؟ رعبت من هذه اللهجة القديمة التى يضطهدنى بها كلما اقتربت من حلٍّ ما، كان يرد على الأستاذ نصحى دائما بنفس الطريقة، كلما قال “أصبحت هكذا”، يرد عليه بلا إبطاء “هكذا ماذا”؟ هذا العقل الخبيث يحطم كل شىء قبل أن يبدأ، أعرف أنه ليس حلا ولا يحزنون، لكننى كنت أريد أن أستمتع بهذا الاحتمال رغم يقينى بخطئه، لم أرد على عقلى الآخر وأجّلت المشاحنة، أحاول أن أذوب فى وسط سحابة الغبار وكتلة الحيوانات والبشر، لم أستطع، انسلخت بإرادتى وتوجهت إلى دكان البقالة الذى يجتمع حوله الناس بعد العشاء وطلبت علبة بلمونت صغيرة وأنا أحاول أن أجرجر خالتى شفيقة إلى الكلام …
- خير يا عبد السلام أفندى، أين أنت يا رجل يا طيب؟.
لماذا يصرون على هذا السؤال؟ هل بدأت ملامحى تفشى السر، ..الحمد لله أنهم يسألون “أين أنت”؟ ولا يسألون “من أنت”؟ ولو حصل، لولـيت هاربا بلا رجعة.
- دنيا يا خالتى شفيقة.
- كان الله فى العون.
أخذت السجائر ومضيت فى طريقى ووجدتنى أتجه إلى المقابر رغم قرارى الأسبق، واكتشفت أنها مكان معقول لقراءة الفاتحة وفاء بوعدى الصامت لأمى، من المفيد أن يمضى بعض الوقت حتى ينفض تجمع الناس على البوابة فأتجنب عددا من العيون الجاهزة للرصد والحكم، وحتى -أيضا- تنتهى أمى من إعداد الدجاجة.
* * *
للمقابر عندى معان مختلفة حسب الظروف والهدف من الزيارة، فهى: العيد والبلح، والطيارة الورق، والمراجيح، أو هى العفاريت والظلام والأرواح والجان، أو هى عذاب القبر وحساب الملكين، أشعر هذه المرة بمشاعر جديدة، أشعر أنها ليست مقابر يسكن فيها الموتى، ولكنها شكل آخر من أشكال الحياة، كأن الحد الفاصل بين الحياة والموت قد اختفى عندى حتى اختلط بعضهما ببعض فأصبحت أحس بأنى فى وادى الملوك عند الأستاذ نصحى، فى حين أنى فى مساكن الذين عرفوا الحقيقة وبخلوا علينا بها وأنا أزور المقابر.
توجهت إلى قبره مباشرة وأنا أفتقد أية مشاعر مثل الشوق والحنين مثل أيام زمان، حتى الرحمة لم أترحمها عليه، أحسست أن الحكاية مستمرة بشكل أو بآخر ولا داعى لكل هذا الجزع لمجرد الجهل بهذه الحقيقة الواضحة: “الحكاية مستمرة”، صرفت المقرئين والعجزة الذين تعودوا أن يحوموا حولى كلما ذهبت إلى هناك لأنى لم أجد مبررا لوجودهم هذه المرة، نفحتهم المعلوم وكأنهم قاموا بالواجب المعتاد كاملا، أردت أن أختلى به ربما أعيد التعرف عليه فى هذه الظروف الجديدة، اقتربت من المقبرة وأخذت أدقق البصر حتى وجدته جالسا يمسك بمسبحته الطويلة ويتمتم بالوِرْد الذى لا ينتهى أبدا، يهتز أحيانا ويتصلب حينا وينتفض نادرا، ولكنه مستغرق فى دنياه الخاصة طول الوقت، ليست صورة رمزية نتيجة للتصور والخيال، وليست روحا تجسدت مثلما كنت أسمع فى حكايات الرعب، لم تخالجنى ذرة خوف، كنت متأكدا أن وجوده لاجدال فيه وقد تمثل لى حتى عشته بعمق ربما أكثر من أى وجود آخر يدعى الحياة لمجرد أنه يخرج أصواتا من فمه، كنت فى كامل وعيى أعلم تماما أن ما أراه ليس مجرد منظور للعين، كنت أحس أنه جزء منى أو من الطبيعة الكونية التى هى أنا أيضا بشكل أو بآخر، لا ذرة خوف ولا مجال للتساؤل عن طبيعة الأشياء، عجبت لهذا التحول الذى قلب كيانى فجعلنى أخاف من سلالم دارنا وكنت أقفزها ثلاثة ثلاثة وأنا صغير، وفى نفس الوقت أذهب عنى الخوف وسط المقابر والأرواح، وقد كنت أرعب لمجرد سماع سيرتها.
جلست على الأرض مسندا ظهرى إلى جدار قبره ونظرت إلى الأفق الرمادى، مازال هذا الوجود الحى متمثلا أمامى رغم أن ظهرى للقبر، قلت فى نفسى “أجرب أن أحدثه”، بدأ خوف آخر، خوف له مذاق آخر، بدأ من مفاصل أقدامى يصاعد إلى أعلى ثم توقف عند منتصف البطن، كنت قد تعودت هذا الحوار الساخر بينى وبين عقل بالى وسميته مرة التفكير الداخلى، ومرة أخرى تصورته وسواسا، ولكنى أتقدم الآن نحو مسرحيات حية متعددة الأشخاص، يقينى بحيويتها لا يدع مجالا للشك فى صدق ما يجرى، لا أملك أن أتراجع، ماثل هو أمامى، فلا مناص من الحديث،
سألته:
- هيه؟ هل يعجبك هذا؟
استمر فى اهتزازه وأشار لى بيده أن أنتظر حتى ينتهى من السورة التى يتمتم بها، حاولت أن أرهف سمعى فإذا به يقرأ “وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ” لم أحاول أن أدقق ولكنى ازددت خوفا، عدت أسأله :
- ماذا تريد بعد ذلك؟
وضع المسبحة فى جيب سيالته والتفت إلى:
- أنت السبب فى كل هذا، …. وكم نصحتك؟
لم أكن أتوقع بعد كل هذه السنين، وحتى وهو تحت التراب أن يستمر فى نصائحه ومعايرته لى بأننى السبب فى كل المصائب، سوف أتمادى معه حتى النهاية.
- وما العمل؟
- ترجع إليه بلا تردد.
تشجعت هذه المرة وقلت له:
- وأنت، ماذا فعلت بهروبك إليه؟
تلكأ فى الإجابة ووضع يده فى سيالته يعبث بمسبحته دون أن يخرجها.
- أستغفره، وأتوب إليه؟
قلت فى تحد:
- ذنوبك لا تنتهى عند هذا الحد؟
نظر فى غضب حتى تصورت أنه سيطردنى:
– رحمته وسعت كل شئ، وأنا أطمع فيها وهو راضٍ عنى.
- ومن أدراك؟
- ما أنا فيه.
- وماذا أنت فيه غير التمتمة والاهتزاز والاستجداء؟ هل عرفت شيئا عن أى شئ؟ هل تستطيع أن تجيب عن سؤال واحد من أسئلة الوجود؟ أم أنك احتميت بجهلك وخوفك، الأمور تغيرت والناس تريد أن تعرف.
- هذا تطاول لا يجلب إلا الضياع.
- وهذا عَمـَىَ، لا يجلب إلا الفراغ.
- ليس هناك سبيل آخر.
- أعلن عجزك وفشلك، ..نتفاهم !! هو الله الذى لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
مضيت فى حديثى وكأنى لم أسمعه تماديت فى السؤال.
- أين الطريق ما دمتَ واثقا هكذا؟
- الصور تختلف والسبيل واحد.
- تصر على أن أكون مجرد نسخة منك، وأن أمضى بقية حياتى فى التمتمة والاهتزاز.
- دعنى إذن، … واجن ثمرة تطاولك على ما لا تعرف.
(يعيرّنى بالضياع وسأعيره بالشقاء)
- وهل أنت سعيد؟.
قلتها بتحد حقيقى وشوحت بيدى وكأنى ألقى قنبلة يدوية، اهتز قليلا وعقد ما بين حاجبيه وظهر الألم على وجهه حتى كدت أبكى لألمه، ندمت على جرأتى وقسوتى، ولكن أساريره سرعان ما انفرجت بعد لحظات ليقول لى فى صرامة.
- أسعد منك على أى حال.
- أنا أعرف شقاءك فهل تعرف شقائي؟.
- كنت أتمنى أن تكون أسعد منى.
- هذا ما أحاوله، أنت لا تستطيع أن تتحمل عاقبة أمانيك، أنا أشك فى نيتك، ساعدنى إن كنت صادقا.
- كيف ترفض طريقى ثم تطلب منى العون.
- أنت نفسك تنتظر أن أجد بديلا.
تراجـَـعَ فى صمت وكأنه يخفى ألما بعيدا يشككه، و قال وكأنه يذكر نفسه لا يخاطبنى،
- أطلب العون من أهل العون.
- أنت لا تعرف من هم أهل العون.
– ولا أنت، أنا مستمر فى البحث عنهم، أما أنت فتوقفت.
– أنت تعايرنى؟! ومع ذلك أنا لا أكرهك، ..بل أشفق عليك.
- وأنا أدعو لك.
أخرج مسبحته من سيالته ونظر إلى الأرض وابتدأ فى الاهتزاز الرتيب من جديد، سمعته يقول فى ورده “قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شىء قدير”.
هل يدعونى للاستسلام إلى ما لا أعرف؟ هل كتب علينا أن ننتظر العزة والذل مغمضى العينين؟ هو نفسه لم يستسلم أبدا ومازال دائب السعى إليه – نظرت إليه فإذا به قد استغرق تماما فعرفت أنه لن يرد على مهما حاولت.
التفت إلى الأفق الرمادى فإذا بالسحاب الداكن يتجمع ليتعجل قدوم الليل، وحين رددت بصرى إلى حيث يجلس لم أجده، نظرت إلى جوارى فلمحت على مقربة منى كومة من الخرق الملونة القذرة، لم أكن قد لاحظتها من قبل ذلك، هممت بالانصراف ولكنى سمعت سعلة جافة ضعيفة تصدر من تحت كومة الخرق، انزعجت فى أول الأمر، ..إلا أن هذه الأماكن وما تحتويه لم تعد تزعجنى بقدر ما تزعجنى زيارة عائلية عادية، سعلت الكومة مرة أخرى فتأكدت أنها كائن حى، هززتها بلا خوف، اهتز جسمها وأخرجت يدها تهشنى بها مثل ما تهش أى حشرة تحاول التدخل فى حريتها، أو تبحث عن وجبة دسمة من دمها، لم أتراجع فهززتها مرة ثانية حتى كشفت عن وجهها فى غضب واشمئزاز، عرفتها، خالتى “شلبية الهبلة”، حاولت أن ترجع إلى تكورها تحت كومة الخرق فهززتها أكثر مناديا عليها باسمها، أزاحت هذه الكومة من على جسدها فظهرت من تحتها كما عرفتها طول عمرى، لم يتغير منها شىء أبدا، لا عمرها ولا وجهها ولا بقايا جسدها، … ولكنى أنا الذى تغيرت حتى استطعت أن ألمح فى عينيها معنى آخر للحياة …
- كيف حالك يامـّـه شلبية …؟
نظرت إلىّ طويلا وهى تحاول أن تتعرف علىّ، ثم أشاحت بوجهها عنى دون رد وكأنها عدلت عن الترحيب،
- أنا عبد السلام يا مـّه شلبيه ..
قلتها رغم علمى أن هذا الاسم لم يمر على سمعها قبل ذلك أبدا، فأنا لا أذكر أنها نادت أحدا باسمه مرة واحدة، ..
نظرت إلى ثانية وقالت:
- إن شا الله .
فرحت بردها، كنت أود أن أسمع صوتها بأى ثمن، حاولت أن أتمادى معها فى أى اتجاه:
- إن شاء الله ماذا يامه شلبيه؟.
نظرت إلى باستنكار ثم ضربت على صدرها بيدها عدة مرات صائحة، ..
- خلِّ الجدعان، خلِّ الجدعان، .. خلِّ الجدعان، ..
ومضت مسرعة بين القبور حتى اختفت عن ناظرى تماما، .. وكأنها دخلت أحدها.
* * *
رجعت إلى البلدة أجر قدمى ولا أحاول أن أسترجع شيئا مما كان، هل كل ما حدث هو داخل مملكتى الخاصة؟ أشعر أننى فى حالة بين الائتناس والحذر، مما جعلنى أشعر بأنى أكثر قدرة على مواجهة الفلاحين دون أن يظهر علىّ تغيير يمكن رصده، أحس أنى أعود إليهم ومعى سند قوى من لقائى مع أبى ومع خالتى “شلبية”.لم أعد وحدى تماما.
كان الظلام قد احتوى البيوت حتى لم يعد يمكن تمييز معالمها، زاد من طمأنينتى أن ملامح الناس – وبالتالى ملامحى – قد اختفت هى الأخرى فى هذا الرمادى الزاحف، عرجت إلى “البوابة” واخترت ركنا منزويا خلف الظلال المتراقصة، أصروا على أن أتوسطهم تكريما للقادم من مصر، بدأ يتوافد على الدكان بضعة نفر ممن أعرف ومن لا أعرف، كان العدد محدودا فقد فضل الباقون اتقاء البرد فوق الأفران المحمية، جلست وسط جو من الترحيب المعلن والتعليقات الهامسة، لم يخطر ببالى أى تفسير سيئ لهذه الهمهمات من خلفى لأنى كنت متأكدا أن النور الخافت يخفى ملامح وجهى، كما كنت أعلم أن هذه هى طريقة استقبال القادم من “مصر”، فما بالك بعد طول غياب؟ رجع إلىّ السؤال الأول “هل هذا هو مكاني؟ هل أجد هنا الحل؟” تطلعت فى وجوههم فى حذر فتبينت قفزات البسمات اللاذعة والتحدى، غمرونى بالأسئلة عن مصر وأحوال مصر، وكأن لى مصادرى الخاصة تزودنى بالمعلومات السرية، كان علىّ أن أجيب إجابات محددة، وألا أعتذر أو أؤجل تحت أى ظرف، حتى حين طلب منى ”رزق” المزين أن أوصى ناظر مدرسة الصنايع بالمركز على ابنه، لم يسمح لى بأن استفسر عن اسم الناظر تحديدا قائلا:
- دهدى، ..اسمه حضرة الناظر طبعا.
ولما سألته عن عنوانه قال فى دلال وعتاب، ..
- إيهييه، ..ماهو معكم فى مصر.
ولم أملك إلا أن أعـِدَهُ خيرا.
ابتدأت أحس بالاختناق من كثرة الأسئلة وطلب التوصيات من شخص عاجز جاهل وحيد مثلى، لم أشعر أن أحدا شعر بى منذ وصولى إلا شلبيه الهبلة، وأمى لبضعة لحظات، وأبى رغم عناده.
حتى فرصة التأمل الصامت لم يسمحوا لى بها، أستأذنت فى أول فرصة، وانصرفت مودعا بنظرات لا أعرف محتواها تفصيلا، ولكنها كانت كلها على حد إحساسى أحكاما، أحكاما، أحكاما تكاد تخترق ظهرى حتى كدت أجرى متجها إلى دارنا وأنا أتجنب أن ألتفت ورائى صائحا “والله العظيم ما عملت حاجة”، لم أكن أنفى الأحكام القاسية فقط، بل إنى كنت أرفض الأحكام كلها، وخاصة الحكم علىّ بأنى “رجل طيب!!”
- هل ذهبت لأبيك يا ابنى.
- طبعا يا أمى.
- روح يا ابنى الله يهديك ويزيح عنك.
كانت تروح و تجئ بنشاط بالغ وسعادة حقيقية، رحت أتعجب من هذه الحيوية التى دبت فيها، وكأنها ليست الهيكل المتهالك الذى استقبلنى قابعا تحت الشمس منذ ساعات، كدت أسألها “وكيف يهدينى الله وماذا يزيح عنى؟ إيش عرفك يا أمـِّـى بما بى، ياليتنى أعرف ماذا جاءنى بلا استئذان حتى أستطيع أن أزيحه عنى !، ياليت نظام نزح خزانات الفضلات يصلح لتخليص الإنسان من فائض أفكاره التى تطفو على عقله حتى تفسده، لا بد أن للعقل فضلات مثل الجسم، ولا بد أن نعرف طريقا للتخلص من الأفكار الزائدة التى لا جدوى منها فى الحياة اليومية، ولكن كيف لمثلى أن يعرف الأفكار الزائدة من الأفكار الضرورية؟ لماذا ترك لنا الحكم والاختيار فى محتوى العقل ولم يترك لنا الخيار فى مسائل الجسم، أكاد أجزم أننا لو كنا نخير فى مسألة وظائف الجسم والعقل ويسمح لنا بالتساؤل حولها بلا شروط إذن لتوقفت جميعها نتيجة لغرور الإنسان وسوء استعماله للحرية.
هذا ظلم لا يرفعه إلا الجنون، إما أن نوهب التفكير على قدر احتياجنا له أو قدرتنا عليه، وإما أن نوهب نظاما ما نفرز به فضلات أفكارنا، لو كنت أعرف ماذا تقصد أمى بدعوتها “يزيح عنك”، ولو كنت أعرف ما يدعو لى به أبى، لساعدتهما وساعدت الله على تحقيق دعواتهما، أنا لا أعرف ماذا أريد أن أُبـِقـْى وماذا أريد أن أدع، هل أريد أن اتخلص من عقلى بالي؟ وهو أقرب إلىّ من عقلى؟ هل أنا أريد أن اطمئن وأرضى، أم أن أعرف و أمضى.
* * *
أخذت أمى تنسق الطعام على الطبلية فى سعادة لا تخفى، ثم جلست أمامى على بعد قليل لا تشاركنى الطعام، هذه عادتها من زمان، الأكل عورة، ولكنها تريد أن تطمئن على أنى أتيت على الدجاجة المحمرة حتى آخرها.
فى هذه المرة لم أجد عندى شهية تتناسب مع إصرارها على ألا تتركنى إلا وقد مسحت آثارهها جميعا، حاولت أن اتحايل على أفكارى حتى أتفرغ لهذا الواجب ولكنى لم أستطع، فى أول الأمر نظرت إلى الساعة فتبينت أنها لم تتعد السابعة مساء، ياطول ما ينتظرنى من سواد الليل، هجمت على الوليمة أملأ بطنى بها، أخذت ألتهمها التهاما بلا رحمة وكأنى لم أنصرف عنها منذ قليل آملا أن تتخمنى فتخدرنى فأنام.
جمعت أمى بقايا الافتراس من عظام مهمشة، فى سعادة لا تتناسب مع طيبتها ورقتها،
* * *
خرجت فى الصباح التالى محملا بالزيارة التى كادت تنقطع بعد انقطاعى عن البلدة، وجلست أنتظر قطار الدلتا فى ركن خلف المقهى المكون من بعض جذوع الشجر المغطاة بأعواد القش والقابع فى مكان ما بين بيت حضرة الناظر ودار خالتى أم عوض، انتهزت فرصة غياب القطار حيث لا موعد له وأخذت أرتشف الشاى الأسود واسترجع السؤال فى هدوء “هل أجد هنا الحل”؟
كانت الحمير والجمال تمر على محملة بالسماد إلى الحقل، وبالتراب إلى الحظائر، يقودها الأطفال والرجال أو تقود هى الأطفال والرجال حسب موقعهم من بعض من أمام أو خلف، ملأنى الإعجاب بهذا العمل الدؤوب الذى لا يتوقف ليسأل “لماذا”، “أو إلى أين”؟ هذا الداء الوبيل الذى يستشرى فى خلايا العقل مع انتشار القراءة والكتابة والتلويح بأحلام أرضية،
تقدم منى شاب أشعت أغبر يخبط على صندوق الأحذية، تبينت فيه “زينهم” الذى كان آخر عهدى به صبى نجار، جلس تحت قدمى دون اسئذان وحيانى بترحيب حقيقى؟ ناولته قدمى فى استسلام وانتهزت الفرصة لأتبادل معه آخر حديث قبل أن أغادر القرية مهزوما تماما.
هل تركت الأسطى عبد الستار النجار يا زينهم !
- من زمان.
- وكيف حاله هو؟
- مشى فى حب الله.
- كيف؟ حدِّثـْنِى؟
- حدث ما حدث بين يوم وليلة، أصبحنا فإذا به ينادى أخاه ويسلمه العدة، ويوصيه بالأولاد، ويملأ مخلاته بالخبز الجاف، ثم يخرج دون سلام، منذ ذلك الحين لا أحد يعرف عنه شيئا، وإن كان يظهر أحيانا بالبلدة لبضعة أيام دون مناسبة، أو فى مولد سيدى الشيخ عمارة، وقد كثر الكلام ياسعادة البيه.
قالها وغمز بعينيه يستدرجنى لمزيد من التساؤل؟
- خير يا زينهم، ..أى كلام؟
- الكلام كثير، فمن قائل إنه عشق “الغزية” التى تحضر أيام المولد، ومن قائل إنه واصلٌ ومن أهل الخطوة، ومن قائل إنه يدخل البيوت يساعد النساء العواقر على الحمل، أرزاق يا سعادة البيه!!!
- كان سيد العاقلين وأنت خير من تعرفه يا زينهم.
- أحوال يا سعادة البيه، يدبرها سيدك؟.
إذا كان تدبير سيدى هذا هو التدبير الأمثل الذى يغرينى به كل ما يدور حولى فلماذا تصبح خالتى شلبيه الهبلة “هبلة”؟ وترفض هؤلاء الأحياء لتعيش بين القبور، ولماذا يسير عم عبد الستار النجار فى حب الله؟ ولماذا يقتلون كل من يشذ عن المجموع دون حيثيات أو مذكرة تفسيرية؟
التفتُّ إلى “زينهم”:
- وكيف حالك أنت يا زينهم.
أجاب وعيناه تلمع فى خبث الصياد حين تغمز سنارته.
- زفت كما ترى يا سعادة البيه، ربنا يتوب علينا، …
- من ماذا يا زينهم؟
- من البلاوى والغلب، ياليتك تجد لى عملا فى مصر.
صرخت كالملدوغ.
- فى مصر؟؟!!
- أيوه فى مصر، ..مصر أم الدنيا، .. وهل هناك أحسن من مصر؟
حضر قطار الدلتا فى دلال، وساعدنى زينهم فى حمل الزيارة إليه.
أخذت أنظر من النافذة والقطار يبتعد فى دلال أيضا عن البلدة.
ماذا أرجع به مع زيارة أمى؟
أنظر من النافذة ولا أستطيع، والقطار يزيد من سرعته التى لا تزيد، وأنا لا أستطيع أن أميز بين حيوان ونبات وجماد… وبين الناس.
* * *
وغداً “الفصل السابع”:
“وبالناس المسرة “
(إليس هذا أفضل لمن يريد أن يتابعنا..؟!)
أنا أسف.
* * *
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من ثلاثية “المشى على الصراط” الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط